
بلال الخلف – العربي القديم
دمشق ليست مدينة عادية يمكن أن تمرّ بها الإمبراطوريات وتنسحب دون أن تترك أثراً، وليست بقعة جغرافية تُطوى في صفحات التاريخ كغيرها من المدن التي شهدت تعاقب الدول ثم توارت في الظلال. إنها دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في العالم، المدينة التي ولدت مع ولادة الحضارة نفسها، لكنها رغم قِدمها لم تصبح رمزاً سيادياً ولا عنواناً لمجد سياسي إلا مع قدوم بني أمية.
قد تقولين – كما يقول البعض – إن دمشق عاشت قبل الأمويين قروناً طويلة تحت حكم الكنعانيين، وخضعت في بعض مراحلها للصليبيين وغيرهم، لكن هل سمعنا أحداً يقول “دمشق الكنعانية” أو “دمشق الصليبية”؟ هل قرأنا في كتب التاريخ من ينسب مجد دمشق وخلود اسمها إلى تلك الحقب؟ الحقيقة أن هؤلاء جميعاً مروا بها كما تمرّ القوافل على الطريق، مدينة مهمة في موقعها، لكنها لم تكن يوماً رمزاً ولا عاصمة تُذكر في مجالس السياسة ولا تُهاب في ساحات المعارك. كانت محطة تجارية ومعبراً للقوافل، ضمن خرائط إمبراطوريات أوسع وأكبر، لكنها لم تتصدر المشهد ولم تصبح قلب العالم النابض حتى جاء بنو أمية.
الأمويون… حين صنعوا لدمشق مجداً خالداً
لم يكن اختيار بني أمية لدمشق عاصمة لخلافتهم مجرد صدفة جغرافية أو قراراً عابراً. لقد رأوا في دمشق أكثر من مدينة جميلة ذات موقع استراتيجي. رأوا فيها قلعة للسيادة، ومنطلقاً لإقامة دولة مترامية الأطراف، فحولوا هذه المدينة من مجرد نقطة عبور إلى عاصمة الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت من أسوار الصين شرقاً إلى سواحل المحيط الأطلسي غرباً، ومن أعماق الجزيرة العربية جنوباً إلى أسوار القسطنطينية شمالاً.
في ظل حكم بني أمية، لم تعد دمشق مجرد مدينة على خارطة العالم القديم، بل أصبحت مركزاً للقرار، ومنبعاً للحضارة، وقبلة للأمم. فيها اجتمع القادة والعلماء، ومنها انطلقت الجيوش التي فتحت الآفاق، وعلى أرضها بُنيت معالم السياسة والدبلوماسية والإدارة. هذه ليست مبالغة أو تحيزاً، بل حقيقة أقر بها حتى أعداء بني أمية أنفسهم. فها هم العباسيون – رغم إسقاطهم حكم الأمويين – لم يتمكنوا من محو أثرهم ولا تجاوز إرثهم. وها هي كتب المؤرخين العرب والعجم على السواء تعترف بأن الدولة الأموية – رغم قصر مدة حكمها التي لم تتجاوز تسعين عاماً – قد أسست لمرحلة فارقة في التاريخ الإسلامي.
لماذا “دمشق الأموية” وليس غيرها؟
حين يُذكر اسم دمشق، يتبادر إلى الذهن عهد بني أمية دون غيره. ليس لأنهم أول من سكنها، وليس لأنهم أطول من حكمها، بل لأنهم أول من جعلها “عاصمة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم تكن قبلهم سوى مدينة ضمن إمبراطوريات شاسعة، ربما كانت ذات شأن محلي، لكنها لم تفرض نفسها على التاريخ العالمي كقيادة مركزية. لم يقل أحدٌ في يومٍ من الأيام “دمشق الكنعانية”، ولم يُعرف عنها أنها “دمشق الصليبية”. لم يكن لها هوية سياسية واضحة أو رمز ثقافي جامع قبل أن يرفع الأمويون رايتهم فوق أسوارها.
الأمويون لم يجعلوا دمشق عاصمة سياسية فقط، بل جعلوها رمزاً للهيبة والسيادة. في عهدهم، تحولت إلى قلب العالم الإسلامي، حيث تُصنع القرارات الكبرى وتُرسم السياسات العابرة للقارات. في أزقتها دارت حوارات الساسة، وفي ساحاتها تجمعت الجيوش، ومن منابرها خطب الخلفاء. كل شبرٍ من دمشق الأموية يروي قصة مجد لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم.
عبق التاريخ لا يُمحى
رغم محاولات العباسيين طمس آثار الأمويين، ورغم ما تلاهم من دولٍ وحقب، بقي اسم دمشق مرتبطاً بأمجاد بني أمية. وحتى بعد أن وقعت تحت وطأة الظلم والقهر لخمسة عقود تحت حكم الطغاة، لم تستطع هذه الحقبة أن تمحو من ذاكرة التاريخ أن دمشق كانت يوماً “أموية” بمعنى العظمة والسيادة.
دمشق اليوم، رغم ما تعرضت له من إهمال وتهميش، لا تزال رمزاً لمن يعرفون قيمتها الحقيقية. وكما أعادها الأمويون إلى الصدارة بعد أن كانت مدينة هامشية، سيأتي يوم تعود فيه دمشق إلى موقعها الطبيعي كعاصمة للكرامة والسيادة. لأن الرموز الحقيقية لا تموت، والعبق الأُموي الذي منح دمشق هويتها التاريخية لا يمكن لأي قوة على الأرض أن تطمسه.
ختاماً… دمشق لا تنسى من صنعوا مجدها
منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، لم يُذكر اسم دمشق مقترناً بأي حقبة بقدر ما يُذكر مقترناً بعهد بني أمية. هؤلاء الذين لم يكتفوا بجعلها عاصمة سياسية، بل صنعوا منها رمزاً خالداً للقيادة والهيبة. وحين نقول اليوم “دمشق الأموية”، فإننا لا نستعيد ماضياً بعيداً فحسب، بل نؤكد حقيقة أن هذه المدينة ستبقى رمزاً لكل من يعرف أن التاريخ يُصنع بالعمل والقيادة، وليس بمجرد العبور العابر.
وكما قال أحد المؤرخين: “دمشق ليست مدينة… إنها تاريخ يُكتب على جدران الزمن.”
السلام عليك