نقد التاريخ: جلد للذات أم طعن بالوقائع والرموز؟
قضية يناقشها: مهند الكاطع
“لا يوجد أمّة تطعن بتاريخها كما يفعل العرب اليوم”، هكذا وصف المؤرخ الكبير سيّار الجميل ما يحدث في واقعنا اليوم في ختام محاضرته التي ألقاها خلال زيارته قبل أيام في العاصمة الأردنية عمّان تحت عنوان “مآلات العرب في ضوء التكتلات العالمية الجديدة”.
والواقع أنني لستُ اليوم في معرض المقارنة بين مفهوم النقد الموضوعي وبين جلد الذات، و بين مراجعة ودارسة التاريخ وبين الطعن به وتشوييه، فما يحدث اليوم في عالمنا العربي وبكل أسف هو طعنٌ صريح ليس فقط بتاريخنا، بل بقيمنا وتراثنا وديننا ورموزنا وكل شخصيّة تركت بصمتها في التاريخ، وكل ذلك يحدث بأقلام أشخاص (مُتهمون) “بالثقافة” تارةً، و”بالتنوير” تارةً أخرى، ولا أدري لماذا أصبحت شماعة “التنوير” وهو المفهوم الذي ظهر كحركة فكرية في أوروبا في القرن الثامن عشر، والتي هدفت إلى تحرير العقل البشري من القيود التي كانت تفرضها عليه المؤسسات الدينية والسياسات التقليدية، إلى مجرد أداة للطعن بكل ما يمت إلى تاريخنا وقيمنا الاجتماعية وهويتنا الحضارية والثقافية المتراكمة منذ آلاف السنين بصلة؟ لماذا هذا الخلط المتعمد بين القومية العربية كإيديولوجية وما ارتبط بشعاراتها من أنظمة أساءت استخدامها وبين العروبة كحامل ثقافي وحضاري وتاريخية لهذه الأمة؟
ما الرابط بين التنوير وبين محاولة تشويه كل رموز هذه الأمة؟
لم يبقَ خليفة ولا سلطان ولا قائد ولا شخصية عظيمة أحدثت أثراً عميقاً في تاريخنا، وتركت بصمتها في وجداننا، إلا وتم الطعن بها بشتى السبل والوسائل، ولم يبقَ حقبة مشرقة في تاريخنا تركت أثرها الحضاري إلى العالم إلا وتم تشويهها، والتشكيك بها وبهوية علمائها و حتى بآثارها وأفضالها. وكأن المطلوب من هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم “تنوريين” زرع الشك والإحباط في نفوس الأجيال القادمة، وفي كل تراث يرتكزون عليه في استشراق مستقبلهم، فالمطلوب الإمعان بتدمير هذا المستقبل من خلال نسف هويتهم وخصوصيتهم وقيمهم الاجتماعية والدينية.
صحيح أن الشخصيات العظيمة تكون دوماً مثار جدل، بقدر الأثر العظيم الذي تُحدثه ويترك أثراً طويل الأمد، لذلك يكثر أعداؤها ومنتقدوها، لكن عادةً ما يتطوع الأعداء الخارجيين لمثل هذه المهمات، وحتى عندما يكون هناك نقد داخلي، يكون من قبل أشخاص على قدر عال من الوعي والمعرفة، مع الالتزام بأخلاقيات الخلاف والاختلاف والنقد الموضوعي، الذي يحمل أهدافاً سامية تسعى للتعلم من أخطاء الماضي وتطويع نتائجها في بناء المجتمع وتطويره، لا أن يتحول الأمر إلى خروج جيل همه إخراج الأحداث التاريخية من سياقها وعصرها، وإسقاطها على مفاهيم معاصرة، بغرض إظهار مثالبها وسلبياتها وتشويهها، مع أن التاريخ كله نسبي، فيه الإيجابي والسلبي، فالأخذ بالسلبيات دون الإيجابيات لا شك أنه لا يمكن وضعه في خانة النقد ولا المراجعة بقدر ما هو خدمة لأجندات مشبوهة تنظم هذه الأدوار وتقدم لها الدعم تحت يافطات ومسميات وألقاب مختلفة.
لم يتركوا رمزاً إلا وطاله التشويه وأحياناً الشتم بأقبح الألفاظ، من خالد بن الوليد، إلى عمر بن العاص، ومعاوية ابن ابي سفيان، ثم أبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي، وسلاطين المماليك والعثمانيين وصولاً إلى عبد الناصر في العصر الحديث.
فخالد بن الوليد رجل عسكري من الطراز الأول، صحابي جليل، حقق انتصارات وفتوحات باهرة واستطاع بانتصاره على الروم في معركة اليرموك التي ستشكل علامة فارقة في تاريخ الوجود الرومي في الشام، وبناء الأسس الأولى التي مهدت لظهور أول حضارة إسلامية مركزها دمشق امتد تأثيرها ليصل إلى أصقاع الأرض. ثم يأتي اليوم من يحاول الطعن بتاريخ هذه المرحلة التاريخية، وتشويه الفتح العربي الإسلامي، من خلال الطعن برمزية خالد بن الوليد، وليّ أعناق الأدلة التاريخية وإخارجها من سياقها، لإبراز صورة خالد بن الوليد كقاتل ومجرم ومغتصب!
أبو جعفر المنصور الذي كان من أعظم منجزاته تأسيس بغداد دار السلام، وجعلها مركزاً للثقافة والحضارة الإسلامية، وعاصمة الخلافة، والذي قام بتوحيد الدولة العباسية وقمع الحركات التي هددت استقاررها، وتنظيم شؤون الدولة، وتشجيع العلوم والمعارف، وتشجيع الزراعة وشق القنوات، يتم اتهامه بأنه دموي لأنه قاتل خصوم دولته في مطلع تأسيسها، ويتهمونه بالبخل وبنفس الوقت بصرف الأموال على العمران والترف!
هارون الرشيد الذي عُرف بتقاه وبأنه راعي العلماء والأدباء ومؤسس بيت الحكمة الذي مثل مركزاً للإشعاع الحضاري والثقافي في عصره، الخليفة العادل الذي أرسى دعائم الأمن والاستقرار في الدولة العباسية وقضى على البرامكة، وامتدت علاقاته الدبلوماسية لتشمل أوروبا، وحقق العديد من الانتصارات للدولة العباسية، يتم تصويره بالحاكم المستبد القاتل المبذر في أموال الدولة والمفسد صاحب الجواري والغواني.
ينطبق ذلك على صلاح الدين الأيوبي، الذي عاش حياته بطلاً مقاتلاً على الثغور، واستطاع استعادة وتحرير القدس وهو الإنجاز الذي شكل نقطة تحول بارزة في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي، كما أنه مثّل رمزاً للوحدة الإسلامية إذ أنه استطاع توحيد الشام ومصر تحت قيادته وقاد المسلمين لتحقيق انتصارات عظيمة على الصليبيين. كل هذا دون أن يفرط في قيم التسامح التي أثرت عميقاً في الوجدان المسيحي الذي امتدح صلاح الدين بل ووصل الأمر من المغالاة إلى حد أن يزعم بعضهم أن صلاح الدين تعمد سراً لنفي صفة التسامح مع غير المسلمين عن قائد مسلم.
ليأتينا اليوم من بين ظهرانينا من يحاول تشويه صورته، مثل يوسف زيدان الذي وصلت به البجاحة إلى وصف صلاح الدين بأنه “أحقر شخصية في التاريخ الإنساني”، محاولاً استلال الأحداث من سياقها وتحويرها، وإظهارها كمثالب بحق صلاح الدين الأيوبي! فيذكر الجولات التي خسرها صلاح الدين الأيوبي ولا يذكر انتصاراته، وينسى أيضاً ما نقله المؤرخون كيف كان صلاح الدين يضطر أحياناً لهدم حصون المسلمين وحرقها بعيون تملؤها الدموع وقلب يملأه الأسى عندما يتيقن في الميزان العسكري بأنه سيخسرها لصالح أعدائه ليحرمهم من الاستفادة منها والتحصن بها! ثم يأتي أمثال زيدان ليتهم صلاح الدين بقتل 800 ألف إنسان بريء، ويجعل منه شخصاً انقلب على الفاطميين وقطع نسلهم، في حين أن المؤرخين من أمثال أبن أثير كان قد اتهمه بالتساهل والتميع في معاملته للفاطميين، وغير ذلك من الافتراءات أو محاكمة بعض النصوص خارج سياقها ومفاهيم عصرها! في حين نرى إنصافاً من مستشرقين أوربيون بارزون لصلاح الدين الأيوبي من أمثال: توماس أرنولد، ويل ديورانت، مكسيم رودنسون، كارين ارمسترونج وغيرهم.
السلطان العثماني سليمان القانوني الذي عرفه الغرب باسم سليمان العظيم، وهو الشخصية العظيمة فعلاً التي تركت أثرها في الدولة العثمانية والعالم الإسلامي، فقد شهد عصره المرحلة الذهبية للإمبراطورية العثمانية، وأكبر اتساع جغرافي لها إذ ضمت من أوربا المجر ورومانيا ويوغسلافيا وبلغراد وكرواتيا وسلوفينيا ومناطق أخرى، وشهد عصره ازدهاراً عمرانياً وحضارياً وفنياً، وإصلاحات قانونية عظيمة لإصلاح شؤون الدولة والمجتمع، واستطاع سليمان الحفاظ على توازن القوى في أوروبا وحقق انتصارات عسكرية كبيرة وتصدى للصفويين، ثم يأتي من يبكي بعد 500 سنة على الدولة العثمانية ويتهم سليمان القانوني بإهدار موارد الدولة في الحروب. ويتهمه بقمع الاقليات الدينية، ويصوره بأنه لا شأن له إلا الاهتمام بالجواري والغواني!
ويطال ذات النقد جميع السلاطين العثمانيين وآخرهم السلطان عبد الحميد الثاني الذي وجد نفسه مدافعاً عن وحدة أراضي السلطنة ضد التهديدات والمؤامرات التي حاكها الغرب، وبقي مدافعاً عنها ولم يفرط في أي جزء منها، واضطر لمواجهة التدخلات العسكرية الروسية والإنجليزية التي كانت تعتمد احياناً على بعض فئات الشعوب العثمانية عبر الدعاية الدينية، وحاول بناء المدارس والجامعات في عهده، كل هذا لم يمنع من ظهور الأصوات التي حاولت تشويهه ووصفه بالقاتل والدموي والسلطان الأحمر ! والمسؤول عن المجازر والمتخلف والمسبب لانهيار الدولة وسقوطها!
كذلك محمد علي باشا الكبير الذي لقب بمؤسس مصر الحديثة، القائد الذي أنقذ مصر من الفوضى والانحلال بعد الحملة الفرنسية، وقام بتحديثها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، كما كان رائداً للتحديث والصناعات في مصر وأرسل البعثات الطلابية إلى أوروبا، وحقق استقلالاً وخصوصية كبيرة عن السلطنة العثمانية، ثم يخرج اليوم علينا من يحاول تصويره بالمستبد الدموي الديكتاتور القاتل والسفاح الكبير.
ومع ظهور عصر القوميات لدى الأوربيين وانتقاله إلى المشرق وإلى شعوب الدولة العثمانية السابقة، وسيطرة الخطاب القومي الأيديولوجي، ظهر في العالم العربي شخصيات قومية استطاعت التأثير في مجرى الأحداث والوعي الشعبي، وأبرزها جمال عبد الناصر، الذي قاد ثورة 1952 وأنهى الحقبة الملكية في مصر، واستطاع تغيير البنى الاجتماعية ومفاهيمها، وإقامة ثورة على المستوى الشعبي والتعليمي، واستطاع تحرير مصر من الإنجليز، وتأميم قناة السويس، وبنى السد العلي رغم العدوان الثلاثي على مصر، وخاض حرب الاستنزاف ، وخاض حرب ال٦٧ مع اسرا.ئيل وهُزم فيها الأمر الذي دفعه لتطوير الجيش وإعادة بنائه وتأسيس مصانع الدفاع التي لا تزال قائمة، ليتحقق بعدها انتصار ثورة أكتوبر 1973، وقام بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وحقق نهضة صناعية لم تكن موجودة في مصر، واستطاع أن يكون لاعباً سياسياً في آسيا وأفريقيا ويكون صوتاً مؤثراً في العالم.
ثم تخرج أصوات لم تقرأ شيئاً من التاريخ، وتردد خطاب أعدائه الذين لا يرون فيه إلا ديكتاتوراً متسلطاً قاتلاً، أضعف الاقتصاد المصري، وأنهك الجيش في معارك خاسرة، وغير ذلك من الأقاويل.
خلاصة القول
التاريخ نسبي، والشخصيات التاريخية هي بالنهاية بشر، يصيبون ويخطئون، فكما أنه ليس المطلوب تقديسها وأن تصبح أصناماً لا يسمح بنقد تجاربها ومراجعتها، لكن لا يكون ذلك مبرراً وسبيلاً لشيطنتها، ومحاولة تشويه تاريخ أمة بأكملها وأتهامها بأنها مخدوعة في تاريخها ورموزها، وأنها أمة لا تفتقد للقيم ولا الإرث المضيء وحسب، ولكنها لا تستطيع النهضة، وأنه لا سبيل لها بالنجاة إلا باستيراد القوالب الأجنبية والأيديولوجيات الجاهزة والخضوع لها وتقليدها.
واللـه ياراجول شي غريب، الدول والأمم الأخرى تفتخر بزعمائها وقاداتها وشخصياتها التاريخية حتى لو كانت “عاملة السبعة وذمتها”. اسم “جنكيز خان” وغيره من أسماء قادة المغول الأكثر الأسماء شيوعًا وشعبيةً في منغوليا والشتات المنغولي حول العالم. نابليون بونابرت من رموز فِرنسا بالرغم من أنه كان طاغيةً. وعلى هذا قِس.
والنقطة الأخرى، تراهم يُقدّسون تراث هذه الشخصيات، حتى لو كان موضوعًا، فلا يجرؤ أحدهم على انتقاد مقولة أو التحقق من صحة مقولته، حتى لو كان من آلاف السنين، مثل كتابات وأقوال أفلاطون وأرسطو وأوريليوس وغيرهم، لكن يتجرؤون على انتقاد تراثنا العربي والإسلامي. بالرغم من وجود الآلاف من المخطوطات – بعضها الأصلي بخطّ الكاتب – والتناقل المتعدّد الشفاهي والمخطوط المتواتر المستمر لهذا التراث، إضافةً إلى تأكيد صحته ودقته حتى من عُلماء الاستشراق الغربيين.
نعم، ثمة من يبالغ في تشويه المحطات المضيئة والشخصيات البارزة في تاريخنا، لكن كان من شأن هذا المقال أن يكون أكثر توازناً وتكاملاً لو أشار إلى نقطتين:
1, حالة العجز والضعف والهزيمة التي نعيشها في هذه الأمة، والتي من شأنها دفع الناس المحبطة إلى الكفر بكل ما يتصل بأمتها.
2. مبالغتنا المرضية في إبراز تلك المحطات وتلك الشخصيات بأبهى صورها، وإخفاء كل ما شابها من أخطاء وعيوب، والتعامل معها بنوع من القداسة، هو ما يحرض على تحطيم ذلك والهاب في الاتجاه المعاكس، فالمبالغة في التقديس تستدعي المبالغة في الشيطنة، ونحن من يتحمل مسؤولية ما يحصل بسبب إضفاء القدسية على ذلك التاريخ وتلك الشخصيات دون السماح بإخضاعها للنقد والمحاكمة الموضوعية..
وكم أتمنى على الصديق مهند أن يستكمل هذا الجهد الطيب، ويدعو، على غرار الأوروبيين، إلى وضع التاريخ بمحطاته وشخوصه على طاولة النقد والتشريح العقلاني والموضوعي، كي نتصالح مع تاريخنا أولاً، ونخفف من الشعور بهذه الهوة السحيقة التي تفصلنا عن ذلك التاريخ، ونتواضع قليلا في تعاملنا مع الآخرين وحضاراتهم وإنجازاتهم.
وخالص الشكر والمودة للعزيز مهند.