نوافذ الإثنين | عن البطل الشعبي مرة أخرى
يكتبها: ميخائيل سعد
في المجتمعات المأزومة، أو تلك التي تشهد ثورات ضد الاحتلال الأجنبي أو السلطات الاستبدادية، يظهر أفراد يستحق الواحد منهم لقب ”بطل شعبي“، وقد يتحول، مع الزمن، إلى أحد الرموز الاسطورية في ثقافة مجتمعهم.
البطل الشعبي هو شخصية تمثل القيم والمبادئ الإيجابية التي يعتز بها المجتمع. ويتميز غالبًا بالشجاعة، والنبل، والقدرة على التغلب على الصعوبات والتحديات. يمكن أن يكون هذا البطل شخصية تاريخية، أو أسطورية، أو حتى شخصية خيالية، وغالبًا ما يرتبط بحكايات وأساطير تُروى عبر الأجيال.
ويمكن تلخيص صفات البطل الشعبي بأنه ذلك الشخص الذي الشجاعة على مواجهة المخاطر والتحديات، والتضحية من أجل الآخرين أو من أجل قضية نبيلة، والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة أو التي يظنها صائبة، في المواقف الصعبة.
يمكن أن يعكس البطل الشعبي أيضًا التطلعات الثقافية والأخلاقية للمجتمع الذي ينتمي إليه، ويُستخدم كرمز للأمل والإلهام.
والبطل الشعبي يؤثر على الهوية الثقافية للمجتمع بعدة طرق، منها تعزيز القيم والمبادئ: البطل الشعبي يُجسد القيم الأخلاقية مثل الشجاعة، والعدل، والتضحية، مما يعزز هذه القيم في الوعي الجماعي للمجتمع. كما أن البطل الشعبي يساهم في تشكيل السرديات التاريخية والثقافية، التي تؤدي إلى تحفيز الفخر والانتماء.
في المحصلة، يساهم البطل الشعبي في تشكيل الهوية الثقافية وتعزيز الروابط الاجتماعية، مما يعكس القيم والمبادئ التي يعتز بها المجتمع.
السنوار وعبد الباسط الساروت
هذا الكلام الذي أكتبه الآن، وكنت قد كتبته سابقا عن البطل الشعبي، هو بسبب يحيى السنوار وطريقة استشهاده وهو يقاتل العدو الصهيوني، فوجوده في الصفوف الأولى في المعركة، دفاعا عن أبناء بلده، جعله في نظر الكثيرين من الفلسطيين والعرب والمسلمين عامة بطلا يشبه الأبطال التاريخيين الذين كانوا في مقدمة جيوشهم يشاركون بالقتال كخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وعمرو بن العاص وغيرهم.
في عام ٢٠١٩ كتبت مقالا بعنوان البطل الشعبي، بعد استشهاد عبد الباسط الساروت، أعيد نشره الآن، لارتباط الموضوعين معا.
في سنوات الجمر، أي في بداية الثمانينيات، جاء أحد المسنين الحلبيين الميسورين لزيارة ابنه في بيروت، ولما كنت أعرف الابن، الذي لم يكن يستطيع الذهاب إلى سورية لأنه مطلوب أمنيًا “لتعاطفه” مع الحزب الشيوعي (رياض الترك)، فقد أُتيحت لي الفرصة للجلوس مع العجوز أكثر من مرة، في مقاهي “الروشة”، حيث يدخن أركيلته، ويتحدث هامسًا، ناظرًا إلى اليمن واليسار، عمّا كان يجري في سورية، وما كان يصل إلى مسامعه من قصص وأخبار عن القتال بين سلطة حافظ الأسد والطليعة المقاتلة، وكانت حلب ساحة رئيسية من ساحات القتال تلك. في إحدى المرات، أثناء حديثه، استقام ظهره ولمعت عيناه، وهو يروي كيف أن المخابرات كانت تلاحق أحد المطلوبين من “الطليعة”، وحاصرته في زقاق شعبي ضيق، وعندما اقتربت دورية الأمن منه، التفت باحثًا عن منفذٍ، فلم يجد أمامه إلا فرن الحيّ فدخله، ولما لم يكن هناك مكان للهرب من رجال الأمن إلا “بيت النار” ألقى نفسه فيه، ووقف رجال الأمن ينظرون مندهشين وشامتين بهذا الإرهابي المعادي للنظام “التقدمي”، وهو يحترق.
كان الرجل المسن، الذي لم يكن معجبًا بالطليعة المقاتلة، يتابع بحماس رواية تفاصيل القصة التي وصلته عن هذا البطل الذي فضل الموت حرقًا على الاستسلام والاعتراف بأسماء أصدقائه المجاهدين، قائلا حرفيًا: “لقد شخ على عنتر” في شجاعته. كان يعرف أنه لن يستطيع المقاومة، وأنه في النهاية سيقول كل ما يعرفه عن التنظيم، لذلك فضّل الموت على الذل والخيانة.
رويتُ هذه القصة عشرات المرات، ووجدت نفسي معجبًا بهذه الشخصية الأسطورية في سلوكها، على الرغم من انتمائها الديني والأيديولوجي، فقد استطاع، بتضحيته بنفسه، العبور فوق الأيديولوجيات والأديان، ليقدم لنا نموذجًا عن البطل الشعبي الذي يضحي بحياته من أجل الجماعة وقيمها الإيجابية، سواء كانت هذه الجماعة سياسية أو دينية أو قومية، مستعيدين عبره سيرة الأبطال الشعبيين الذين نعرفهم على ألسنة “الحكواتية”.
كان أغلب من رويت لهم موقفي الإيجابي من ذلك البطل، يخافون أو يلومونني لأنه مسلم، بل مسلم متعصب، ويستغربون تعاطفي معه. كان رأيي -وما يزال- أن هذا النموذج من البشر لا ينطبق عليه التوصيف الديني، على الرغم من أهمية الدين في حياتنا، لأنه عابر للأديان والطوائف، إنه شوق الشعب للتحرر من العبودية والخنوع، ورغبته في امتلاك مصيره. هذا هو بعض المعنى الذي جعلني أدافع عن ذلك البطل وتضحيته بنفسه، ولم يكن يعنيني إلى أي دين ينتمي.
عبد الباسط الساروت هو نموذج معاصر لذلك البطل، بل إنه فاقه في التضحية، فالأول لم يكن أمامه إلا الفرن وناره، ولكن الساروت كان يمتلك خيارات متعددة إلا أنه أختار الاستمرار في ثورته ودفع ثمن ذلك روحه، مع إدراكه أنه سيصل إلى هذه النتيجة، وهذا ما يجعله متفوقًا، فالسنوات علمته أن نظام الأسد لن يغفر لأي سوري ثار ضده، وقد عرف ذلك من تجارب من سبقه من أبطال الثورة السورية، مثل الشهيد يوسف الجادر “أبو فرات”، والشهيد باسل شحادة، والشهيد عبد القادر الصالح، المعروف بـ “حجي مارع”، والشهيد المقدم حسين الهرموش، وعشرات بل مئات الشهداء الآخرين. إن أمثال هؤلاء هم من جعلوا الثورة تستمر، لأنهم لم يكونوا يبحثون عن مكاسب مادية أو معنوية، وإنما كانوا يبحثون عن الحرية، لهم ولشعبهم، التي حرمهم منها نظام الأسدين.
في قادم الأيام، سيروي السوريون لأولادهم وأحفادهم سيرةَ البطل السوري عبد الباسط الساروت ورفاقه، من المهد الى اللحد، كي يكون منارتهم عندما تشتد الظلمات ويريدون العودة إلى منازلهم. وستنتظر أرواح رواد المقاهي السورية عودةَ البطل الشعبي عبد الباسط إلى الحكاية، في كل مرة يتوقف فيها الحكواتي عن الحكي.
مونتريال ٢١/١٠/٢٠٢٤