بوعلي ياسين في مذكراته (عين الزهور): الساحل السوري وتحولاته في نصف قرن
د. أحمد عسيلي – العربي القديم
قليلة جداً هي المذكرات التي قرأتها لكتّاب من ساحلنا السوري، بل هي نادرة تقريبا؛ ربما لأن المذكرات في حالتنا السورية، غالباً ما تُكتب من قبل مفكرين أو سياسيين، ويكون الهم الأول فيها لذكر الأحداث السياسية والعامة، مع إهمال كبير للسير الشخصية بصورتها الحميمية الخاصة، وهنا حتى لو كان أصل الكاتب من مناطق طرفية، فغالباً ما يركز على مساره، بعد وصوله لمرحلة الشهرة، وهي مرحلة غالباً ما تكون دمشقية أو حلبية.
أقول هذا الرأي باعتباري قارئاً ومهتماً بالتاريخ السوري، ولست مؤرخاً مختصاً، ولأدلل على ذلك مثلاً، لنأخذ مذكرات أكرم الحوراني، فوجود حياته الشخصية، وحماة بشكلها الشعبي البسيط، باهت جداً مقارنة بالأحداث العامة للبلاد، كذلك الحال في مذكرات عدنان سعد الدين كمثال آخر .
من هنا يأتي كتاب (عين الزهور: سيرة ضاحكة)، الصادر عن دار الحصاد في دمشق ١٩٩٣، ربما كحالة استثنائية على عدة أصعدة، منها أنها تتحدث عن سيرة الكاتب، وعن التاريخ الشعبي لمحافظة اللاذقية، بل هي أعمق من ذلك، تتحدث عن جبال العلويين والتحولات الاجتماعية التي عاشتها بين ١٩٤٠ و 1990، وهي فترة مهمة في تاريخ تلك المنطقة، مع الدخول الجماعي للطائفة في السلك العسكري، وما طرأ على أفرادها من تغير في نظرته للعالم.
وهي سيرة ضاحكة، سار فيها الكاتب في مجريين متوازيين، أعطاها لمذكراته بعداً أكثر عمقاً، وجعلها أكثر حيوية، مسار شخصي منذ لحظة وعيه على الدنيا في قرية عين الجرب التي تبعد ٢٢ كم عن مدينة اللاذقية، باتجاه حلب لأسرة تعود أصولها للمكزون السنجاري، رجل الدين الذي يحتل مكانة مرموقة في التراث العلوي، لأب يعمل متطوعاً في الجيش، وأم محبة وبسيطة، ومجرى عام ضمنه ٤٥١ نكتة سمعها الكاتب، أو عاشها هو نفسه في بيئاته المختلفة، يعطينا فهماً أكبر للمجتمع وعلاقاته وصراعاته من خلال تلك النهفات.
وإن التزم الكاتب بمسار زمني محدد لسيرته الشخصية، فجاءت في أربعة فصول: الأول تحدث فيه عن الأصل، والفصل الثاني عن ترحال الكاتب مع أسرته، نتيجة تنقل الوالد بين أماكن مختلفة في حلب والقنيطرة، حتى عام ١٩٥٨، والثالث العودة إلى مدينة اللاذقية بين عامي ١٩٥٨ و ١٩٦٢، والرابع عن غربته ودراسته في ألمانيا الغربية بين ١٩٦٢ و١٩٦٥، و قد نثر الكاتب بين فقرات تلك السيرة ال٤٥١ نكتة، دون ترتيب زماني أو مكاني، فقد يورد قصة حدثت في ١٩٩٠ مثلاً في الفصل الأول الذي يتحدث فيه عن طفولته أو العكس، قصة حدثت ببداية الأربعينات في الفصل الرابع، ويبدو أن الكاتب كان يود أن ينشر جزءاً ثانياً للكتاب، ربما لم يسعفه العمر له، أو ربما لظروف خاصة… فإلى أي حد نجح الكاتب في تلك السيرة؟
على مستوى السرد، فقراءة العمل كانت مسلية جداً، فيها الكثير من النهفات التي تعكس بساطة وطيبة أهالي جبال الساحل، وإن كان بعض تلك النهفات قد جاءت بلغة سوقية أحياناً (نبهنا إليها الكاتب في مقدمته للعمل)، لكن بعضها كان فيه تجريح لبعض المجموعات الدينية، بل وحتى عنصرية تجاه شعوب أخرى.
سجل الكاتب، وبكل حيادية مستوى الحياة خاصة قبل وصول الأسد للسلطة، بل ذكر أرقام شهريات والده ومصاريفهم كعائلة، مما يجعلنا نتحسر على الواقع الذي وصلنا إليه، فرغم عمل والده البسيط، فقد كانوا قادرين على دفع الإيجار، وتأمين حياة كريمة نوعاً ما.
تحدث الكاتب بجرأة نوعاً ما عن المجتمع العلوي في جبال اللاذقية، وهي جرأة نحن بأمس الحاجة لها، كي نفهم أكثر هذا المجتمع السوري، فحكى عن شيوخ العلويين ومكانتهم ونوادرهم، وعن دور الدين وطبقات المجتمع العلوي، ومن ثم البعد وعدم الفهم المتبادل بين هذا المجتمع، وغيره من مكونات الشعب السوري، سواء في محافظة اللاذقية، أو في عموم الوسط السوري، وربما من أكثر النهفات دلالة، ذكره لحادثة جرت أثناء عرض فيلم (ليالي ابن آوى) لعبد اللطيف عبد الحميد، فقد أورد أن امرأتين من حي الصليبة في اللاذقية، عندما حضرتا الفيلم، تساءلتا عن سبب عدم عرض ترجمة للفيلم، للدلالة على الغربة في اللهجة، وعدم فهم كل طرف للآخر حتى داخل المحافظة الواحدة!
تحدث الكاتب وبطريقة فيها نوع من الهمز، عن بعض المظلوميات التاريخية، التي تعرض لها سكان الريف من أهالي المدينة، دون أن يذكر للأسف الحيثيات التاريخية لتلك المظلوميات، فنظرة أهالي المدن كان فيها دائماً نوع من الاستعلائية تجاه أهالي الريف، بغض النظر عن الدين والطائفة، وهي حالة عامة في جميع دول العالم، فكلمة فلاحين في مصر معروفة كنوع من الشتيمة، حتى داخل الدين الواحد، والحال كذلك في كل الدول، لكن ذكرها الكاتب في سياق، كان فيه نوع من الغمز الطائفي الخفيف، ربما نفهم سبب الموافقة على إصدار الكتاب في دمشق بداية التسعينات، وهنا لا أتهم أبداً الكاتب بالطائفية، وخاصة أنني أعرف عنه حسه الوطني، من خلال مسار حياته العام، وأعتقد أن ما ذكره الكاتب غالباً صحيح، لكن كان يجب الشرح أكثر عن ظروف البلاد في تلك الحقبة.
تم التجاهل التام لأحداث الإخوان والصراع على السلطة، وهي برأيي نقطة تحسب للكاتب؛ لأن الحديث عنها لم يكن ممكناً إلا باتجاه واحد، وربما لأن الكاتب أراد الصدق في كل ما ينقله، فكان الصمت هو أفضل الخيارات.
لا أعرف صراحة مدى معرفة قارئ الجيل الحالي ببوعلي ياسين، ولا أعرف أيضاً مدى شهرته في عموم الوسط السوري أو العربي، ربما يكون حالياً في طي النسيان، فمنذ سنوات طويلة لم أرَ كتاباً له في المكتبات العربية، وكتبه غير متوفرة على النت، لكنه بالنسبة لنا، كقراء جيل التسعينات في الساحل السوري، كان بوعلي أحد الرموز الثقافية المهمة، وكتابه الثالوث المحرم، وشمسات شباطية كانت متوفرة تقريباً في جميع المكتبات الخاصة والعامة، ولم يكن يجري حوار فكري في الساحل، دون الإشارة إلى كتاب الثالوث المحرم خاصة، لا أعلم صراحة سبب اختفاء بوعلي من المشهد هذه الأيام، لكني على المستوى الشخصي أتمنى إعادة إحيائه؛ لأنه واحد من المفكرين ذوي النكهة في الساحل.
___________________________________
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024