أرشيف المجلة الشهرية

الشاعرة الراحلة دعد حداد.. ذلك التفصيل السوريّ الخاص

عمر الشيخ – العربي القديم

عادة ما يشكّل الحزن مادة خصبة للتفكير الشِّعريّ، لا بل إن النصوص التي تعكس معاناة إنسانيّة خاصة، تجد رواجاً واسعاً، وتماهياً كبيراً من الناس الذين يهتمون بالشّعر. وحين يكون ذلك الحزن محمّلاً بآلام، تتدفق من كلّ جوانب الحياة الاجتماعيّة، السياسيّة، والنفسيّة، العاطفيّة، الأسريّة… يصبح من الصعوبة بمكان تفريق حزنٍ عن آخر، كأن القصيدة تقرّب الوجع الجمعيّ، وتجعله صوتاً للعالم الوحيد الذي يرمّم وحشته. إنّما بالنسبة للشاعرة السورية دعد حدّاد (1937-1991)، فتلك النظرة لا تبدو منصفة برأيي، فحزنها يشبه شِعرها، إنّهُ أناها تماماً. شاعرة خاصّة دون منازع، تكتب كأنّها تتنفس، وتصرخ، وتبكي، وتضحك، وتعشق، وتيئس، وتكتئب، وتتلاشى… في آن واحد.

لا يمكنني أن أنسى كيف غرقتُ في انسيابية كلماتها، خصوصيتها، بساطتها، قوّتها الإنسانيّة، ووضوحها الذكيّ، منذ اللحظة التي قرأتُ فيها كتابها “كسرة خبز تكفيني”، عرفت تماماً أنّها لا تعمل على القصيدة كنتاج إبداعي، لوحة، أو منحوتة، أو ربّما نص أدبيّ بليغ، لا، إنّما تقطعها بضربة واحدة في كلّ مرة من روحها، ثمّ تضعها على الورق، وتتركها تنبض باستمرار في كلّ مرة نقرؤها. ثمّة طاقة استثنائيّة لإيقاع كلماتها، طاقة شِعرها الذي لا يشبه سواها، ذلك هو مفتاح الدخول إلى عالمها.

حين أتذكر البحر في سورية، تأتي دعد حدّاد حاملة سواحل اللاذقية بنكهة دمشقيّة؛ لأنّها عاشت أيامها الأخيرة في العاصمة، هكذا أتذكّر، تأتي وهي تخبرنا عن “السمك الحُرّ” وكيف كانت تراه: “من خلف زجاج بحريّ../ أراك دامع العينين/ أيها السمك.. اللّعوب../ أيّها السمك الحرّ/ والخرنوب.. أيّها الأزرق.. الورديّ../ في مساءات../ الشتاءات…/ أراك../ دامع العينين../ أراك..” الواحد ليلاً، 17 نيسان 1986. بمنتهى الوجع، تضعنا الشاعرة أمام صوتها، تؤنسن الأشياء، وتمزجها بذاتها، لا تلتقط الصّور، إنّما تمزّق من طرقات الحياة أجزاءً؛ لتشكل صورتها الشعريّة، تتذكر: “خيانات الرفاق../ والمقابر المهجورة../ والصخور والمخابئ…/ والحبّ المخنوق../ والألوان../ والحرائق../ وشتائم الباعة../ وغيرة المحبين..”، تتداعى الكلمات ومن خلفها المشاهد تتصاعد، هنا وهي تحكي عن اللاذقية، تقفز أمامي الشوارع السوريّة عند السّاحل، رطوبة الهواء، وقلق التفاصيل المُتساقطة من عيونها، وأنا أقطن وسط البحر اليوم، هنا في قبرص، صرت أفهم تماماً لغة البحر، و شاركني المعادل الفني في مخيلتي لذلك الفهم الآن، وهو تجربة دعد حداد الشعريّة، فالنصوص بين يدي تعود من حمّامها الشمسيّ، بعد زيارة الأجواء المخنوقة في سورية، وتذكّرني ما هي أجواء الثمانينات التي ولدت فيها هذه النصوص من مجموعة “كسرة خبز تكفيني”، تذكراً يضع دمشق واللاذقية في قاسم مشترك لصوت مختلف في الثقافة السورية، فالمرأة التي لا تهتم لشكلها، ولا لسلوكياتها تعيش حرة مثل ما تكتب، تعيش شِعراً، مثل ما تتمزق أفكارها المتمرّدة، أمام عبثيّة الحياة العسكريّة التي كانت تعبق برعب تلك الحقبة من تاريخ سورية، وهنا لا بدّ لي من الإشارة إلى الشاعر السوري الراحل بندر عبد الحميد، الذي كان يحكي لي عن يوميات خاصة حول دعد، وقد منحني بمنتهى الكرم كلّ كتبها الشعرية، بما فيها كتاب “ثمّة ضوء” الذي لم يُنشر، وظهر بعد رحيلها مطلع التسعينيات، وبسبب تلك الجلسة مع الشاعر “بندر”، طبعتُ نسخة خاصة من الأعمال الشعرية الكاملة لها، عبر دار نشر سورية، وكان الثمن هو نسخة للناشر، ونسخة لي فقط، ونسخة لصحفية كانت تكتب من دمشق مع جريدة الحياة. وفي ما بعد، وبسبب تلك المحادثات الشعريّة عن دعد حداد، عادت الشاعرة للضوء، مع صدور أعمالها الشعريّة بدمشق عن الدار نفسها، منذ سنوات بفضل بندر عبد الحميد، الشاعر قبل كلّ شيء.  

لا أستطيع استحضار دعد حداد، دون الوقوف طويلاً عند الدلالات العميقة القادمة من بساطة نصوصها، فهي تعطيك المشهد المأخوذ للتو من واقعها وخيالها معاً، وعلامات النزيف تتفرس فيك من خلاله، ما إن تحاول الوصول إلى موسيقى القصيدة، حتى تنهشك تلك اللغة الزاخرة بمفردات الحياة، دون تكلف أو بلاغة مصطنعة، على نحو: “ها هو النعش الأزرق الوحيد../ ها هو الثوب الوحيد../ احذفوني زورقاً في البحر../ هذه الطيور البيضاء../ هذا التلون في النفس الإنسانية../ هذا الجنون المشحون../ وآه.. تضيفون موسيقى؟!/ ورحلت.. رحلت مفلسة إلى داري../ آه.. يا للوجوه المسرحية../ وللأيدي.. غير الصديقة../ يا للتوابيت السوداء كم هي كثيرة!/ سياراتهم..!!؟ وداري مقفرة.. وبطتي.. وحيدة في داري!” 9 آذار 1986.

 إنها تدعونا؛ لنرسم معها الصورة، لا تريد للقصيدة أن تبدو كما لو أنها قطعة مقدسة، بل هي شراكة متخيلة لوجع النفس الإنسانية، ولتلك الأرواح التي تمثل الحياة الكاذبة، لا تعرف ما تعنيه الصداقة، إن التوجه هنا إلى تسلسل بصري من الوقائع والنتائج التي كانت الشاعرة تراها وتعيشها، يحيلنا إلى خاتمة مفتوحة من الوحدة، تلخصها الدار المقفرة، والبطة الوحيدة، والسيارات التي بشكل التوابيت، تمر فاخرة أمام تعاسة تلك البيوت! أليست بيوت السوريين تلك؟ ألم تكن عربات السلطة السوداء الكثيرة، تأخذ أموال الشعب؛ لتحرس الطغيان وزعماءه؟ ألا يبدو كل ذلك تمرّداً شِعريّاً بطعم البحر؟ تمرّداً دون أمل بشيء!

نستطيع أن ندخل إلى شعر دعد حداد من كلّ مكان، يخطر في بال الجنون، من البحر، من الحزن، من الشوارع المعتمة، من الخوف، من الحبّ المكسور، من اليأس، من الحياة بكل ما فيها من خيبات ومحاولات، حتّى من عكس الحياة، من الموت، فقد اقترحت علينا الشاعرة أن نفعل مثلها، كما في كتابها “تصحيح خطأ الموت”، بأن نعيش للحظة الأخيرة “أيها الدرب الموحش!/ يا درب الحب!/ سأعد خطواتي،/ فالوحدة علمتني العدّ./ الحارس كان بالمرصاد../ عينان خبيثتان ومنظار/ أسرعت قبل أن تخطئ قدمي،/ قبل أن يهبط الليل، وحدي،/ سأعد خطواتي.. فالوحدة، علمتني العد” ذلك الكتاب الذي جمعت نصوصه المكتوبة، منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت توثق من خلاله سطوة العسكر على حياة السوريين، مشاهد الفقر والتعاسة خصوصاً في قصيدة “استعدوا، أدوات التحنيط جاهزة”، والتي تحمل في مواضع كثيرة منها عبارة رمزية من نوع: “ارفع طفلك فوق الغيم، قد يتلوث بالبيئة”، كما سوف نقع في هذه القصيدة على “صرخة مشتركة للفلاحين”، وعلى مأوى رائع “في حفرة”، ونضحك حتى البكاء؛ لأن “الفئران ترفع بندقية!”. إنها صوتنا المؤجل، هذه الشاعرة، إنها يقين مضطرب للحقيقة المغيبة، ألم تقل: “إنّكم نبلاء أكثر من اللازم أيها البشر، / من خلال الزجاج الملّون،/ وأنا.. ربّما أكثر نبلاً،/ من خلال الزجاج المحطم..” 19 شباط 1976.

أيّة محاكاة لعالم من الخفايا الشعرية المختلفة ذاك! كلّما  حاولت أن أحيط بشيء في قاموس هذه الشاعرة البحريّ، سقطت في لعبتها التي لا يمكن تجاوزها، وهي: الصدق.

إنها صادقة إلى حدّ مرضيّ، وملهمة بين أزمنة مختلفة، ويظهر تطور أسلوبها ما بين السبعينيات والثمانينيات، وتبرز من خلال نصوصها سمات المجتمع السياسي، الأجواء المعيشية، تقليص مساحات الحريّات، تراجع الإنسانية على حساب القتل والرعب. ولم يكن أمام الشاعرة سوى تلك البساطة في تركيب الصور؛ لتعيد بعثها حيّة دون رتوش، تقاوم القبح بجمال كلماتها: “الفرح، والعصا، وشوارب جدي،/ تختلط بفنجان الشاي، المعقم/ ووجود الأصدقاء، والأعداء،/ والحنان المصنوع، لهذه اللحظة../ أقدم لكم نفسي: دعد حداد./ أديروا ظهركم المنحني الآن، وفوراً،/ فعلى أقفيتكم، يرتسم شبح.. ما../ ود أن يقول شيئاً.. ما../ دون أن يعي../ إنه شبح مرتسم على قفا../ طال انحناؤه”.

إذا كان ثمّة من تحية نرفعها لذكرى دعد حدّاد، السورية ابنة اللاذقية، فهي أن نقرأها باستمرار للأجيال القادمة، وأن تكون جزءاً ثقافياً إبداعياً من الذاكرة الثقافية لسورية ما قبل ثورة 2011: “ها هنا وجه الجلاد/ خذي سيفك../ اغمديه.. في القلب../ تتفتح زهرة حمراء../ أهديها لحبيبي../ مرحبا.. بالبداية..” صيف 1987

 شكراً يا دعد على كلّ هذا الشّعر السوريّ الخاص. 

___________________________________

من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024

لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.

زر الذهاب إلى الأعلى