الرأي العام

نوافذ الإثنين | علي الجندي: لن أنام وعمرو سعد في بيت واحد!

يكتبها: ميخائيل سعد

في مقال سابق كتبت عن بعض ذكرياتي مع المرحوم الشاعر علي الجندي. في هذا المقال أستكمل عرض ما تبقى في ذاكرتي عنه، أو عن بعض ما قاله أمامي.

علي في بيتي

لا أذكر في أي عام جاء علي الجندي إلى حمص، ربما عام ١٩٨٦ أو ١٩٨٧، وأمضينا سهرة طويلة في بيتي، مع أصدقاء آخرين. في نهاية السهرة حاول الشاعر مصطفى خضر أن يأخذ علي معه كي ينام عنده، ولكنني رفضت أن أسمح له بالذهاب، خاصة وأنه قد تناول كمية كبيرة من الكحول. كان بيتي في حي كرم شمش مكون من ثلاث غرف، واحدة للنوم، والثانية غرفة ضيوف، والثالثة غرفة فيها فرش عربي، غادر الضيوف البيت، فوضعت فرشة لنوم علي في الغرفة الثالثة.

كان ابني عمرو في الثالثة من العمر، وينام في غرفة نومنا، في تلك الليلة استيقظ عمرو في السادسة صباحا، وتسلل إلى الغرفة التي ينام فيها علي. عندما استيقظنا في الثامنة صباحا، لم نجد عمرو في سريره، فخرجت للبحث عنه، وجدته جالسا عند رأس علي، يشد شعره ويتحدثان، ابتسم علي قائلا: خذ ابنك عني ودعني أنام قليلا. في حدود العاشرة جاء مصطفـى خضر، وبعد شرب القهوة، قال لعلي: عندنا موعد في اتحاد الكتاب، ويجب أن نذهب. وخذ حقيبتك معك لأنك ستنام عندي هذه الليلة. اعترضت على كلام مصطفى، وقلت سينام أبو لهب عندنا هذه الليلة أيضا.

لم يتكلم علي، وضع أغراضه القليلة في حقيبة اليد الصغيرة، والتفت إليّ قائلا وهو يبتسم ويعبث بشعر عمرو: لن أنام أنا وعمرو سعد في بيت واحد بعد اليوم!

ابنته الجامعية

في السهرة الكبيرة التي أمضاها أبو لهب في بيتي الطيني عام ١٩٧٥، حكى الكثير من القصص التي جرت معه، ومنها أن أحد معارفه جاء إليه وفي فمه نميمة عن ابنته الجامعية، قال الرجل: يا صديقي علي علمت أن ابنتك (…) الجامعية تحب شابين في الوقت نفسه، وهذا لا يليق بسمعتك وسمعة آل الجندي، فكلمها بالأمر.

تابع علي قائلا: بعد عدة أيام التقيت بابنتي فنقلت إليها النميمة التي وصلتني عنها، وقلت: هل هذا صحيح، هل حقا تحبين شابين في الوقت نفسه؟

ضحكت ابنته قاـئلة: أنت تعرف أن لكل عين من عينيّ لونا يختلف عن العين الأخرى، وبالتالي كل واحدة تحب شخصا مختلفا، أليس هذا عدلا؟

 قال علي: شتمتها في سري، وحسدتها.

أما نحن شباب السهرة، فقد كان الأمر أكبر من فهمنا.

النضال السياسي

تذكر علي وهو يرفع بيده قدح العرق إلى شفتيه، الدرس السياسي الأول الذي تلقاه في شبابه، في خمسينيات القرن الماضي، قال: كنا مجموعة من الشباب المتحمس للعمل السياسي في إطار حزب البعث العربي الاشتراكي. كنا قد قرأنا بعض المنشورات البسيطة عن الحزب وأهدافه وضرورة تنسيب أكبر عدد ممكن من الناس إليه، وخاصة الفلاحين الذين يعيشون في القرى التي تحيط بالسلمية. أخد الأيام دعانا المسؤول الحزبي لاجتماع مهم فلبينا الدعوة. كنا مجموعة من الشباب ”المثقفين“ الذين يقع على عاتقهم، كما قال الرفيق المسؤول، مسؤولية تثقيف الجماهير وتعريفها بمبادئ حزبنا العظيم وضمها إلى صفوف الحزب. قال الرفيق: إن الكلام لا يكفي، يجب عليكم الانتباه إلي تصرفاتكم، وإشعار الفلاحين بمدى تواضعكم أمامهم.

قال أحد الشباب: هل تتكرم وتقول لنا مثالا على التواضع الذي يجب أن نظهره أمام الفلاحين؟

قال المسؤول: تعرفون يا رفاق أنكم في جولاتكم ستلتقون مع الفلاحين الذين سيحاولون دائما تقديم الطعام والشراب لكم، وسيشربون أنخابكم. انتبهوا جيدا أثناء ذلك واحرصوا أن يكون كأسكم أدنى من كأس الفلاح، فهذا دليل علي احترامكم لهم. بشكل عام، تناول الانخاب وغيرها من المشروبات التقليدية ينبغي أن يتم بطريقة متوازنة وحكيمة، مع احترام التقاليد والممارسات المرتبطة بها.

قال علي: بعد انتهاء الاجتماع، تم توزيعنا إلى مجموعات كل مجموعة مؤلفة من رفيقين أو ثلاثة، كما تم تسمية القرى التي يجب زيارتها. كانت زيارتي الأولى بصحبة أحد الرفاق إلى قرية ”صبورة“، القريبة من السلمية، وكان الهدف هو مختار القرية. رحب بنا الرجل وجلسنا على التراب، تحت ظل شجرة، وبعد أن تكلمت عن سبب زياتنا، قدم لنا المختار كؤوس معدنية فيها كمية من العرق الممزوج بالماء ورفعنا الكؤوس كي نشرب نخب التعارف والحزب، وكان من الواجب قرع الكؤوس ببعضها، حاول المختار أن يجعل كأسه أدنى من كأسي، فسارعت بخفض كأسي، ولكن المختار عاد وخفّض مستوى كأسه عن كأسي، وهكذا استمرت اللعبة إلى أن لامس كعب كأس المختار التراب، فما كان مني إلا الإسراع في حفر الأرض باليد الثانية ووضع كأسي فيها، فضحكت المختار. وهكذا انتصر تواضعي، وبرهنت للفلاح أنني مناضل حزبي عنيد يحترم الفلاحين.

ما أن أنهى أبو لهب رواية قصة تواضعه السياسي حتى رفع الحضور كؤوسهم لشرب نخب الشاعر الإنسان علي الجندي.

مونتريال ٢٦/٨/٢٠٢٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى