فنون وآداب

فلاسفة عملوا في الصحافة: من الانسجام إلى الخصومة

شكلت العلاقة بين الفلسفة والعمل الصحفي معبراً عميقاً بين الفكر المجرد والواقع المعيش

بقلم محمد صبّاح * – العربي القديم

لطالما كانت العلاقة بين الفلسفة والعمل الصحفي صلة معرفية بين الفكر المجرد والواقع المعيش، لكن هل لا يزال هذا الرابط قائمًا في عصرنا الذي تتسارع فيه الأحداث وتتحول إلى بيانات قابلة للمعالجة وإعادة التوزيع؟ هل يمكننا أن نرى الصحافة اليوم كأداة لفهم العالم، أم أنها مجرد وسيلة لتسريع حركة الزمن، حيث تظل الفلسفة مجرد تمثيل عقلي لما يحدث؟ في الوقت الذي تغمر فيه وسائل التواصل الاجتماعي الفضاء الرقمي، وتغذي الخوارزميات سيلًا لا ينتهي من المعلومات، هل ما نعيش فيه الآن هو “الواقع” كما كنا نعرفه، أم أنه محاكاة مُعاد تشكيلها باستمرار لتناسب معايير الاستهلاك السريع؟

إن الصحافة اليوم لم تعد مجرد منصة لنقل الأخبار؛ بل أصبحت جزءًا من بنك بيانات ضخم يتم فيه اختزال الأحداث إلى صيغ قابلة للاستهلاك عبر خوارزميات تحدد لنا كيف نرى الواقع. في هذا السياق، لا يصبح الزمن مجرد تدفق للوقائع، بل هو سلسلة من اللحظات المتسارعة التي يُعاد تشكيلها لتصبح جزءًا من شبكة معقدة من المعلومات التي تغذينا وتستنزف تفكيرنا في آنٍ معًا. هل يمكن للصحافة في هذه الحالة أن تكون أكثر من مجرد مرآة للأحداث؟ وهل أصبحت الفلسفة جزءًا من هذه الدائرة المغلقة التي يصنعها «الراهن» في عالم مليء بالبيانات والتكرار؟

ومع هذا التغيير الجذري في سياق الصحافة ووسائل الإعلام، يظل الفلاسفة الصحافيون، من ماركس إلى فوكو، يطرحون أسئلة أساسية حول طبيعة هذا الواقع المُعاد تشكيله. إذا كان ماركس قد رأى في الصحافة أداة لكشف تناقضات الرأسمالية، فإن فوكو اعتبرها أداة لتساؤل جوهري حول الحاضر والمستقبل، قائلًا: «الفلسفة هي صحافة راديكالية».

بين بيانات اليوم وتضخم المعلومات، تبقى الصحافة والفلسفة معاً تسعيان لتفكيك الزمن الراهن وإعادة النظر في معنى وجودنا في هذا العالم الذي يتغير بسرعة لا تسمح لنا بالتوقف أو التأمل.

إذا كانت الخوارزميات تُعيد تشكيل العالم وفقاً لمقتضيات الاستهلاك السريع، فما دور الفلسفة اليوم في قراءة الأحداث؟ هل يمكن أن تكون الصحافة في هذا الفضاء الذي يعج بالبيانات والمعلومات أداة لتفكيك الصورة المعاد تشكيلها، أم أنها مجرد جزء من بنية عالمية تُسرع من انزلاقنا نحو سطوة الزمن الرقمي؟

الفلاسفة الصحافيون: صلة بين الفكر والواقع

لطالما شكلت العلاقة بين الفلسفة والعمل الصحفي معبراً عميقاً بين الفكر المجرد والواقع المعيش. وبرز من خلال هذا التقاطع ما يمكن أن نسميه «الفلاسفة الصحافيين»، الذين لم تكن ممارستهم للصحافة مجرد نشاط مهني، بل انخراطاً معرفياً وتاريخياً يعكس رؤيتهم الوجودية للعالم. انحاز هؤلاء الفلاسفة إلى قضايا العدالة الاجتماعية، وجعلوا من أدوات التحليل والمناهج الفلسفية مرآة تعكس ما وراء الأخبار اليومية، مؤكدين على أهمية قراءة الحاضر لفهم الإنسان ومآلاته. وكما أشار هيجل، فإن قراءة الصحف ليست مجرد نشاط يومي عابر، بل تشبه «صلاة الصباح»، إذ تمنحنا صلة وجودية بالأحداث التي تشكل ملامح عصرنا.

كان هذا المزج بين الفكر والراهن تعبيراً عن رغبة في إدراك وتحليل ما يحدث، كما أوضح كارل كروس بقوله: «عندما يضفي الكاتب طابع الأبدية على واقعة يومية معينة، فإنه يرتقي بالحاضر إلى مستوى التأمل الفلسفي، في حين أن من يحوّل الأبدية إلى حدث صحفي يحظى باعتراف النخبة المثقفة.»

الصحافة والفلسفة: من الانسجام إلى الخصومة

في البداية، بدا أن الصحافة والفلسفة يتكاملان في سعيهما نحو إضاءة العتمة الفكرية، إلا أن هذا الانسجام تعرض للتصدع مع بروز أصوات نقدية، مثل بيير بورديو وجيل دولوز، اللذين سجلا موقفاً حاداً تجاه الإعلام.

رأى بورديو في الصحافة سطحيةً خطيرة، إذ دأب الصحافيون على تبسيط المؤلفات الفكرية المعقدة، مما أدى إلى رسم حدود فاصلة بين عمل الصحافي ودور المثقف. لكنه، في الوقت ذاته، لم يغفل عن نقد الجامعة، التي تحولت في بعض جوانبها إلى مؤسسة يغلب عليها الضحالة الفكرية، مما جعل البحث العلمي سجيناً لمعايير الهيمنة الأيديولوجية. وأبرز بورديو هذه المفارقة بقوله: «يلاحظ الصحافيون بشيء من التلذذ تهافت الأكاديميين على وسائل الإعلام، مما يعكس فقدان المثقفين لاستقلاليتهم الذاتية.».

الفلاسفة في الصحافة:

كان ارتباط الفلاسفة بالصحافة انعكاساً لتصوراتهم المتنوعة لعلاقة الفكر بالواقع. ديدرو، على سبيل المثال، رأى في الصحافة وسيلة لتوسيع انتشار الفلسفة، وساهم في «الإنسكلوبيديا» بمقالات ترسي أسس التنوير. ألبير كامو، من جانبه، جمع بين كونه كاتباً وفيلسوفاً وصحافياً، مما جعل من تجربته شهادة على التزام الفيلسوف بواقعه. أما سارتر، فقد عكست علاقته بالصحافة رؤيته الوجودية لمسؤولية المثقف تجاه المجتمع.

وفي القرن العشرين، برزت شخصيات مثل فرانسوا شاتليه وموريس كلافيل، اللذين أعادا تعريف دور الفيلسوف ككاتب في الصحافة، حيث استخدم كلافيل تأملاته الفلسفية لتحليل الأحداث اليومية، مشكلاً بذلك نموذجاً للفلاسفة الجدد.

كارل ماركس: الفيلسوف الصحافي

ماركس، الذي غالباً ما يُختزل في كونه منظراً للفكر الاشتراكي، مارس الصحافة كحقل أساسي لعمله. لقد كانت الصحافة بالنسبة له ميداناً لتحليل وتحويل الواقع. فمنذ مقاله الأول عام 1842 عن «حرية الصحافة في بروسيا»، وحتى عمله كمراسل أوروبي لجريدة نيويورك تريبيون، ظل ماركس يؤمن بقدرة الصحافة على كشف تناقضات الرأسمالية. وكصحافي سجالي، استند إلى جهازه الفلسفي في نقد خصومه الفكريين، مساهماً بذلك في بناء جسر بين الفلسفة والاقتصاد والسياسة.

ميشيل فوكو: الفلسفة كصحافة راديكالية

أما ميشيل فوكو، فقد أعاد تعريف العلاقة بين الفلسفة والصحافة، حيث اعتبر الفلسفة ممارسة تسائل الحاضر بعمق راديكالي. من خلال تغطيته لثورة الشعب الإيراني عام 1978، أظهر فوكو كيف يمكن للصحافة أن تكون أداة للفيلسوف لفهم الحاضر وإعادة تشكيل المستقبل. وقد عبر عن هذه الفكرة بقوله: «أعتبر نفسي صحافياً، في حدود أن ما يهمني هو الأحداث الراهنة، أي ما يحدث حولنا، ما يجعلنا نحن هم نحن، ما يحدث في العالم. كان أساس الفلسفة قبل نيتشه هو الأبدية.

لم يكن الفيلسوف يعرف قبل فلسفة نيتشه إلا الزمن والأبدية. لكن نيتشه كان يعشق الأحداث الراهنة اليومية. أعتقد أننا نحن الذين نصنع المستقبل، فالمستقبل هو الكيفية التي نحول من خلالها الحركة والشك إلى حقيقة. إذا أردنا أن نتحكم في مستقبلنا فعلينا أن نطرح سؤال الراهن، أي سؤال ما يحدث الآن، لهذا السبب أعتبر أن الفلسفة هي صحافة راديكالية.” هكذا، وضع فوكو الفلسفة في مواجهة مباشرة مع الزمن الراهن، مجسداً فكر نيتشه الذي عشق اللحظة اليومية، ومعبراً عن قناعة بأن المستقبل يُصنع فقط عبر تحويل الحركة والشك إلى يقين. في النهاية، كان الفلاسفة الصحافيون، من ماركس إلى فوكو، أكثر من مجرد ناقلين للأحداث. لقد جعلوا من الصحافة معبراً فلسفياً لفهم الذات والآخر، وتحويل الواقع إلى فضاء للتفكير والتحرر.

—————————————————————-

*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى