الرأي العام

مقامات أمريكية |  دليل الغشيم في ترميم البيت القديم‏

نحن لازلنا نعمل على تأهيل بيت واحد صغير ولم ننته بعد ست سنين، فما هو حال من يحاول إعادة بناء دولة معظم مدنها مهدمة، نصف شعبها مهجر، سرق حكامها الفارين أموالها

د. حسام عتال  – العربي القديم

أحسسنا بالإنجاز والفخر عندما أنهى أولادنا الثلاثة دراستهم الثانوية وذهبوا للدراسة في جامعة متشغان. خَمَنّا أنهم سيعودون لزيارة بيت العائلة باستمرار، البيت الذي الذي نشأوا وترعرعوا فيه، ولعبوا في الغابة خلفه، وبنوا بيوتاً صغيرة على فروع الأشجار الباسقة، ثم قفزوا ليسبحوا في بركته في أيام الصيف. وإن لم تكن كل هذه الذكريات تهمهم، فعلى الأقل أن يعودوا للمأكل والمشرب الذي تعودوا عليه صغاراً، والذي حسبناهم يشتاقون له.  لكن شيئا من ذلك لم يحصل، بل التهوا بحياتهم الدراسية، وأضافوا إليها أعمالاً مسائية تعزز من دخلهم، وصار لديهم مشاريع متنوعة حدودها هي خيالهم وأحلامهم؛ وعندما كان يتوفر لديهم بعض الوقت، كانوا يفضلون السفر إلى الخارج لزيارة بلدان العالم، بدلاً عن زيارة البيت القديم.

ذات ليلة، نظرَتْ إليَّ زوجتي وفي عيناها دمعتان، ضوء الغروب الدافئ ينعكس على بروفايل وجهها من النافذة الكبيرة “هل ربيناهم أن يكونوا مستقلين بأنفسهم زيادة عن اللزوم؟” سألتني.

وهكذا أصبحنا أنا وزوجتي وحيدان في بيت أكبر مما نحتاجه، ومزرعة محيطة به تحتاج لعناية دائمة في كل فصول السنة (خاصة فصل الشتاء القارس)، وأضحى العمل بهما عبئاً ثقيلاً لا يترك لنا فسحة لأي نشاطات أخرى. انتظرنا بضع سنين، لكن الوضع لم يتغير، فكلما تكلمنا مع الأولاد نجدهم مشغولين إما في الدراسة، أو العمل، أو هم في سفر في إحدى البقاع التي تحمل اسماً يصعب لفظه، أحياناً يرسلون رسائل مقتضبة على السوشيال ميديا، وفي أخرى يضعون إيموجي ما على ما كتبناه بأنفسنا. قررنا أخيراً، بعد نقاش وصفن وتدبر، أن نستسلم للواقع. قلت لزوجتي: “ماذا لو بعنا البيت وانتقلنا لبيت أصغر يناسب وضعنا الجديد، بيتاً يخدمنا بدل أن نكون نحن له عبدة خادمين.” هزت رأسها موافقة.

بعد سنة وجدنا بيتاً في موقع ريفي هادئ، هو بيت قديم بُني منذ أكثر من ١٥٠ سنة، تحيطه مزرعة متوسطة الحجم، وفيه وحظيرة كبيرة، وقنٌ للدواجن، ومشغل للنجارة، وحقوله واسعة حوله مليئة بالزهور البرية، فيمكننا إحضار خلايا النحل إليه دون أي مشكلة، وتسألنا: “بأي نكهة سيكون عسل السنة القادمة بعد تغيير الحقول التي ستزورها ال ٣٠٠ ألف من النحلات الروسية التي نملكها”.

العمل الذي لا ينتهي في حظيرة الحيوانات

‏انتقلنا إلى البيت الجديد وعلى طاولة المطبخ كتبنا على ورقة الأشياء التي تحتاج لتغيير أو لتجديد، وبدأنا ترتيب أولويات مشاريع العمل بحماس الأطفال الذين أُعطوا لعبة جديدة يوم العيد. ‏الخيارات السهلة كانت واضحة من البداية:  ذلك الموكيت الطحيني اللون عليه أن يذهب للجحيم، ويجب إعادة تأهيل الخشب الذي تحته وتلميعه، هو من السرو الأبيض الذي أصبح نادراً بعد أن اكتشف الأوروبيون جماله، وقطّعتْ كل أشجاره من شمال ميتشغان لترسل للقصور الأوروبية – أي غبي ذلك الشخص الذي اعتقد أن الموكيت أفضل من الخشب العتيق فغطاه به؟ أما الجدران ذات اللون الأصفر الليموني الباهت، فرغم قبحها قررنا تأجيل دهنها بعد إنجاز المشاريع الأكبر، لكي تكون خاتمة المجهود، ومناسبة للشكل الجديد للبيت.

‏كان أحد سببين لاختيار للبيت هو غرفة الجلوس الكبيرة بواجهتها الزجاجية المطلة على السهل الواقع خلف البيت – السبب الثاني كان شجرة الصفصاف الضخمة، أكبر شجرة في منطقتنا كلها. تلك الغرفة بسقفها العالي، ومدفأة (الشمنيه) في صدرها، كانت مثالية لتحويلها إلى غرفة مكتبة لكي تؤوي آلاف الكتب التي نقتنيها. اخترنا تصميماً مناسباً للجو الريفي، يتألف من عواميد ثخينة من شجر الجوز امتدت من الأرض حتى السقف، مددنا بينها رفوف من الزجاج السميك كي تتحمل وزن الكتب الثقيلة. بسبب حجم هذا التصميم، كان علينا تدعيم الأرضية كي تتحمل وزنه. بعدما أحضرنا عواميد الخشب اتضح أنها لازال رطبة، فكان علينا الانتظار لعدة شهور قبل أن تنشف وتأخذ شكلها النهائي. ولكي تظهر كلها بلون متشابه عتيق صبغناها بمحلول الشاي، نفس الشاي الذي نشربه،  فأعطاها رونقاً حسناً. وهكذا كلّفنا مشروع المكتبة، والذي كان عليه أن ينتهي بسرعة، سنة كاملة.

بعد إخراج الكتب من صناديقها، وترتيبها على الرفوف، وجهّنا انتباهنا للمطبخ، ولأني أحب الطبخ وأفتخر بأني “غورميه شيف” أصررت أنه أكون صاحب القرار الأول في خيارات معدّات المطبخ من البراد والبوتوغاز والفرن. هذا أثار حفيظة زوجتي لأنها تقضي وقتاً أطول في المطبخ، لكنها أذعنت لرغبتي بعد مساومة. وكجزيرة في منتصف المطبخ، وبعد فترة طويلة من البحث ومراجعة مجلات الديكور ومناقشة المهندسين، وجدنا طاولة أنتيكا طويلة من خشب البلوط العتيق كانت تستخدم في ورشة صنع مفروشات، فجعلناها أساس الجزيرة، وعدلناها بعد إدخال مجلى رخامي فيها وتمرير مصاريف تحتها، واستخدمنا رفوفها لترتيب كتب الطبخ وبعض الأوعية من البورسلان.  دهان الكابينات كان اللمسة التي جعلت المطبخ، رغم صغره النسبي، وكأنه مطبخ بيت في ريف پروڤانسي، بالتمام والكمال… استغرق  تجديد المطبخ سنة ونصف السنة.

غرفتا البيانو والسفرة لم يحتاجا سوى لتغير الإضاءة وتعليق السجاد واللوحات الفنية على الحيطان.

حان وقت تغيير الحمامات، وقد كانت قد عُدلتْ مرة في في خمسينيات القرن الماضي باستخدام مكعبات زجاجية وقطع بورسلانية بألوان تثير الهلوسة. “يبدو أنه قصد بها أن تشابه الموزاييك” قلت لزوجتي. رفعت حاجبها وقالت: “لا أدري، النتيجة كانت أبعد من ذلك إن كان ذلك هو القصد!”  عند إزالتها ظهرت عيوب في الحيطان والأرضية لم نكن نتوقعها، مما اضطرنا لتصليحها ودعمها قبل البدء بوضع الحمامات الجديدة. لهذا السبب أخذ تجديد الحمامات عشر أضعاف الوقت المخصص لها أساساً.

وقبل أن أنسى عليّ أن أخبركم عن أشياء أخرى، فالبيت بسبب قدمه لم يكن فيه كراج للسيارات، فبنينا كراج جديد للسيارات جانب البيت، ووضعنا فوقه غرفة إضافية وموقداً حطبياً. وهذا الكراج استدعى رصف طريق أسمنتي له، مما استوجب بدوره تغيير الطريق الحجري المتجه نحو باب البيت، لكي يصبح اسمنتياً مشابها لطريق الكراج.  وبسبب زيادة بعض الاسمنت، صببنا مصطبة أمام حظيرة الحيوانات ووضعنا عليها خزان ماء مدفأ لكي تشرب الحيوانات في الشتاء دون أن يتجمد الماء، مما اضطرنا وقتها لتمديد مواسير ماء تحت الأرض كي تصل للخزان المذكور. وهكذا دواليك، كل عمل كنا نبدأه كان يجر وراءه عملاً ثان، ثم ثالث.

وخلال العمل ضربت صاعقة شجرة الصفصاف الكبيرة (والتي عمرها بعمر البيت) فوقع غصن كبير منها على غرفة النجارة وهّدمت جزأ من السقف وأحد الحيطان والسور المحيط بالغرفة، بالإضافة لإحدى السيارات التي فقدت صلاحيتها للاستعمال. فاتخذت ذلك حجة لـ ١- شراء سيارة جديدة. ٢- لإعادة بناء وترتيب غرفة النجارة، وكنت أخطط لذلك لكن الوقت لم يسعفني قبلها. واكتشفت وقتها أن الأرض تحت طاولات العمل كانت تستخدم مستودعاً للجوز لمونة الشتاء من قبل السناجب.  فقمت بتنظيفها وأعاده بناء السقف، وسطوح العمل، ورفوف الأدوات، وعلب التخزين.  ولكي لا أحرم السناجب من مونتهم وضعت الجوز في علب خاصة صنعتها لهم ووضعتها خارج الغرفة على طرف السور، لكن يظهر أن مهارتي في صنع علب الخشب لم تعجهم، فذات ليلة نقلوا الجوز إلى مكان آخر، والذي لازال موضعه مجهولاً عندي، وهذا يقلقني في الليل.

وطالما أننا خارج البيت يجب أن أقول أننا أيضاً جددنا سقف البيت الخارجي، وبدلنا سور المزرعة (مكان الرعي) بآخر، وبنينا بنيت حاكورة للخشب المقطّع لاستخدامه في نار المعسكر “الراموشة”، وعمّرنا صناديق لزراعة خضار الصيف ووروده، وأضفنا عدداً من أشجار التفاح والكرز بالإضافة للتوت الحراحي الذي يماثل بطعمته التوت الشامي (وبأصباغه أيضاً).

وهكذا مضت ستة سنوات على بداية مشاريع التصليح والترميم، وعادت زوجتي ذات مساء من المتجر الكبير بمساطر ألوان الدهان، معلنة المرحلة النهائية. زوجتي تحب الألوان الزاهية (أنا أسميها صارخة) بينما أنا أحب الألوان المطفية. أعتقد أن ذلك قد نجم عن طبيعة حياتنا، فهي تقضي معظم وقتها في البيت فهو مملكتها البرّاقة اللماعة، بينما أعود أنا إليه مساء لأرتاح بعد ساعات العمل الطويلة، لذلك أفضّل الهدوء والسكينة. احتدم الخلاف بيننا، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا سكاكين المطبخ، وأخذنا وضعية القتال… وقتها رن الهاتف وكانت ابنتنا الكبرى على الطرف الآخر تقول: “ماما، بابا، أنا حامل! واحزروا بماذا، بتوءمين…”  أعادنا هذا الخبر إلى وعينا، وأدركنا أن هناك ماهو أهم من ألوان الدهان، فوضعنا سلاح الأبيض جانباً، وبدأنا بالرقص، رغم أن كلاً منا كان يفكر بالطريقة التي سيحقق مبتغاه.  في نهاية الأمر تقاسمنا غرف البيت، اخترتُ أنا ألوان المكتبة وغرفة النوم، واختارت زوجتي ألوان بقية الغرف.

منذ أيام، وفي اتصال مع أحد أصدقائي في سوريا، أخبرته ونحن ندردش عن الفترة التي أخذها ترميم البيت والتي فاقت توقعاتنا. ضحك وقال: “تخيل إذاً لو كنت بشأن ترميم بلد بكامله… البعض يريد أن يحصل ذلك خلال أسابيع!”

صَمَتُّ قليلاً وفكرت بما قال… فنحن رغم توفر القدرات المادية، الوسائل التقنية، والعمال والمهندسين، لازلنا نعمل على تأهيل بيت واحد صغير، ولم ننته بعد ست سنين، وهو في الأصل بيت لم يكن سيئاً، لكنه كان مغايراً لذوقنا. فما هو حال من يحاول إعادة بناء دولة معظم مدنها مهدمة، نصف شعبها مهجر، سرق حكامها الفارين أموالها وتركوها بأشد حالات الفساد. كيف لأي كان أن يحل مشاكلها بأسابيع. وإن كنّا أنا وزوجتي (وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من الزواج وثلاثة أولاد) لم نستطع الاتفاق على أدوات المطبخ أو ألوان البيت، فماذا عن شعب من أديان وطوائف وأعراق، منتشرة بين مدن وقرى وفي سهول وهضاب وجبال، شعب يبدأ من قبائل في البادية وينتهي مع صيادي السمك على شطآن البحر. كيف لهؤلاء أن ينسجموا مع بعضهم في أسابيع بعد سنوات من الحروب والقتال؟ هل سيقبلون بالأمر الواقع كما قبلناه عندما قررنا الانتقال لبيت صغير؟ هل سيشعرون بالأمن ويتخلون عن السلاح؟ هل سيساومون على  المكاسب؟ هل سيقبلون بعض الخسارات؟ هل…. صعدتُ للطابق العلوي، تعصف في ذهني تلك الأفكار والأسئلة التي كادت لا تنتهي، ودخلت غرفة نوم الضيوف لكي أُحضّر ثياب الرحلة القادمة بعد يومين، من خزانتها التي نستخدمها لخزن ثياب السفر. تأملت الحائط بلونه الأصفر الباهت… لِمَ لمْ ندهن هذه الغرفة بعد؟  لا يهم… هذه غرفة الأولاد يستخدمونها عندما يزورن، ويمكنهم أن يناموا فيها ويتحملوا لونها كعقوبة لهم على قلة زياراتهم، تماماً كما يحب أن يعاقب أولئك الذين يتفلسفون ويريدون أن تنقلب سوريا وتعود، في يوم وليلة، لعافيتها ونضارتها دون أن يقدموا الجهد اللازم، أو يتحملوا بأنفسهم عناء القيام بأبسط الواجبات… هؤلاء يجب تؤخذ منهم هواتفهم، ويقفوا أمام الحائط مبحلقين فيه، غير قادرين أن يكتبوا منشوراً واحداً على صفحات السوشيال ميديا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى