أرشيف المجلة الشهرية

آل الأتاسي وأدوارهم السياسية منذ العهد العثماني حتى العصر الحديث (1 من 3)

د. باسل الأتاسي – العربي القديم

قد تتفاوت تعريفات الأسرة السياسية عند المؤرخين، فيرى بعضهم أن وصول أكثر من فرد في الجيل الواحد لمناصب سياسية كافٍ لإسباغ هذا الوصف عليهم، والحقيقة أنه قد ينجح فرد من أفراد أسرة معينة في دخول الساحة السياسية أو الإدارية، ثم يكون منصة لانطلاق أفراد آخرين من أقاربه في هذه الساحات، فلا يكون لهؤلاء لولاه من منقبة.  والأجدر ألا يطلق هذا المصطلح إلا على الأسر التي انغمس عدد من أعضائها في الشأن العام على مدى عدة أجيال، فشاركوا في صناعة الأحداث في أحقاب متعاقبة، فأنت تراهم يتنوعون في طرائق ممارستهم للسياسة أو في المناصب التي يعتلونها، كل بحسب ميزته.  ولا تستغرب إن تنوعت مشاربهم أو إن اختلفت ميولهم السياسية، فانتموا إلى أكثر من مذهب سياسي، بل إن هذا يجعل منها أسرة سياسية بامتياز، لأن كل واحد منهم تميز بمفرده، دون أن يكون عالة على من سبقه -إلى ميادين السياسة- من أقاربه، وانفرد عن الآخرين برؤيته وشخصيته.  

ومن الأمثلة التاريخية على هذا التعريف: الأسرة الأتاسية في مدينة حمص. فمع أن هذه الأسرة كانت لمدة ستة قرون تقريباً تتصدر المسرح الديني في مدينة حمص ومحطيها، إلا أني أزعم أنها مارست السياسة، ولو على النطاق المحلي، في نفس هذه المدة، حتى قبل أن يتحول العديد من أفرادها في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي إلى مناصب إدارية وسياسية بحتة. وفي هذه الدراسة سأقوم بإبراز الدور السياسي الذي لعبته الأسرة الأتاسية في العهد العثماني، وانتقل منها إلى تاريخها السياسي في العصر الحديث.

من الإفتاء إلى السياسة

 أقدم ذكر للأسرة الأتاسية كان في عام 854هـ (1450م) في مخطوطة نسخت خدمة للشيخ إبراهيم بن أحمد الأطاسي الذي كان إماماً لأمير التركمان في الشام في منطقة شيزر بالقرب من مدينة حماة. كان الشيخ ابراهيم بموقع المستشار الديني للأمير أو ما عرف في ما بعد بالمفتي.  ويبدو أن مشايخ الأسرة كانت لهم زعامة دينية واسعة في حماة وحمص وريفهما في ذلك الوقت، حتى إن أمراء المماليك أوقفوا عليهم أوقافاً عديدة، ثم أعفوها من الضرائب احتراماً لمكانتهم الدينية، فلما دخلت بلاد الشام تحت الحكم العثماني سنة 922هـ = 1516م أقر العثمانيون مشايخ الأسرة على أوقافهم واستمروا في إعفائهم من الضريبة، بل إن ضريبة أوقافهم كانت تدفع للخزينة من مال السلطان سليم الفاتح نفسه، وخراج بساتينه الخاصة، كما ورد في أرشيف الطابو العثماني. ولعل السلطة العثمانية حديثة العهد في بلاد الشام أرادت ترسيخ قدمها في المنطقة باستمالة الأعيان إليها، وخاصة الطبقة الدينية، وضمان ولائهم؛ الأمر الذي يُشعر بالهيمنة التي كانت تتمتع بها هذه الطبقة في منطقتها، وقدرتها على تسخير نفوذها في مآرب سياسية تصب في مصالح المنطقة وأهلها.  وبعيد دخول العثمانيين بلاد الشام ارتأوا تنظيم أمور الفتوى، فأوجدوا منصب الإفتاء، وخصوه برجل واحد في كل مدينة، وأضحى المفتي موظفاً مرتبطاً بجهاز الدولة وجزء من الإدارة المحلية، ورأيه أصبح معتمداً لدى القاضي الشرعي، وبذلك أصبح الإفتاء مؤسسة اجتماعية منظمة من أنماط الكوادر السياسية المرتبطة بالحكم والدولة.  في حمص اختير لهذا المنصب جد الأسرة الشيخ أحمد شمس الدين بن خليل بن علي الأطاسي بعد اجتماعه بالسلطان سليمان القانوني في مدينة حلب سنة 961ه = 1553، بمعية مفتي دمشق، العلامة عبدالصمد العكاري، الذي كان الأتاسي قد ارتبط بأخته بالزواج، كما ذكر المؤرخ ابن الحنبلي في در الحبب، ومنذ ذلك الحين والأسرة تتوارث هذا المنصب حتى يومنا هذا، حتى ولي منهم 19 مفتياً في حمص وحدها، واثنان في مدينة طرابلس، ولم يخرج من أيديهم إلا مرات معدودات.  وقد استمرت العلاقات بين البيت العثماني وبين الأسرة بعد وفاة السيد أحمد الأطاسي، فأقطع السلطان ابنه ومفتي حمص بعده، السيد محمود أفندي الأتاسي أراضي وبساتين في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، عرفت لعدة قرون، وحتى وقت قريب بـ”زور المفتي”. 

وقد يتساءل القارئ: وما للمفتي والسياسة؟ والواقع أن المفتي دخل باب السياسة المحلية من أوسع أبوابها، فكان بحكم موقعه في الإدارة المحلية واسطة العقد بين الأهالي وبين الحكومة، فلم يقتصر دوره على إصدار الفتاوى الدينية، بل لعب دوراً حيوياً في الشأن العام، حاملاً هموم الأهالي إلى الحكام المحليين بل وإلى الحكومة المركزية في الأستانة، وساعياً لهم في رفع المظالم وإيصال الشكاوى.  لذلك لم يكن غريباً مثلا أن مفتي حمص السيد محمد ابن مفتيها السيد أحمد ابن مفتيها السيد محمود ابن مفتيها السيد أحمد شمس الدين الأتاسي، قام برحلة إلى عاصمة الدولة العثمانية، الأستانة، سنة 1102ه = 1691م، مع مجموعة من أعيان حمص للاجتماع بالصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية) مصطفى باشا الكوبرلي من أجل شؤون الحماصنة، فاستغرقت رحلتهم هذه أشهراً أربعة، عانوا من أجلها أنواع المشقة.  وفي سنة 1108ه=1697م ترأس المفتي ذاته وفداً إلى حاضرة الولاية، مدينة طرابلس، لمقابلة الوالي أصلان باشا، وعادوا منها فائزين بعزل متسلم (حاكم) المدينة حيدر آغا الدندشي كما كانوا ينشدون. وقد أقدم هذا المفتي على أمر يدل على تمتعه بحس سياسي، لما قام بتزويج ابنته السيدة خديجة لزعيم النخبة العسكرية المحلية، إبراهيم آغا سويدان (توفي سنة 1121ه)، الذي تسلم حكم مدينة حمص عدة مرات في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري، في محاولة لإنشاء حلف بين النخبة الدينية المدنية التي كان هو على رأسها، وبين النخبة العسكرية، وقد نجح تماما في هذه المهمة.  وإبراهيم آغا هو زعيم أسرة سويدان آغا، وهي أسرة شريفة النسب من أصحاب الأملاك الواسعة، تمركز نفوذها في بلدة حسيا جنوبي حمص، ذات الموقع الجغرافي شديد الأهمية، الواصل بين أواسط وشمال سورية وبين مدينة دمشق والشام الجنوبي، والقابع على طريق قوافل التجارة والحج، فكانت تحكمها وما جاورها من مناطق، وإليها عهدت الدولة العثمانية بمهمة حماية الطرق من قطاع الطريق وهجوم العربان، وبذلك اختارت هذه الأسرة دخول التنظيمات العسكرية، بسبب الموقع الجغرافي، واستمرت على رأس هذا التنظيم أكثر من ثلاثة قرون.  

إلا أن هذا التحالف بين آل سويدان آغا، وآل الأتاسي سرعان ما فرط عقده بوفاة المفتي محمد الأتاسي، وتولي خلفه وابن عمه، السيد علي أفندي الأتاسي، منصب المفتي بحمص.  ولا نعرف سبب الشقاق الذي وقع بين الأتاسي وبين حليف الأسرة السابق، إبراهيم آغا وصهرها، ولكن مذكرات محمد المكي المعاصر لهما تذكر مواجهات حدثت بين الفريقين وتنافس على النفوذ وبسط السلطة،  إلا أن المفتي كان صاحب دهاء سياسي موصوف، فقد اتخذ له حليفاً جديداً من النخبة العسكرية، هو عبد الفياض بك الذي سبق له أن أصبح آلاي بك في حمص، وهو رئيس الكتيبة العسكرية المرابطة في المدينة، كما تولى حكم حمص عدة مرات. ويبدو أن اختيار المفتي له كان مناسباً لأنه كان منافساً لإبراهيم آغا، فقد عُزل فياض بك عن حكم حمص في أول ربيع الآخر سنة 1120ه بإبراهيم آغا الذي حل محله، فدُق إسفين الخصومة بين الاثنين.  وفي محرم من عام 1121ه (1709م) حرك المفتي النخبة الدينية لمواجهة إبراهيم آغا، فكان على رأس وفد -تكوّن أيضاً من قاضي المدينة ونقيب أشرافها وأعيانها- سافروا إلى طرابلس الشام، واصطحبوا معهم فياض بك لعرض عريضة شكوى ضد متسلم حمص إبراهيم أغا سويدان على الوالي أمير الأمراء محمد باشا، وقد استطاع المفتي تحريض الوالي على إبراهيم آغا، حتى إن الباشا قام بمهاجمة أراضي الأغا واعتقال رجاله، مما حدا بالسلطة المركزية إلى التدخل مباشرة لوقف الفتنة والحد من انتشارها، فصدرت المراسيم السلطانية إلى قاضي القضاة بطرابلس، بمنع التهجمات على إبراهيم آغا.  أدت هذه الأحداث إلى التعجيل في مصرع الأغا، الذي كانت وفاته بعد شهرين ونيف من هذه الأحداث (في ربيع الآخر سنة 1121ه) سبباً لوصول المفتي إلى الزعامة المطلقة للمنطقة.  وحتى يضمن المفتي استمرار سير الأمور في صالحه تزوّج أرملة خصمه السابق، ابنة عمه خديجة بنت المفتي السابق محمد الأتاسي، التي كانت والدة سليمان آغا نجل إبراهيم آغا سويدان، قاطعاً الطريق على احتمالات الثأر وتناقل النقمة.  هكذا استطاع آل الأتاسي توظيف المصاهرات لصالحهم، في خطوات لا يمكن وصفها إلا بأنها ممارسة للسياسة واستثمار للفرص.

وقد يعاني المفتي من الصعوبات ما يعانيه كل من أخذ على عاتقه تمثيل الأهالي والعمل في الشأن العام، واصطدامه بالحكام المحليين لا شك أمر محتم كان له ثمنه، ففي نهاية سنة 1123ه (1712م) قام كيخيا طرابلس بسجن الشيخ علي الأتاسي المذكور أعلاه في قلعة طرابلس، بعد أن قصدها المفتي ليتباحث أمر مال حمص مع واليها، ولكن سراحه أطلق، بعد أن توسط له بعض أعيان المدينة عند الوالي الذي لم يكن يعلم بحبس الكيخيا له.  وقد تكرر الأمر بعد سنوات لما اختلف مفتي حمص السيد إبراهيم ابن المفتي علي أفندي الأتاسي مع حاكم حمص وحماة أسعد باشا العظم (باني القصر الشهير في دمشق)، فتسببت وشاية الباشا للباب العالي بعزل الأتاسي عن الفتوى، وبدأت بذلك قصة تغريب المفتي الذي قصد الأستانة بعد فصله عن منصبه، ليعرض قضيته على المشيخة الإسلامية، المؤسسة التي أدارت الشؤون الدينية في أنحاء الإمبراطورية تحت رئاسة الشخص الثالث في الترتيب بعد السلطان، مفتي الدولة الأكبر أو شيخ الإسلام، ثم انتهى المطاف بالسيد إبراهيم في مدينة طرابلس التي تولى إفتاءها مدة 3 سنوات، حتى وفاته فيها سنة 1196هـ (1782م).  وشبيه بهذا ما حدث لنجله السيد عبدالستار أفندي مفتي حمص كذلك، والذي عزله سليمان باشا الكرجي والي الشام وصيدا عن إفتاء حمص لاختلافه معه، مدة أقل من عام بين عامي 1226-1227ه (1811-1812م)، فرحل عنها إلى مدينة حماة متكدراً من الظلم الذي أصابه، ولكنه سرعان ما عاد إلى منصبه إثر رحيل الوالي، وبعد أن رجحت الكفة لصالحه، فظل بها حتى وفاته سنة 1245ه (1829م). والطريف أن هذه الأحداث سجلها لنا شاعر الشام الكبير السيد أمين الجندي العباسي في قصائده ونشرت في ديوانه.  وفي المائة عام التي تلت هذه الفترة مرت أحداث عديدة، بسبب المواجهات بين المفتين وبين الحكام أو المتنفذين، وكثرت العرائض المرفوعة للباب العالي كجزء من مناورات سياسية، فكانت تؤدي إلى فصل الحاكم أو عزل المفتي، ولكن يقصر المقام هنا عن تبيان كل منها، إلا أنها جميعاً شاهدة على أن منصب المفتي لم يكن منصبا راكداً أو صورياً، بل كان لصاحبه باع كبير في صنع الأحداث ومشاركة فعالة في السياسة المحلية.

المفتي يهدر دم حاكم المدينة!

ولعل سلطة المفتي بلغت ذروتها لما قام السيد عبدالستار أفندي الأتاسي المفتي بحمص بإصدار فتوى في عام 1242ه (1826م)، يهدر فيها دم حاكم المدينة محمد آغا بن خير الله، وكان الأخير قد استباح حرمات الأهالي، وأعمل فيهم نهباً وظلماً، فلما فرض إلى ذلك ضريبة إضافية، وهي ضريبة الفروة، بإيعاز من الوالي، زاد هذا من حنق الأهالي، وبلغ السيل الزبى وفاض الكيل، فاتجهوا إلى مقر مفتيهم في 26 أيار 1826م، وحصلوا على موافقته ثم توجهوا إلى منزل الحاكم وقتلوه.  وكان نتيجة ذلك أن أرسل والي الشام، صالح باشا، قوة لتأديب الحماصنة، لكنها فشلت في ذلك بصمود الأهالي تحت قيادة حاكمهم الذي اختاروه: السيد حسن آغا الباكير الأتاسي، وانفك أخيراً الحصار عن حمص بعزل الوالي.  وفي عهد حفيده المفتي عبداللطيف ابن المفتي محمد أبو الفتح ابن المفتي عبدالستار انقسمت حمص أيضاً إلى فريقين، فريق تزعمه آل الأتاسي برئاسة مفتيهم العلامة عبداللطيف أفندي، ومعه النخبة العلمية الدينية المتمثلة في آل السباعي والجندلي والزهراوي، بالإضافة إلى أسرة آل الحسيني المعروفة، وبين فريق كان على رأسه رجل من كبار أعيان بلاد الشام، كانت أسرته قد وصلت إلى مراكز النفوذ في وقت أحدث نسبياً، وهو عبدالحميد باشا الدروبي، رئيس بلدية حمص وأحد كبار ملاك ولاية سورية وأغنيائها.  دارت بين الفريقين حرب ضروس كانت كفتاها تتأرجح بين انخفاض وارتفاع، بحسب من كان يحكم في مركز الولاية وفي عاصمة الدولة، فلما كان الاتحاديون يصلون للسيطرة في الأستانة كانت كفة نصيرهم عبدالحميد باشا ترجح في الميزان، ثم تنقلب الأمور، وكل ذلك؛ لأن مدينة حمص لم تكن في معزل عن الأجواء السياسية في الأستانة أو في حاضرة الولاية، بل كانت التغيرات السياسية تنعكس بشكل مباشر على ما يجري فيها من وقائع، وكم مرة تدخل الولاة في هذه الصراعات -كما نجد في الأخبار التي تناقلتها الصحف، وفي العرائض التي كان الفريقان يرفعانها بشكل مستمر إلى أولي العقد والحل في العواصم- إما لحل النزاع، أو لمحاولة تأييد أحد الفريقين على الآخر.  وبعد محاولات عديدة أكثرها كان يبوء بالفشل، استطاع والي سورية خلوصي بك، أحد أركان جمعية الاتحاد والترقي، ومن رفاق جمال باشا السفاح، حمل المشيخة الإسلامية على عزل المفتي عبداللطيف الأتاسي من منصب الإفتاء.  ترشح عندها سبعة عشر عالماً حمصياً لمنصب المفتي الشاغر، منهم خمسة علماء من آل الأتاسي (أي ثلث المتقدمين تقريباً)، فكان من سخرية القدر أن فاز منهم بالاقتراع السيد طاهر أفندي الأتاسي بأعلى قدر من الأصوات (وكان قبل هذا قد وصل إلى أعلى مناصب القضاء في الدولة العثمانية)، بينما فاز بالمركز الثالث والرابع والخامس أقرباؤه. حاول خلوصي بك التحرك لمنع وصول طاهر أفندي إلى منصب الفتوى، على أنه ابن أخ المفتي السابق عبداللطيف أفندي، وابن أسرة آل الأتاسي المتنفذة، وطلب من المشيخة تنصيب الشيخ عبدالغفار عيون السود بدلاً منه، العالم الذي فاز بالمركز الثاني من حيث عدد الأصوات، ولكن المشيخة الإسلامية تجاهلت طلب الوالي، وثبتت الأتاسي في منصب المفتي، وذلك في عام 1333هـ (1914م)، وهكذا فشل الاتحاديون في إخراج الفتوى من يد آل الأتاسي، ويدلك هذا كله على أهمية هذا المنصب والقوة التي كان يتمتع بها صاحبه، وعلى أن الصراع بين الاتحاديين ومؤيدي الخلافة الذي بلغ قمته آنها في عاصمة الخلافة، كان قد انعكست آثاره على مدائن الشام، ومنها مدينة حمص التي دارت فيها مناورات سياسية شبيهة.     

وقد استمرت العلاقات بين الباب العالي وبين المفتين في حمص أثناء ذلك كله، وبين أيدينا رسائل بين المفتي عبدالستار، وبين آغا دار السعادة عبدالله أوزون آغا، الشخصية الأهم في القصر السلطاني، وقد طلب الأخير من الأتاسي بذار بطيخ الرستن الشهير، فأرسل الأخير بها إلى الأستانة، بل كانت العلاقات أحيانا مباشرة مع السلاطين دون واسطة، إذ لم يتوانَ مثلاً السيد يحيى أفندي ابن مفتي حمص سعيد أفندي ابن المفتي عبدالستار أفندي الأتاسي عن إرسال برقية إلى السلطان عبدالحميد الثاني في سنة 1312ه -بعد أن عزل الوالي ابن عمه خالد أفندي الأتاسي عن الإفتاء-عارضاً حقه في منصب الفتوى على أعتاب الخلافة بصفته من علماء حمص، ومن أسرة تنتمي للسلالة الطاهرة (الأشراف)، ولكونه ابن المفتي السابق، ولكن المنصب كان من نصيب السيد عبداللطيف أفندي شقيق المفتي السابق.  وفي 15 شعبان 1296ه (6 آب 1879م) زار مدينة حمص الصدر الأعظم السابق الشهير مدحت باشا، فأقام في دار المفتي محمد أبو الفتح ابن المفتي عبدالستار الأتاسي، دليلا على استمرارية العلاقة بين الباب العالي والأسرة. ومن ذلك أيضاً أن السلطان عبدالحميد، لما علم بمرض مفتي حمص السيد محمد خالد أفندي ابن المفتي محمد أبو الفتح الأتاسي، أرسل إليه طبيبه الخاص من الأستانة إلى حمص ليشرف على علاجه، بل صاهر بعض أعلام الأسرة بعض نبلاء البلاط العثماني، فتزوج مفتي حمص السيد محمد سعيد الأتاسي من المرحومة خديجة ابنة مصطفى راقم الإسلامبولي، معلم الخط الخاص للسلطان محمود الثاني، وأحد كبار القضاة في الدولة العثمانية، ومن خواص البلاط العثماني، فأنجب منها الأتاسي بنتين، ثم لما توفي تزوج بها شقيقه الأصغر السيد محمد أمين أفندي الأتاسي أمين الفتوى بحمص، فأنجب أيضاً منها ابنتين، وتزوجت ثلاث من البنات الأربع من آل الأتاسي، وكانت للمرحومة خديجة وبناتها الأتاسيات الأربع مخصصات في أوقاف السلطان محمود الثاني خان ابن السلطان عبد الحميد الأول، وفي أوقاف جده السلطان أحمد الثالث، تجددت بموجب براءات صدرت عن السلطان عبدالعزيز بن محمود الثاني، كما في وثائق محكمة حمص الشرعية، ولا شك مرة أخرى أن هذه المصاهرات فتحت أبواباً لأصحابها لم تكن من قبل موجودة.

ولكن الأمر الأهم الذي يلزم التطرق له، هو نجاح هذه الأسرة في الحفاظ على هيمنتها وسلطتها، عن طريق مواكبتها للتغيرات الكبيرة التي مرت بها الدولة العثمانية، واقتضتها الظروف العصرية؛ الأمر الذي ضمن لها الاستمرارية، بينما ذوى ذكر أسر علمية شهيرة أخرى؛ لأنها لم تستطع أن تتأقلم مع هذه التغييرات، فآل أمرها للخمول.

عصر التنظيمات العثمانية

لما دخل عصر التنظيمات حيز التنفيذ لم تتقيد الأسرة بمنصب المفتي، وما تعلق به من وظائف دينية كالقضاء والخطابة والإمامة والتدريس، مع استمرارها في الاستحواذ عليها، ولكنها دفعت بأبنائها للوصول إلى المناصب الإدارية المدنية المهمة في قضاء حمص، فكان لها في كل مجلس تمثيل شبه دائم؛ لذلك نجد أنه تولى منها رئاسة البلدية في حمص، منذ إنشاء هذا المنصب في العصر العثماني، ثم بعد خروج العثمانيين حتى الخمسينات من القرن العشرين سبعة من أعلامها هم السادة: محمد حسن أفندي ابن المفتي محمد سعيد الأتاسي، ومحمد نجيب أفندي ابن أمين الفتوى محمد أمين الأتاسي، وعمر بك ابن يحيى ابن المفتي محمد سعيد الأتاسي، وهؤلاء تولوه في عهد الدولة العثمانية، وتولاه بعدهم السيد محمد أفندي ابن خطيب مسجد سيدي خالد بن الوليد إبراهيم أفندي الأتاسي، وفيضي بك ابن المفتي محمد طاهر أفندي الأأتاسي، والسيد مكرم ابن أبو الخير ابن المفتي محمد خالد أفندي الأتاسي، والسيد قاسم ابن رشدي بن نجيب الأتاسي.  كما تولى رئاسة الغرفة التجارية والصناعية، منهم الشيخ صادق ابن الشيخ محمد أمين الأتاسي، وكان أول رئيس للغرفة الزراعية السيد نوري أفندي الأتاسي، وتولى رئاسة الغرفة الزراعية أيضاً في الخمسينات من القرن العشرين مظهر أفندي ابن المفتي خالد أفندي الأتاسي. وتوالى على رئاسة شعبة المعارف (وكانت أيضا تسمى هيئة المعارف أو مجلس المعارف واليوم تعرف بمديرية التعليم) في قضاء حمص عدة علماء من آل الأتاسي هم: السيد محمد نجيب أفندي ابن السيد محمد أمين الأتاسي عند تأسيسها  (ترأسها فترة معتبرة ما بين عامي 1300-1311هـ /1882-1893م)، ثم السيد إبراهيم أفندي ابن السيد محمد أبو الفتح الأتاسي (1313-1314ه/ 1895-1896م) والذي تولى عضوية هيئتها الإدارية عدة سنوات قبل وصوله لرئاستها، وأخيراً السيد محمد نجم الدين أفندي ابن محمود ابن محمد أبو الفتح الأتاسي (1327-1329ه/1909-1911م)، الذي عين عضواً في شعبة المعارف قبل رئاسته لها فترة طويلة كذلك. وكان لهؤلاء يد عليا في تطوير العلوم النظامية الحديثة، وإنشاء المدارس في قضاء حمص، بل يعود إليهم الفضل في إنشاء أولى مدارس الإناث في المنطقة. وانتخب إلى ذلك في عضوية المجلس البلدي، ومجلس قضاء حمص، ومحكمة البداية وشعبة المعارف، آخرون من آل الأتاسي. 

أتاسية الشوام

هكذا كانت الأسرة على استعداد كامل للتحولات التي طرأت على البلاد بخروج الدولة العثمانية، وتأهل عدد منهم للمشاركة في الأحداث التي جرت بعد ذلك، فقدمت ما لم تقدمه أسرة أخرى من الساسة، صاروا أعضاء في المجالس النيابية، ووزراء، ورؤساء للجمهورية، ومؤسسين لأحزاب سياسية، يطول الكلام عنهم.        

بل لا تستغرب، إن عرفت أن عدداً من علماء الأسرة المعممين لم يجدوا حرجاً في توسد الوظائف المدنية الإدارية، وقد خبروا رياح التغيير التي كانت تهب من الشمال، فالشيخ حسن أفندي ابن المفتي محمد سعيد الأتاسي، الذي كان عالماً معمماً سلك الطريق الشرعي، انتخب عضواً في إدارة قضاء حمص عام 1278ه (1862م)، قبل أن ينتسب إلى سلك القضاء، فيعين عضواً في مجلس دعاوى حمص في عام 1283/1867)، ثم ما لبث أن انتخب عضواً في مجلس بلدية حمص عام 1286ه (1869م)، وأخيراً  تولى رئاسة مجلس البلدية بين عامي 1287-1289هـ (1870-1872م) في زمن الخلافة العثمانية، فكان أول رئيس له من آل الأتاسي. ومثله في ذلك ابن عمه السيد محمد نجيب ابن السيد محمد أمين الأتاسي، وهو أيضاً عالم شرعي معمم، ورث وظيفة تدريس الفقه والعلم الشرعي في الجامع النوري الكبير، الذي كان قبله على والده الشيخ محمد أمين أفندي، أمين الفتوى بحمص، والذي بدوره أخذه عن والده المفتي عبد الستار الأتاسي قبلهما، بموجب براءة شريفة بتاريخ 3 صفر سنة 1291ه (آذار سنة 1874م)،   إلا أن الأتاسي قرر التنازل عن الدرس لأخيه السيد عبد الساتر بعد ست سنوات، لاضطلاعه بوظائف إدارية مدنية عديدة، منها استلامه لرئاسته بلدية حمص عام 1296ه (1879م)، وكذلك ترؤسه لشركة في قضاء حمص (الشركة الوطنية العثمانية للمعابر والطرق)، التي قامت ببناء الجسور وتعبيد الطرق، ثم ترؤسه لمجلس المعارف (مديرية التعليم) في القضاء سنة 1330 (1882م)، وكلها مناصب مدنية كان على رأسها عالم شرعي كما ترى.  ومن ذلك أيضاً أن السيد أحمد ابن المفتي محمد سعيد الأتاسي مدير الأوقاف بحمص -وهو أيضاً من العلماء- استلم إدارة مصلحة الريجي (التبغ) في حمص، بينما تولى ابن أخيه الشيخ عبدالرحمن بن حسن الأتاسي إدارة الشرطة في دمشق، وكان قبلها إماماً لجامع النبي هود في حمص، (وما زالت ذريته إلى اليوم في دمشق، وهم يعرفون عند آل الأتاسي بـأتاسية الشوام)، ومنهم أيضاً السيد محمد أفندي ابن الشيخ إبراهيم الأتاسي، وكان في أول أمره عالماً معمماً، حتى إنه أرسل مع الجيش العثماني إلى حرب قناة السويس في الحرب العالمية الأولى أوائل سنة 1915م كإمام طابور (شيخاً للعساكر الشاهانية)، وكان يلبس الجبّة والعمّة، فلما عاد إلى حمص استبدلهما باللباس المدني والطربوش، وتولى رئاسة البلدية بعد خروج العثمانيين (1920-1930م)، وإليه يعود الفضل في بناء مقهى ومسرح (الروضة) الشهير بحمص، الذي أصبح في ما بعد بؤرة لأحداث تاريخية كثيرة، وموقعاً لاجتماعات أدبية وأعمال فنية معروفة، ومرتعاً لأشهر الأدباء والشعراء في سورية.  

القسم الثاني غداً | تراجم أعلام الحكم والسياسة

_________________________________________

ملف العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى