أرشيف المجلة الشهرية

"العربي القديم" ومئوية نزار قباني

بقلم: بدر الدين عرودكي

كما لو أن الصفحة الأولى في العدد السادس من مجلة “العربي القديم” الذي كرسته لمئوية نزار قباني أرادت أن تقول، بصورة غنية بالدلالات، سببَ وجودها: ربط حاضر السوريين بالمُشرٍقِ من ماضيهم عبر إحياء ذاكرة سورية جرى تغييبها خلال السنوات الأخيرة التي نيَّفت على الخمسين، واستعادة الرموز الأساس في سورية القرن العشرين الذين جرى العمل على تناسيها عند العجز عن تجنيدها في جوقة تكريس أبدية فرد ارتقى من وزير دفاع مسؤول عن هزيمة كبرى إلى رئيس جمهورية ستصير بين يديه جمعية مافيوية بامتياز.

خمسة وعشرون عامًا مضت على رحيل واحد من كبار شعراء سورية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تجرؤ مجلة سورية واحدة خلالها على أن تكرس حوله ملفًا أو عددًا خاصًا في الوقت الذي احتفت به وبشعره طوال السنوات التي تلت وفاته مجلات عريقة في العالم العربي. لم تحتل صورته أغلفة مجلات عربية مختلفة في لبنان ومصر والكويت فحسب، بل ملأت المقالات النقدية أو السردية عن حياته وشعره عشرات الصفحات فيها. إلا المجلات في سورية! وها هي “العربي القديم”، السورية الولادة والعربية الانتماء، تسارع وهي تحتفي بمئوية هذا الشاعر الكبير إلى كسر المثل القائل “لا كرامة لنبي في وطنه” مبرهنة على أن الجيل الذي حيل بينه وبين حريته وكرامته هو الذي سيعيد وضع الأمور في نصابها ومن بينها نفض الغبار الكثيف الذي تراكم خلال عشرات السنين الأخيرة عن وجوه وأحداث وأفعال ومنجزات كانت بعض مفاخر سورية وشعبها كي تعيد إلى الوطن المهشّم شيئًا فشيئًا ألقه وتحمل من هيمن عليه اليأس على أن يجعل من ماضيه الذي أريد حجبه عنه حافزًا لبناء مستقبل لا يقل ألقًا عن ذلك الذي عرفته من قبل.

   وكما فعل في الأعداد الخمسة التي سبقت هذا العدد الذي كُرِّسَ لنزار قباني، عمل مؤسس ورئيس تحرير “العربي القديم” وفريقه على جمع مختلف العناصر الضرورية لموضوع الملف: شاعر دمشقي ملأ دنيا العرب طوال نيّف وثمانين عامًا، منذ أول ديوان شعري له صدر في أيلول/سبتمبر 1944 ولا يزال حتى يومنا هذا. بعض هذه العناصر مختارات مما نشرته مختلف المجلات والصحف العربية حول حياته وشعره ومختلف المعارك التي خاضها، سواء تلك التي تناولت المضمون الاجتماعي الجريء في شعره كقصيدة “خبز وحشيش وقمر، أو تلك التي أثارتها قصائده السياسية، ولاسيما بعد هزيمة حزيران/يونيو عام 1967، أو بعض ما كتبه شعراء سوريون عنه في الأعداد الخاصة التي خصصت له والتي صدرت في العالم العربي قبل وفاته أو على إثرها، وبعضها الآخر مقالات كتبها اليوم كتّابٌ ينتمون إلى أجيال مختلفة قدم فيها كل منهم قراءته الخاصة لشعر نزار قباني.

غلاف العدد السادس من (العربي القديم) الخاص بمئوية نزار قباني

هكذا يستطيع القارئ اليوم أن يعيد اكتشاف نزار قباني، لا حفيدًا لأبي خليل القباني، مؤسس المسرح في سورية، وهو يستعيد ذكرى جدّه في شيكاغو عندما قدم فيها عرضًا مسرحيًا وغنائيًا في معرضها العالمي عام 1893 فحسب، بل شاعرًا قرأ العالم العربي شعره واستمتع به، ولحَّن قصائده وغناها الكبار في عالم الأغنية العربية. لم يماثله في شعبيته وانتشار شعره سوى محمود درويش على خصوصية شعر كل منهما أسلوبًا ورؤية. وسيقرأ آراء عدد من النقّاد العرب الذين اختلفوا في نظرتهم إلى نزار قباني، سواء بمناسبة قصيدة سياسية أو في تقويمهم له كشاعر. لابل سيكتشف أيضًا كيف أن بعض نقاده، ولاسيما من الشعراء، قد أعادوا النظر في تقويمهم أنفسهم عندما انتقلوا من السخرية من شعره عندما كانوا في مقتبل العمر إلى تحليل شعره بعد سنوات حين احتل نزار قباني الشاعر مقدمة المشهد الشعري لا في سورية فحسب، بل في العالم العربي كله.

تحيلنا أهمية هذا العدد حول مئوية نزار قباني، إلى ميزة المنهج الذي اختارته مجلة “العربي القديم” والذي يتيح لنا استعادة أسماء كتاب ومفكرين وشعراء وسياسيين وصحفيين غابت أو غُيِّبت طوال السنوات الخمسين الماضية، منها على سبيل المثال لا الحصر: كاظم داغستاني، جميل صليبا، خليل مردم بك، بشير فنصة، أورخان ميسّر، فليكس فارس، سعد صائب، محي الدين صبحي، نصوح بابيل، أحمد عسة، عبد الغني العطري.. وهي من الأسماء التي إن بقيت في ذاكرة قلة من السوريين المخضرمين إلا أنها خلت كليًا في الذاكرة العامة التي عمل النظام البعثي ثم الأسدي على تغييبها فيها كليًا.

بفضل هذا المنهج الذي سارت عليه مجلة “العربي القديم” منذ عددها الأول، يمكن للقارئ أيضًا أن يلاحظ الحرية المتاحة للكتاب في التعبير عن آرائهم. بذلك يمكن للقارئ أن يلاحظ أنه ليس ثمة إجماع على اعتبار نزار قباني شاعرًا كبيرًا، وليس ثمة أيضًا إجماع على نقيض ذلك. لكن ذلك يؤكد بالضرورة أن اختلاف الناس على شاعر أو كاتب أو مفكر يعني أنه استثنائيّ بمعنى ما! ألم يختلف الناس على كثير من الشعراء الكبار، بدءًا بالمتنبي وليس انتهاء بمحمود درويش؟

من ناحية أخرى، تسمح حرية التعبير هذه في نشر آراء مختلفة، وأحيانًا متضادة، في “العربي القديم” حول مختلف الموضوعات التي تتناولها أعدادها، بقراءة جانب هام من المشهد الثقافي السوري القائم اليوم كما يمكن أن يتيحها لنا بوجه خاص العدد الثالث  الذي كانت فيه هذه الحرية شديدة الحضور والذي صدر في مطلع شهر أيلول/سبتمبر الماضي وكُرِّسَ لتناول موضوع الحركة العسكرية الانقلابية التي أنهت الوحدة السورية المصرية وعرفت منذئذ بحركة الانفصال، بمناسبة مرور اثنين وستين عامًا عليها، نظرًا إلى أنه موضوع خلافيٌّ بامتياز لدى السوريين والمصريين خصوصًا مثلما هو كذلك لدى كل من يتناوله من المؤرخين أو المفكرين السياسيين في العالم العربي. لن يكتشف القارئ تنوع وجهات النظر وتباينها حول الانفصال نظرًا لاختلاف أجيال الكتاب الذين تناولوه فحسب، بل سيتبين كذلك عبرها مرجعية ومنهج كل منهم في تناوله لهذا الموضوع وسيرى كذلك مدى هيمنة أو عدم هيمنة النزعات الأيديولوجية أو الانطباعات العاطفية على بعض التحليلات التي تنطوي عليها مختلف المقالات المنشورة وهي تتناول حدثًا تاريخيًا استثنائيًا وما إذا أخذت بعين الاعتبار ظروف ومعايير ومفاهيم الحقبة التي جرى فيها.

ذلك ما يحمل على تقديم اقتراح لرئيس تحرير “العربي القديم” مفاده اعتماد باب سبق لمؤسس ورئيس تحرير مجلة “الآداب” الشهرية، الدكتور سهيل إدريس، أن وضعه في مجلته وحمل عنوان “قرأت العدد الماضي من الآداب”، وهي قراءة نقدية تتناول مجمل المبدعات الأدبية من شعر وقصة قصيرة يقوم بها كل شهر كاتب يختاره رئيس التحرير. يمكن أن تعني قراءة العدد الماضي في مجلة “العربي القديم” نقد المناهج التي اعتمدها كتاب العدد الماضي في مقالاتهم ومدى صلاحيتها في معالجة موضوعاتها فضلًا على بيان نجاح الكتاب في استخدامها. 

_____________________________________________

 من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى