محاولة للكتابة عن سلمية: رأيٌ، حجرٌ أملس، بيتٌ للحب
محمد المير إبراهيم – العربي القديم
وكأن البلِاد التي لا تجد من یتحدث عن تفاصیلھا، تخبو وتذبل، كالحُب تماماً.
للوھلة الأولى ظننت أن الكتابة عن مدینتي سلمیة التي تقع في وسط سوریا ستكون سھلة. طفل یكتب ُ عن رحلةٍ مدرسیة، أو یرسم منظراً طبیعیاً یحفظه. قرص الشمس في الأعلى مُذیلٌّ بخیوط ذھبیة. بیت ٌ ذو سقف ٍ منحنٍ على ضفة نھر صاف ٍ، وجبلٌ بنُي اللون یحاول تغطیة الشمس بقمته دون جدوى.
خاب ظني وزادت حیرتي وضیاعي. بدأت الأسئلة تغزو رأسي، كالبیاض الذي تغلغل فیه بغتةً. كیف َ لم أكتب عنھا؟ لمَ؟ أھو الھروب من الواقع إلى الحُلم؟ أھو الھروب من الحلم والواقع معاً؟ ھل نسیت سبعة وعشرین عاماً عشتھا في تلك الأزقة والحواري؟ لا أعلم. الغالب ھو الألم. الأدق ھو كظمٌ واعٍ للألم ولأسبابه .
في السادس من تشرین من العام الحالي قامت بوارج الكیان الصھیوني بقصف أحد مستودعات الذخیرة التابعة لجیش النظام السوري بالقرب من مدینتي سلمیة. انتشرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صورة للِنفجار الناتج عن ذلك القصف، كُرةٌ ناریة ظھرت خلف قلعة الشمیمیس الأثریة تجاوزت ارتفاعھا بعدة أمتار، في صورة درامیة تجسد واقع مدینة صغيرة وتختزل حال بلد بأكمله . هي صفعة فصلت بین الحلم والواقع، الأمنیات وتراب الأرض، وھمٌ عشته على امتداد سبعة وعشرین عاماً، واقعٌ تجرعته كالسم خلِل عشر سنوات عشتھا في المنفى.
أمُّ القاھرة
كانت ھذه العبارة لغزاً منذ الطفولة، استفزت عقلي واستنھضت فضولي في كل مرة سمعتها.
سلمیة كانت مخبأ مؤسس الدولة الفاطمیة في المغرب العربي ومصر لاحقاً عبید ﷲ المھدي، منطلقاً للدعوة الشیعیة الإسماعیلیة في ذلك الوقت ومركز ثقل دیني وتاریخي لھذه الدعوة ذات المدینة أعید إحیاؤھا بقرار من السلطات العثمانیة لدرء غزوات البدو عن مدینتي حمص وحماه نھایات القرن التاسع عشر.
كُنا كأطفال محرومین من حكایا الجدات نذخّر خیالنا من خلِل تلك القصص عن المكان الذي وُلدنا فيه. قناةُ الماء التي شقھا أمیر ُ سلمیة العاشق من سلمیة إلى أفامیا تحبباً بأمیرتھا ورغبة منه بالزواج منھا .
نمت ھذه الحكایا في داخلنا وتجذرت، كانت سلمية بطلتها على امتداد تاريخها، وضيق مساحتها، فالبطولة حين تر ُوى تفتح الباب أمام احتمال الحیاة احتمال أن الحكایة قابلةٌ لأن تتحقق. وأن الحجارة الخرساء تنطقُ. حالة مُعقّدةٌ من المزج بین التاریخ المحكي والمستقبل المرجو.
ھذه الحكایا زرعت فینا الكثير.أن للحب قدرة على شق طریقه بین الصخر والمسافات، أن للحب قدرة التحول إلى ماءٍ عذب عبر الزمن. أن شخصاً واحداً قادر ٌ على تغییر مستقبل وتاریخ بلدان ممتدة من الشرق إلى الغرب، إن امتلك العزیمة والإرادة والشجاعة والذكاء. حین شب ّ عودنا ودخلنا مرحلة الشباب، صرنا ننظر على امتداد بصرنا وانتقلنا من التاریخ القدیم ونحن في مرحلة الطفولة إلى الماضي القریب. أحد زملِاء الدراسة مغضوب ٌ علیه في المدرسة دون أن نعرف السبب.
فجأة علمنا أن السبب الحقیقي وراء ذلك الغضب والمعاملة الفجة ھو والده، الذي سُجن في ثمانینیات القرن العشرین في عھد الأسد الأب لانتمائه لمنظمة العمل الشیوعي ومعارضته لنظام الحكم. بدأنا نسأل ونسمع حكایا من نوعٍ آخر. فتبین أن كل بیت في سلمیة لدیه حكایة من ھذا النوع. فقد كانت مركز ثقل في العمل السیاسي المعارض لنظام البعث. شیوعیون وبعثیون شُباطیون وقومیون سوریون وناصریون.
یقال في سلمیة أن كُل إنسان یحتاج أن یكون یساریاً في مراھقته شكّلت ھذه البیئة مناخاً مریحاً، ونسبة من الانفتاح المھم فكریاً لنا كشباب في مُقتبل العمر. أو ھكذا فھمنا واقعنا بسذاجة المراھقین…
كان الأفق یمتد من جبل عین الزرقاء إلى حدود سلمیة شرقاً على طرف بادیة الحماد. اكتفینا بأغاني فیروز وأم كلثوم وعزیزة جلِال ومحمد عبد الوھاب صیفاً، یاس خضر، حمید منصور، سعدون الجابر، سعد الحلى، سعد البیاتي، ریاض أحمد فؤاد سالم شتاءً، مع كأس من العرق أو البیرة على سفح جبل عین الزرقاء، وكتب ٌ فتحت باباً على العالم أمام أعیننا.
الحیاة في سلمیة كانت على ھذا الشكل، خلیطٌ غریب ٌ من المشاعر والأفكار والأشخاص . خیالٌ یمتد لسنوات من المروج الخضراء والشق شقیق (شقائق النعمان) والورد الجوري
القرامطة الإسماعيليون، حسن الصباح، سنان راشد الدین، فلادیمیر إیلیتش أولیانوف، أرنستوا تشي غیفارا، أنطون سعادة، ماركس، ھیغل، أخوان الصفا، خلِن الوفا، الحُسین، عُمر الفاروق، خدّ المسیح الأیسر والكثیر الكثیر من الأسماء وما وراءھا من معانٍ وأفكار.
في المقابل: واقعُ مدینة یصرخ عطشاً، إذ أن الماء لا یصل بیوتھا سوى مرة في الیوم ولمدة ثلاث ساعاتٍ في الصيف. لا صناعة، لا تجارة، زراعة خجولة تأثرت باضمحلِال زراعة القطن التي شجعتھا الدولة في مرحلة معینة والتي كانت سبباً بتناقص نسبة المیاه الجوفیة في المدینة . دار ٌ للسینما عُطّلت وأصبحت مرتعاً لنا في أیام الأعیاد لمشاھدة الأفلِم ذات التقیم فوق 18+ . مركز ٌ ثقافي یحتوي مسرحاً ومكتبة عُطّلَ أیضاً بعد اعتقال مدیره عبد الكریم الضحاك في ثمانینات القرن الماضي . مدینةٌ تعداد سكانھا ١٠٠ ألف نسمة، لدیھا أربع مفارز أمنیة كل منھا تابعٌ لجھة أمنیة مختلفة. شعبةٌ رئیسیةٌ لحزب البعث وبعض المكاتب لأحزاب رضخت لنظام الأسد وانضمت إلى ما یسمى بالجبھة الوطنیة التقدمیة. عشرات الملِاھي اللیلیة توزعت في محیط المدینة .
خمس ُ أو ست جوامع في مدینة غالبیة سكانھا من أتباع مذھب إسلامي مختلف، عشرات المساجد انتشرت في كل زاویة من زوایا المدینة لأتباع المذھب الغالب على سكانھا. عشنا ضمن ھذه البیئة المركبة بسذاجة المراھقین وطیب الجوار وحُسن النیة. نعم نحن من نخلق أوھامنا بأنفسنا، الزمن له سلطة تحطیم ھذه الأوھام ورمینا في صحراء الواقع القاحلة.
أھذا ما تذكره عن البلِاد؟ عن مسقط رأسك؟ تردد صدى ھذا السؤال في داخلي عمیقاً حتى وصل قلبي. لم أستطع الإجابة مباشرةً، فالألم یغمر تفاصیل الراحة، والحُزن یجب ّ ماسبقه من سعادة. أما الخیبة فتعادل الأمل في ماھیتھا وشدتھا. تشربت ُ البساطة من شوارع سلمیة، الوضوح كالشمس في صیفھا الحار. ضحكات عجائزھا على أبواب بیوتھا الحزینة. أمي، أبي دفنا في ترابھا.
سلمیة ھي الصِبا والصَّبا والصّبر ُ بینَ مفاصل حجارة أرصفتھا، تركت ُ أولى صرخات حریتي ونثرات ٌ من كیاني المستباح. علمتني فراسة البدوي، رجاحة المُفكر. في سلمیة عرفت ُ معنى تراب الأرض مشیت في حقولھا العطشى، رأیت ُ الشمس لأول مرة. الحُب ُ الأول، القبلة الأولى، الكأس الأول، الفكرة الأولى، الانعتاق الأول، الصفعة الأولى.
جاءت الثورة السوریة في آذار ٢٠١١ صرخةً وجودیة جدیدة، ولحظةَ خلق انتظرناھا طويلاً. قامت المدینة نصرةً لدرعا وبانیاس في البدایة ولباقي المدن السوریة، وانطلقت شرارة الاحتجاجات المناھضة لنظام الأسد.
لم أشعر بالقوة یوماً كما شعرت حین سرنا خمسة عشر َ ألف شخص في شوارعنا التي ملكناھا للمرة الأولى. مرة أخرى منحتنا سلمیة حكایة، ھذه المرة كانت حكایتنا الخاصة. ستة أشھر استمرت المظاھرات السلمیة، كُنا نرقص ونضحك، نبكي، نخاف.
إحدى المرات اختفت أصواتنا ونحن نھتف لحمزة الخطیب الطفل الشھید، لحماه، حمص، درعا، قریة البیضا. حینھا أحسست أن صوتي تركني وذھب إلى كل مدینة، كُل بیت، كًل شھید، كل حجر دمر. كل شجرة قطعت، كل مسجد، كل كنیسة، لیقبل منھم مابقي حزناً ومواساة.
حبات ُ الرز التي نثرت علینا من نوافذ وشُرفات بیوت سلمیة وشوارعھا الفقیرة أثناء المظاھرات التي شھدتھا. صدیقي وابن مدرستي محمد حسون الزیر الذي استشھد في معارك ضد نظام الأسد في مدینة دیر الزور.
الشھید الطیب الدمث ملھم رستم استشھد برصاص جیش النظام الأسدي في ریف حمص الغربي وھو ینقل مساعدات طبیة للسوریین المحاصرین ھناك.
شھدت ُ ولادة الحُب في شوارع سلمیة الثائرة كانت أھم سنوات حیاتي لكنھا انتھت. ھجرت مع الكثیرین من أبناء المدینة منذ حوالي عشر سنوات قسراً. اختصار عشر سنوات في أسطر ھو أمر ٌ صعب.
تغو ّل النظام السوري في المدینة، ھجر الكثیر من أبنائھا، قدم مثلھم قرباناً لبقائه، أصبحت المدینة كباقي المدن السوریة، غابةً تنھش ُ الناس لحم بعضھا البعض .
الشوارع في الفیدیوھات التي ینشرھا بعض السلامنة على وسائل التواصل الاجتماعي أرى والطرقات البیوت والشرفات حزینة كئیبة داكنة. لا كھرباء بالمُطلق لا ماء.
قسّمت المدینة كما سوریا إلى فئتان:
الأولى لا أحد یعلم من أین امتلكت المال أو كیف، تعیش كأنھا في كوكبٍ آخر.
الثانیة وھي الأوسع، فئة مسحوقة لاتستطیع تأمین رغیف خبز أو حبة قمح كي تستمر.
فروقات ھائلة، قلبت ما بنته سلمیة خلِل آلاف السنین من فكر وفن وأدب وثقافة. سلبت ما امتلكته من تاریخ وحاضر ومستقبل. الحلم المبني على محاكاة التاریخ والفكر والثقافة والمعرفة. الواقع المرتكز على الإنسان ومخزونه القیمي البسیط الفطري. كُلّ ھذا تكسّر
سلمیة لم تستطع التكتل لا طائفیاً، لا اجتماعیاً، لا فكریاً، لا سیاسیاً، لا اقتصادیاً. لتحمي نفسھا وتحمي أبنائھا. قامت بعكس مایفترض أن تقوم به. لا أراھا سوى كما قال العظیم الجمیل ریاض الصالح الحسین: “یا سوریا التعیسة كعظمة بین فكي كلب” عشتها خلال ٢٧ سنة هكذا سلمية.
***
سلمية: بورتريه شعري
بابٌ أزرق، خشبي عتيق غيفارا يرقصُ كالممسوس
أمي تبتسم في وجهي
شجرةُ الكباد بأثدائها الألف
سبائك الذهب الصفراء الحامضة
غمرت السادسة عشرَ من عمري
نارُ الصباح تقتل الليل احتراقاً
سوادٌ يغمرُ القلب شعَّ من شعرُ جارتنا الصبية
فيروز تصدح.
دورٌ جديدٌ يمسك بي
إمامٌ جديدٌ يسكنُ بي
وصوتُ عربةِ الحُضار
يجرها جارُنا البعيد
سلمية
رأيٌ، حجرٌ أملس، عصفور بني
بيتٌ للحب
شِعرٌ منسوج من الشَّعر
جدائلٌ
وترُ ربابة
ثَرى الأحباب
شرايين القلب تنبضُ بين الحرية و المدى
أسماءٌ للأحبة، وجوهٌ للأعداء
خيبةُ الخيبة
قِبلةُ القُبلة
دمٌ أحمرٌ مُرمَّزٌ ومجدول
مساءات…صَباحات
عالمٌ اكتُنِزَ بين خطوات الصبا
فتاةٌ تمشي على الرصيف
تُكسّر أصابع أُمها قسراً
تقتلها وهي تنسجُ لها كنزة من الصوف
لتلبسها يوم العيد
فداءً لنظرة محبوبها
ثورةٌ حمراء تشبُّ بين الحرف والسيف
سلمية
سحرٌ، وهمٌ، أملٌ ، فهمٌ
تُرابٌ لنا فيه دمٌ
تُرابٌ لهُ منا الدم، اللحم، والعظم
والرِثاء
جميييل جدا ماكتبت …وأفضل ما قرأت عن هذه المدينة ..حيث تكنس ريحها كرات الشوك في الصيف الحارق … واصطكاك الأسنان من البرد في الشتاء …وشراء الكتب القديمة لاشعالها كي تتدفأ بها
تحية لك