علم النفس والسلوك

الوباء الرقمي: حين يُصبح التركيز عملة نادرة!

هل تُحوّلنا الشاشات إلى أشباه كائنات مُشتتة؟

براء الجمعة * – العربي القديم  

هل شعرت يوماً أن ذهنك لم يعد كما كان؟ أن اتخاذ القرارات أصبح أكثر صعوبة، وأن تركيزك بات أقل حدة، رغم أن حواسك لا تزال كاملة؟ قد يكمن الجواب في شيء غير مرئي، لكنه يؤثر في حياتك بشكل خفي: هاتفك الذكي.

تخيل مشهدًا مألوفًا في بيوتنا العربية: عائلة تجتمع حول مائدة الطعام، لكن بدلًا من تبادل الأحاديث والضحكات، يسود صمتٌ مطبق، لا يقطعه سوى صوت نقرات الأصابع على شاشات الهواتف. هذا المشهد لذي أصبح جزءًا من واقعنا اليومي، يُنذر بخطر خفي يهدد علاقاتنا الاجتماعية وقدراتنا الذهنية.

لطالما اعتبرنا الهواتف الذكية أدواتٍ ضرورية لتسهيل حياتنا، فهي تُمكننا من التواصل الفوري والوصول إلى المعلومات بسهولة. لكن دراسات حديثة كشفت عن وجهٍ آخر لهذه التكنولوجيا، وجهٍ خفيٍّ يؤثر سلبًا على قدراتنا العقلية وعلاقاتنا الاجتماعية. فقد أظهرت الأبحاث أن مجرد وجود الهاتف بالقرب منك، حتى وإن كان في وضع الصامت أو مغلقًا، يُمكن أن يُقلل من قدراتك العقلية ويُضعف أداءك الذهني. هذا التأثير، الذي يُعرف بـ “الاستعداد الذهني”، يجعل عقولنا في حالة تأهب دائم، مما يُشتت الانتباه ويُعيق التركيز. هذا “اللص الخفي”، كما سنُسميه، لا يؤثر فقط عندما تتصفح مواقع التواصل أو ترد على الرسائل، بل حتى في حالة سكونه.

الهاتف الذكي: سيف ذو حدين

في عصرنا الرقمي، لا ينكر أحد الدور المحوري الذي تلعبه الهواتف الذكية في تسهيل حياتنا اليومية. فهي نافذتنا على العالم، تُمكننا من التواصل الفوري مع الأهل والأصدقاء، وتُزودنا بالمعلومات في أي زمان ومكان. لكن، وكما يُقال، لكل شيء وجهان، فقد كشفت الأبحاث العلمية عن تأثيرات خفية لهذه الأجهزة الذكية تتجاوز مجرد استخدامها المباشر.

إحدى الدراسات الهامة التي أُجريت في جامعتي تكساس وكاليفورنيا، أكدت أن مجرد وجود الهاتف الذكي بالقرب منك يُمكن أن يُعيق قدرتك على التفكير العميق والتركيز، حتى عندما لا تكون منشغلاً باستخدامه. هذا التأثير ليس مجرد شعور عابر، بل هو حقيقة علمية مدعومة بالتجارب.

ولتوضيح هذه النقطة، نذكر تجربة بسيطة لكنها ذات دلالة أجرتها جامعة شيكاغو، حيث قُسّم المشاركون إلى ثلاث مجموعات، وُضعت هواتفهم في أماكن مختلفة: المجموعة الأولى وُضع الهاتف أمامهم على الطاولة (مرئيًا)، والمجموعة الثانية وُضع الهاتف في جيوبهم أو حقائبهم (غير مرئي)، أما المجموعة الثالثة فوُضع الهاتف في غرفة أخرى (غير موجود). النتائج كانت لافتة: المجموعة التي كانت هواتفها في غرفة أخرى سجلت أفضل النتائج في اختبارات الذاكرة والانتباه، بينما سجلت المجموعة التي كان الهاتف مرئيًا أمامها أسوأ النتائج.

الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا التأثير كان غير واعٍ، أي أن المشاركين لم يكونوا بالضرورة مُدركين لتأثير وجود الهاتف على أدائهم. حتى عندما كان الهاتف في وضع الصامت أو مُغلقًا، فإن مجرد وجوده في محيطهم استنزف جزءًا من طاقتهم الذهنية، ما يُفسر انخفاض مستوى تركيزهم. هذا يُؤكد أن الهاتف لا يُشتت انتباهنا فقط عند استخدامه، بل حتى عند وجوده بالقرب منا، وكأنه “ظل” يُلقي بثقله على عقولنا دون أن نشعر.

الهتفنة”: حين يُصبح الهاتف سيد الموقف

من بين الظواهر الاجتماعية المُستجدة التي تستحق منا وقفة تأمل هي ظاهرة “الهتفنة” (Phubbing)، وهي مصطلح مُشتق من كلمتي “Phone” (هاتف) و “Snubbing” (تجاهل). ببساطة، تُشير الهتفنة إلى تجاهل الأشخاص الحاضرين في محيطك والانشغال بهاتفك المحمول. تخيّل أن تعود إلى منزلك بعد يوم عمل مُرهق، لتجد أفراد عائلتك، كلٌّ منهم غارق في عالمه الرقمي الصغير، منكباً على هاتفه. بدلاً من حوار دافئ وتفاعل حقيقي، يقتصر التواصل بينكم على كلمات مُقتضبة وسطحية. هذا المشهد، الذي بات يتكرر في العديد من البيوت والمجتمعات، يُشكل شرخاً في نسيج العلاقات الإنسانية.

الهتفنة ليست مُجرد انشغال عابر بالهاتف، بل هي تهديد حقيقي للصحة النفسية والعلاقات الشخصية على حد سواء. تُشير الدراسات إلى أن أكثر من 17% من الأشخاص يفحصون هواتفهم خلسة أربع مرات على الأقل يوميًا أثناء التحدث مع الآخرين، بينما يمارس 32% من الناس الهتفنة مرتين إلى ثلاث مرات يوميًا. قد تبدو هذه التصرفات غير مُؤذية للوهلة الأولى، لكن تأثيرها السلبي يتراكم مع مرور الوقت، مُؤديًا إلى تدهور جودة التفاعلات الاجتماعية وتأثير سلبي على العلاقات العاطفية والمهنية.

تأثير الهتفنة على العلاقات: جرحٌ عميق في صميم التواصل

لا تقتصر الهتفنة على العلاقات العابرة أو التفاعلات مع الغرباء، بل تمتد لتطال أقرب العلاقات إلينا. حين تجد نفسك أو أحد أفراد عائلتك مُنشغلًا بهاتفه أثناء تناول وجبة العشاء معًا، أو حين تتعرض للتجاهل المُباشر بسبب انشغال الشخص الذي تُحادثه بهاتفه، تتحول هذه التجربة إلى مصدر قوي للشعور بالإهمال والوحدة. أظهرت دراسة حديثة أن مُجرد وجود الهاتف بجانبك أثناء التفاعل مع الآخرين يُقلل من رغبتهم في التواصل معك، ما يُساهم في اتساع الفجوة بين الأفراد. مع مرور الوقت، تتأثر العلاقة بشكل كبير، ليُصبح الهاتف هو مركز الاهتمام، ما يُضعف التواصل الفعلي والاجتماعي والعاطفي بين الأطراف. هذا يُشبه بناء جدار صامت بين القلوب، حجره هواتفنا وشاشاته.

كيف نُقاوم إغراء “الهتفنة” ونُعيد بناء جسور التواصل؟

إذا كنت تشعر أن حياتك الاجتماعية قد تأثرت سلبًا بسبب الهتفنة، إليك بعض الخطوات العملية التي يُمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا:

  • تحديد أوقات خالية من الهواتف: خصّص أوقاتًا يومية مُحددة بعيدًا عن الهواتف، مثل أوقات تناول الطعام مع العائلة، أو الجلسات العائلية، أو قبل النوم، وبعد الاستيقاظ، هذه الأوقات تُساعد على تعزيز التواصل الاجتماعي وتقوية الروابط بين الأفراد.
  • إعطاء الأولوية للحظات الاجتماعية الحقيقية: حين تتواجد مع الآخرين، ركّز انتباهك الكامل عليهم، وتجنّب فحص هاتفك أثناء المُحادثات. هذا يُعبّر عن احترامك واهتمامك بالعلاقات الشخصية.
  • مُراقبة سلوكك بوعي: كُن واعيًا لتأثير هاتفك على حياتك الاجتماعية. إذا كنت في مكان يتطلب تركيزًا، مثل العمل أو اجتماع هام، ضع هاتفك بعيدًا عن متناول يدك لتجنب الإغراء.
  • “مناطق خالية من الهواتف” في المنزل: حدد أماكن في منزلك تُمنع فيها استخدام الهواتف، مثل غرفة المعيشة أو غرفة الطعام.
  • التواصل المفتوح مع العائلة والأصدقاء: تحدث بصراحة مع عائلتك وأصدقائك حول تأثير الهتفنة على علاقاتكم، واتفقوا على قواعد مُشتركة للحد من هذه الظاهرة.

بين سطوة الشاشة ودفء اللقاء

في نهاية المطاف، ليست التكنولوجيا هي العدو، بل هي مرآة صادقة تعكس طبيعة علاقتنا بها. هي ليست قوة شريرة مُطلقة ولا نعمة خالصة، بل هي أداة بين أيدينا، وكيفية استخدامنا لها هي التي تُحدد نفعها أو ضررها. الهواتف الذكية، بكل ما تحمله من إمكانيات، يُمكن أن تكون وسيلة رائعة لتوسيع مداركنا، وتعزيز تواصلنا، وإثراء حياتنا الاجتماعية والعقلية، شرط أن نُحسن وضع الحدود الصحيحة لاستخدامها.

الدرس الذي يجب أن نستخلصه من هذه الرحلة الرقمية المُعاصرة هو أننا قادرون على أن نكون سادة هذه الأدوات، لا عبيداً لها. الخيار في أيدينا: هل نرضخ لسلطة التكنولوجيا لتُسيطر على عقولنا وتُبعدنا عن دفء اللقاءات الحقيقية، أم نُعيد ضبط بوصلة علاقتنا بها لنُحقق توازنًا دقيقًا وانسجامًا صحيًا بين العالمين الرقمي والواقعي؟ فلنجعل هذه الأدوات خادمة لعقولنا وعلاقاتنا، لا أجهزة تتحكم فينا وتُملي علينا نمط حياتنا.

دعونا نُعيد اكتشاف قيمة اللحظات الحقيقية بعيدًا عن سطوة الشاشات، تلك اللحظات التي تتجسد فيها قيمة الحضور الكامل والتواصل العميق مع من نُحب، تلك اللحظات التي نعيشها بتفاعل حقيقي مع الواقع بكل تفاصيله. فالحياة لا تُقاس بعدد الإشعارات والتنبيهات التي تصلنا، بل بجودة اللحظات التي نعيشها مع أنفسنا ومع من يُشاركونا رحلة الحياة. لنُحرر أنفسنا من أسر الشاشة، ولنستثمر وقتنا وطاقتنا في بناء علاقات إنسانية حقيقية تُثري حياتنا وتمنحها معنى أعمق وأجمل.

__________________________________

*مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى