الرأي العام

دلالات وقضايا | أصوات الكلاب ودلالات صمتها ونباحها

يكتبها: مهنا بلال الرشيد

يُعدُّ تدجين الكلاب واحدًا من أبرز الاختراعات أو المنجزات الحضاريَّة الَّتي اهتدى إليها البشر عبر تاريخهم الطَّويل، فالكلب بيولوجيًّا ابن الذِّئب أو حفيده، ويظهر جليًّا الشَّبه بين الذِّئب وكلٍّ من كلب الرَّاعي الألمانيِّ وكلب السَّبيتز، ويختلف عن الذِّئب ببعض الخصائص؛ فالذِّئب لا يعوي إلَّا في أوقات محدَّدة، ولكنَّ الكلب ينبح على الدَّوام كلَّما شمَّ رائحة مخلوق غريب غير رائحة أهله أو أصحابه المألوفة لديه. وقد كشفت البحوث الأثريَّة عن كثير من عظام الكلاب في حضارات الشَّرق الأوسط القديمة الَّتي يرجع تاريخها إلى 12000 سنة؛ وهذا يدلُّ على تربية الكلاب والاستفادة منها على نطاق واسع ومنذ زمن بعيد. ويرجِّح العلماء أنَّ أوَّل تدجين للكلب حصل في سيبريا بجوار أحد تجمُّعات البشر الصَّائدين الجامعين قبل حوالي 15 ألف سنة من وقتنا الرَّاهن، عندما وجد أحدهم جِراءً صغيرة من جراء الذِّئاب القَمَّامة، الَّتي تتغذَّى على بقايا العظام، بعدما يلقيها البشر بجوار خيامهم أو تجمُّعاتهم السَّكنيَّة؛ فأخذ البشر هذه الجِراء وربُّوها، ومن سلالاتها نتجت الكلاب المعدَّلة وراثيًّا، وانتشرت تربية الكلاب بعد ذلك خلال السِّنين المتلاحقة.

الكلب صديق الإنسان الوفيُّ

صار الكلب صديق الإنسان الوفيَّ المخلص لصاحبه دائمًا، وقد أدرك الإنسان خصائصه البيولوجيَّة من حيث قدرته العجيبة على تمييز روائح الأشخاص من مسافات بعيدة بالإضافة إلى حدَّة سمعه وبصره واستعداده الغريزيِّ للتَّدجين والتَّعلُّم؛ فاستخدمه البشر للحراسة كأقدم كاميرا للمراقبة وأقدم جهاز للإنذار المبكِّر، وعندما يشمُّ رائحة شخص غريب أو عدوٍّ قادم ينبح وينبِّه أصحابه من الصَّائدين الجامعين في كهفهم أو البدو في خيمتهم أو الفلَّاحين المزارعين في بيتهم. وإن استفاد السِّيبيريُّون من هذا الكلب في نقل العربات المتزلِّجة بين بيوتهم الثَّلجيَّة وفوق أرضيهم المتجمِّدة، فقد ضَرَّى البشر في الشَّرق الأوسط الكلاب، أو دجَّنوها، وعلَّموها الصَّيد والحراسة. وتميَّزت الكلاب السُّلوقيَّة بالصَّيد مع كلٍّ من الكلب الأفغانيِّ والبرزيِّ وكلب الأيائل والكلب الذِّئبيِّ والكلب الإيرلنديِّ؛ نظرًا لطول قوائمها وانسيابيَّة أجسامها الرَّشيقة؛ فصادت الأرانب والظِّباء، وجلبتها لأصحابها، واكتفت منهم بقطعة صغيرة من لحمها مكافأة لها على مجهودها؛ وكذلك ينبح البعض، ويصيد لوليِّ نعمته مقابل فتات كثير أو قليل يسدُّ به جوعَه الأصيل في نفسه؛ حتَّى لو شتَّت نباحُه وهميرُه وهريرُه شملَ عائلته، وجعل البيت وأهله صيدة سهلة للصَّيَّاد بعد المهاوشة عليها قبل صيدها.

 كذلك استفاد البشر من جلود الكلاب في التَّدفئة وصناعة الملابس وبعض الأواني الجلديَّة، وقد أكلت بعض الأقوام لحوم الكلاب في أوقات الفقر والمجاعة الشَّديدة، وبعض الأقوام ما زالوا يأكلون لحومها في وقتنا الرَّاهن أيضًا، وفي المحصِّلة اتُّخذت الكلاب للصَّيد والحراسة والحرب والزِّينة ومرافقة الرِّعيان، وتميَّز كلٌّ من الكلب الكولي وكلب الرَّاعي الألمانيِّ وكلب الرَّاعي البلجيكيِّ في الحرب والحراسة ومرافقة الرِّعيان.

الكلاب التُّراثيَّة

نعني بها ههنا تلك الموجودة في الجداريَّات والعملات والأختام وعلى الأواني الطَّقسيَّة وتماثيل التَّمائم والحماية، وحضر في الأساطير والملاحم والأمثال والحكم والأدب الهزليِّ والرَّسائل الملكيَّة ونبوءات العرَّافين والنُّصوص القانمونيَّة ونصوص التَّمائم والتَّعبُّد والمعتقدات الدِّينيَّة، وبرز في جداريَّات قصر الملك الآشوريِّ آشور بانيبال. وقد ارتبطت صورة الكلب في جداريَّات بلاد الرَّافدين برمزيَّة مقدَّسة، وأشارت إلى إلهة الطِّبِّ والشِّفاء (نن إيسينا-كولا)، وجسَّدت فنون بلاد الرَّافدين الإلهة ننتينوكا على شكل تمثال لكلب أو كلبة، كتبوا عليه اسمها، وذكرت هذه النُّصوص أسماء أربعة كلاب رافقت الإله مردوخ؛ هي: إلتيبو، وإلسودا، وسوكولو، وأوكومو، وفي القصص التُّراثيِّ أو القصص الدِّينيِّ مثل كلب أهل الكهف في القصَّة القرآنيَّة الشَّهيرة.

كلاب الثَّورة الرَّقميَّة

تطوَّرت حياة البشر كثيرًا في ظلِّ الثَّورة الرَّقميَّة، وما زال الكلب محتفظًا بوظيفته الرَّئيسيَّة في الأرياف والمجتمعات البدويَّة والرِّيفيَّة، حيث يحرس البيوت والخيام، ويرافق الرِّعيان؛ ليحرس قطعان الماشية من النِّعاج والماعز، وعلاوة على ذلك غزت أنواع كثيرة من الكلاب قصور الأرستقراطيِّين وبيوت محبِّي الحيوانات في المدن إلى حدٍّ يعتقد فيه بعض البشر أنَّ وجود حيوان في البيت مثل القطَّة أو العصفور أو السِّنجاب أو الكلب تحديدًا علامة من علامات المدنيَّة؛ وذلك لذكاء الكلب الكبيرة-مقارنة بغيره من الحيوانات-وقدرته على التَّواصل والتَّفاعل الاجتماعيِّ. وإن كنت تعيشُ في مدينة تأثَّرت بمدِّ الثَّورة الرَّقميَّة فالرَّاجح أنَّك سترى كلبًا أو مجموعة من الكلاب الَّتي تمشي مع مربِّيها لو مشيتَ في الشَّارع، أو ذهبت للاستجمام في حديقة من الحدائق، وليست هذه الكلاب على سَمْتٍ واحد، بل يمكن لك أن ترى منها أشكالًا غريبة بوجوهها وعيونها وآذانها، وأنواعًا عجيبة من حيث حجومها، وألوانها وشعورها أو أصوافها المختلفة، وسترى محلَّات مختصَّة ببيعها وشرائها وتقديم أطعمتها وبيوتها وألبستها وزينتها، وهناك العيادات المختصَّة بعلاجها وتطعيمها باللُّقاحات، ويوجد صالونات حلاقة تقدِّم أحدث قصَّات الكلاب وصيحات الموضة والتَّهويش الكلابيِّ، وتُنَظَّم في دولٍ عدَّة مسابقات لجمال الكلاب وأخرى لسرعة عدوِها أو الصَّيد بها.

كيف تُعرفُ الكلاب من منابِرها وأشكالها وقصصها وحكاياتها وأصواتها في البودكاست؟

قصص الكلاب التُّراثيَّة وأمثلتها الشَّعبيَّة كثيرة، ويصعب إجمالها أو إجمال أغلبها في مقال واحد، ولا تستغرب-عزيزي القارئ-فقد قُدِّمت رسائل أكاديميَّة كثيرة عن الكلب والكلاب للحصول على شهادة الدُّكتوراه في الأنثروبولوجيا والتَّاريخ وعلم الاجتماع، ولا شكَّ أنَّ الثَّورة الرَّقميَّة ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ زوَّدتنا بنماذج كثيرة من (الكلاب) بوصفها ظاهرة بحثيَّة، ومن الطَّريف أن نجد في نصوص بلاد الرَّافدين تصويرًا لمعركة بين كلاب الآلهة لا كلاب هذا المتنفِّذ في ثورة الإعلام الرَّقميِّ أو ذاك المهيمن على السُّوشال ميديا، وجاء في نصوص بلاد الرَّافدين أنَّ: (كلب إنليل عضَّ كلب أيا؛ ذاك الكلب الجبَّار لدامكينا، كلب الاسم الإلهيِّ السَّافك للدِّماء، كلب نندينوكا المتعطِّش للدِّماء).

ويبدو لي أنَّ متنفِّذي ثورة الإعلام الرَّقميِّ يدجِّنون كلابهم، ويطلقونها في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ-كما دجَّنت آلهة بلاد الرَّافدين كلابها-على مبدأ: (كلب ينبح معك خيرٌ من كلب ينبح عليك)! وأنا شخصيًّا لا أستغرب نباح أكاديميٍّ حصل على شهادته من سوق الجمعة أو دكَّان لتزوير الشَّهادات أو بعثة يموِّلها المتنفِّذ ذاته لترويض كلابه وتدجينها قبل رميها في طريق القوافل للنُّباح عليها، أو رميها في سوق العمل للهرير باسم ربِّها أو صاحب بعثتها؛ والهرير: صوت الكلب دون الهمير حين يتودَّد لصاحبه، أمَّا الهمير: فهو صوت الكلب دون النُّباح حين يقدِّم بودكاست الفصاحة مع إشارة وقاحة ونظرة لمَّاحة على منصَّة من منصَّات ربِّه أو صاحب عمله، والنُّباح: أشهر أصوات الكلاب وأعلاها؛ ومنه نُباح الجُعَالة، الَّذي تصدره الكلبة المُجْعِلة حين تعوي أو تعاوي، وتدخل موسم السِّفاد في زحمة الوغى ومعارك السُّوشال ميديا؛ لتفرِّق بين الثَّورة والحرب الأهليَّة على سبيل المثال، ومعنى تُعاوي: أي تتبادل العواء مع باقي الذُّكور من كلاب ربِّها صاحب السَّطوة طلبًا للسِّفاد؛ ولأنَّها تُعاوي سُمِّيت الكلبة المُجْعِلة بالمُعَاوية في كتب فقه اللُّغة. أمَّا ما أستغربه حقًّا فهو انحطاط أكاديميٍّ أو نصفَ متفلسف أو ربعه إلى حلبة نباح الكلاب على القافلة؛ وهذا ما يدفعني إلى تذكُّر ميشيل كيلو ورياض التُّرك والتَّرحُّم عليهما؛ لأنَّهما لم ينحدرا إلى مثل هذه المتاهة، وإن كان في الأمثال العربيَّة ما يفسِّر هذا الانحدار؛ كقولهم: طباع اللِّئام تعدي، والعاشية تهيج الآبية.

هوشة كلاب

يستأنس سكَّان الأرياف على المروج الخضراء في فصل الرَّبيع بقتال الدِّيكة، وتُعقد الحلبات للتَّنافس بين ديك هذا أو ديك ذاك، وأحيانًا يطلق هذا الرَّاعي كبشه لمنازلة كبش آخر، وفي أحيان أخرى يُجري الحاضرون مصارعة رومانيَّة أو مباطحة بين الأولاد على العشب، وقد يكون الطِّفلان المتصارعان شقيقين أو جارين، وإذا زاد الحماس بين المتصارعين ينهي الكبار المصارعة بالصُّلح؛ لأنَّه سيِّد الأحكام، ويقولون لهم: هذه هوشة كلاب ودِّيَّة أو مباطحة كلاب تدريبيَّة، ونتائجها ليست رسميَّة؛ لذلك لا تعتمدها لجنة باريس الأولمبيَّة بين نتائج الرِّياضات الفرديَّة أو الجماعيَّة. أمَّا لو قال أحدهم: هوشة عرب؛ فهذا يعني أنَّا لا نعرف مَن ضرب مَن؟ ولماذا نشب القتال؟ كيف ضرب هذا ذاك؟ ولماذا تتدخَّل هذه لنصرة ذاك؟ أو تُعجب بتعليقات ذاك الوقحة من كعب الدِّست وتحت الزِّنَّار؟ وكيف التقى الجمعان؟ وعمَّ أسفرت الوقيعة؟ وبماذا سيخبرنا مَن شهدها مع عنترة؟!

عضَّة كلب أهل البارة

البارة بلدة سوريَّة جميلة في جبل الزَّاوية في إدلب، فيها آثار شهيرة، وسمع كثير من أهالي إدلب وسائر سوريا باسمها في المثل، وإن لم يزرها بعضهم. وتروي الأخبار أنَّ رجلًا من أهل البارة اقتنى كلب حراسة، كان يرقد على زاوية المِصْطَبة بجوار مدخنة الكانون في زاوية البيت. وفي صبيحة يوم من أربعينيَّة الشِّتاء وجد الرَّجل الكلب داخل البيت بعد أن نزل إليه من المدخنة ليلًا، وهكذا صار الكلب يترك الحراسة، وينزل كلَّ ليلة من المدخنة، وينام في البيت حتَّى الصَّباح. زهد الرَّجل في كلبه، وقرَّر التَّخلُّص منه، ومن باب الوفاء فكَّر في الأمر برهة، ومنح الكلب فرصة، وعند المساء أغلق باب المدخنة الخارجيَّ بحجارة الرَّحى الثَّقيلة، ونام ليلته، وعندما استيقظ صباحًا خرج ليطمئن على كلبه؛ فوجده قد عضَّ وحشًا ضاريًا من رقبته منذ ساعات اللَّيل الأولى، وقد مات الوحش المفترس بين أنيابه، وعجز صاحب الكلب عن تخليص الوحش من بين فكَّيه، وضربه ضربًا مبرحًا دون جدوى، وعندما اجتمع الجيران قال له أحدهم: افتح باب المدخنة! وعندما فتح الباب ترك الكلبُ الوحشَ، وقفز من المدخنة إلى داخل البيت؛ فقال أهل القرى المجاورة: (عضَّة كلب أهل البارة)؛ وذهب قولهم مثلًا، وما زلنا نستخدم هذا المثل كلَّما رأينا أحدَهم يعضُّ بنواجذه على راتب ربِّ نعمته المتنفِّذ في عصر السُّوشال ميديا وثورة التَّواصل الرَّقميِّ!

لا تزعل! هذه حقيقة؛ وأنا لا أهجوك يا جَبَان الكلب!

نعود إلى خصائص الكلب البيولوجيَّة؛ فالكلب ينبح أو يَهِرُّ كلَّما شمَّ رائحة شخص غريب قَدِمَ نحو البيت أو الخيمة، وقد لاحظ فحول الشُّعراء أنَّ كلاب الشُّيوخ وكِرام الأمراءلا تنبح ولا تهرُّ؛ وذلك لكثرة قدوم الضُّيوف إلى مضارب هذين النَّموذجين الكريمين؛ فقد تعب الكلب من كثرة الضُّيوف وكثرة النُّباح؛ فاعتاد على روائحهم الغريبة؛ فسمُّوا الكلبَ الَّذي لا ينبح جَبانًا، وقالوا عن صاحبه (جبان الكلب)؛ أي صاحب الكلب الجبان الَّذي لا ينبح بسبب كرم صاحبه وكثرة ضيوفه. وإن مدحوا شخصًا بالكرم في يوم من الأيَّام قالوا عنه: (كثير الرَّماد) لكثرة ما يطبخ للضُّيوف من الطَّعام، و(جبان الكلب) لكثرة ضيوفه وزوَّاره؛ وقد مدح حسَّان بن ثابت كرم الغساسنة وجبلة بن الأيهم الغسَّانيِّ؛ لأنَّ كلابه وكلاب الغساسنة لا تَهِرُّ ولا تنبح حتَّى لو جاءهم الضُّيوف في وقت الغشاوة أو الظَّلام الشَّديد آخر اللَّيل؛ فقال:

لله درُّ عصابة نادمتهم          يومًا بجلَّق في الزَّمان الأوَّل

يُغشون حتَّى ما تهرُّ كلابهم     لا يسألون عن السَّواد المقبل!

بيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم    شمُّ الأنوفِ من الطِّرازِ الأوَّلِ

زر الذهاب إلى الأعلى