العدالة الانتقالية: جرح السواد الأعظم من السوريين
يجب ترسيخ قناعة من خلال السلطة والإعلام والمؤثرين أننا أمام واقع شائك سنتعامل معه لسنين

مصعب الجندي – العربي القديم
حتى الأمس القريب كنت أظن أن الأمر لا يتعدى استسهالاً باستخدام المفاهيم الجوهرية والأساسية لهذه المرحلة مثل (الدولة، العدالة الانتقالية، الحرية، المواطنة، التشاركية، الديموقراطية) وهذا الظن بنيته على قناعة الصدمة التي يعيشها السوريّ في مواجهة الفرح بعد سقوط النظام الدراماتيكي والدرامي، حتى أن السقوط نفسه أثار المخيلات والتكهنات والتحليلات على الرغم أنه كان (تحصيل حاصل)، منذ 2011 بغض النظر عن كيف ومتى؟ وهما الاستفهامين الذين فرضتهما الجغرافيا السياسية ومحاولات إتمام صيغة المشروع الدولي وتبادل الأدوار للمنطقة (له حديث آخر).
بعد كثرة استخدام تلك المفاهيم بمختلف وسائل (السوشيال ميديا) أُزيل الكثير من غموضها عند جميع فئات المجتمع، وتعدى ظنّي فكرة الاستسهال إلى المواقف وخصوصاً العدالة الانتقالية لأنها جرح السواد الأعظم من السوريين من بداياته الغير معروفة بشكل واضح شفاف، إلى نهاياته التي لا ندري متى تضع أوزارها، وكم هو أمر شائك، وأعترف إني أكثر من جبان حين أكرر الأقوال: لنتجاوزها باتجاه المستقبل، أو تعبنا نريد أن نعيش، وأتناسى أنها راحة الأرواح تحت الأرض وفوقها، وانتزاع أوتاد من قلوب ملايين السوريين، جبان وإن كانت النيّة طيبة….! حين أمسّ تلك المواقف التي تتألم حين ندفع باتجاه تجاوزها دون علاجها ووضع الإصبع في الجرح والقفز فوق حقائق الواقع، فليس الإنسان المنهك في أتون الحرب والموت يحمل الطبيعة نفسها (العواطف، التفكير، السلوك، الأحلام…)، كالإنسان الذي لم تنهكه الحرب ومآسيها وعاش ضمن ظروف وحياة طبيعيين أو حتى شبههما لمن كان في مناطق النظام ولو معارضاً أو هاجر وبقي في حنين الغربة…..! وإن دخل كلاهما مرحلة تغيير حضاري بامتداداتها وعلاقاتها، فلن نعرف ولن نتمكن من التنبؤ بالنسبة للإنسان المنهك المضطرب في واقعه كيف سيرى الحياة، ولا كيف سيكون سلوكه، لأنه هو نفسه غير قادر على أن يعرف… هي اللا معقولية التي يعيشها السوريون.
أما تلك المواقف الأخرى التي أضعها تحت يافطة (المناكفات) ومن جميع المشارب الأخرى بلا استثناء مبررين ذلك بالبراغماتية السياسية، وإن صدقت بعضها لكنها خاضعة تحت ضغط الشدّ والجذب والاستغلال السياسي من الجميع (الجميع، أعنيها تماماً وإن صدق البعض النية) بهدف تمرير مشاريع سياسية، ويغيب عن الأذهان، أن أي مشروع سياسي ذو بعد حضاري لن يكتمل إذا أُحرقت السفن قبل أن تطأ الأقدام الأرض. عدا عن أن بعض ذاك الجميع من مشوهي النية والقصد ليس أكثر من متربّص بثوب حَمل.
لا أملك الخبرة لشرح العدالة الانتقالية في الجانب القانوني فله أصحابه، وأكتفي في حدود معرفتي المتواضعة وبما أؤمن به، وإن وصمني متربصٌ ما بشتى الصفات، فأقول:
أولاً: والحالة السورية تحت ضغط التجاذبات من الداخل والخارج فهي تتطلب (الهدوء حتى السكينة ولو كنّا في الأتون) الشفافية التي يجب أن لا تنفصل عن الشجاعة.
ثانياً: ولحجم الملفات التي ستتعامل معها العدالة الانتقالية، كمسمار في الرأس، يجب ترسيخ قناعة من خلال السلطة والإعلام والمؤثرين أننا أمام واقع شائك سنتعامل معه لسنين كي لا نوقف تقدمنا ومسارنا باتجاه المستقبل.
ثالثاً: الحيادية في القضاء والقانون ولا أعني هنا وزارة العدل أو الخارجية أو الداخلية، إنما هيئة منفصلة تماماً محميةً بالدستور لحفظ حقوق أولياء الدم وجميع من ظُلم، مع حقوق الدولة والمجتمع، فالعدالة الانتقالية تورّث ولا تسقط بالزمن، بمقابل أن مكتسبات الفاسدين من نهب بني على الاجرام لا يورّث لينعم فيه أبناءهم وأحفادهم لمنع تكرار الجريمة وتكون درساً للتاريخ وقاعدة إنسانية.
رابعاً: العدالة إن كانت انتقالية أو غيرها لا تُعمم بل تطبق إفرادياً مهما بلغ الحجم لأنها يجب أن تطال الجميع بلا استثناء كلٌ وفق حجم جرمه.
خامساً: وليس أخيراً فللحديث بقية… تكرر الخطأ من خلال اسقاط تجارب مجتمعات خاضت حروباً أهلية على الحالة السورية. أراه خطيئة وإن اعترض البعض، مآسي المجتمعات الأخرى تفيدنا في المعرفة والخبرة وليس في الاسقاط والتطبيق، وإن استبعدنا الاختلاف في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية، فلا شبيه لمرارة السوريّ وقهره إلا مرارته وقهره.