لماذا فضّل الأمير فيصل دمشق على بيروت: أربعة علماء بيارتة في ضيافة علماء دماشقة
عندما وصل الأمير فيصل الى بيروت عام 1919م استقبل بحفاوة جماهيرية حاشدة، وفي اجتماعه مع أهل الرأي في المدينة طلبوا منه اعتماد بيروت كعاصمة للحكم العربي فأجاب متسائلاً: وهل يصحّ أن تقام عاصمة على شاطئ البحر حيث يصعب الدفاع عنها؟ وفضّل اتخاذ دمشق عاصمة للحكم العربي قادرة كعهدها على الدوام وكما كانت منذ الفتح العربي في الدفاع عن الساحل وردّ التدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية وإبعادها عنه، مشكّلة بذلك عامل الاستقرار وما يرافقه من تقدّم وازدهار.
وإذا كان التشاور سمة التعاون بين بيروت ودمشق في الشؤون السياسية على جميع مستوياتها، فإن في حوادث القرنين التاسع عشر والعشرين واقعات عديدة كرّست هذا التشاور المتبادل. نقف عند احدى محطاتها ونعني بها الرابطة بين علماء وشيوخ المدينتين، فكثيراً ما كان علماء دمشق يتوسطون في حل نزاع في بيروت، ويلجأ علماء بيارتة الى حمى علماء الشام.
القاضي الشيخ أحمد البربير
لا عجب ان عهد بإفتاء بيروت سنة 1258هـ/ 1842م الى العالم الدمشقـي الشيخ محمد الحلواني، وبقضاء بيروت الى العالم الدمشقي الغزي وأن يعهد برئاسة مجلس تجارتها الى عبد الله الإدلبي، وان يتخذها محمد اياس والحلبوني وغيرهما من الدمشقيين موطناً لهم. ولا عجب أن يتتلمذ غالب علماء بيروت على علماء دمشق وأن يتخذوها سكناً لهم وموطناً وأن يلوذوا بحمى أقرانهم الدمشقيين في الملمّات ودفع المظالم، ولنا على ذلك أمثلة أربعة.
رجع الشيخ أحمد البربير الى بيروت عام 1769م وتولى فيها الإفتاء وكانت بيروت بعهدة الأمير يوسف الشهابي الذي أكره البربير على تولي القضاء. فكتب على الأمير صكاً بشروط قبلها هذا الأخير هي:
1) عدم البحث مجدداً في الدعوى بعد الحكم بها وعدم نقضها.
2) تأييد الحكم وتنفيذه.
3) عدم اكراهه على لبس ما كان يلبسه القضاة (جبّة ذات كم واسع قيل في بعضهم انه لم يبقَ لديه من العلم إلّا الجبّة والكـم).
4) تكليف أحد اتباع الأمير للجلوس في المحكمة من أجل استيفاء رسوم الدعوى. فقد كانت العادة أن يستوفيها القاضي ثم يتعرض للحساب والعقاب من أجلها.
إلّا ان الوضع الثقافي والسياسي لم يعجب البربير فاستقال من القضاء وهاجر الى دمشق. واتخذها سكناً وموطناً ولاذ بحمى واليها وكبار علمائها كالشيخ مصطفى الرحمي ومفتيها الشيخ محمد خليل المرادي. وتزوج بامرأة من آل الصلاحي. وكان مقامه في الصالحية وتوفي فيها سنة 1811م ودفن بجوار ابن عربي.
عرف البربير بالتصدّي للظلم والفساد. فقد أناب والي عكا بيروت رجلاً من المغاربة يدعى البخاري فعاث عسكره في المدينة عيث الجراد وأشاع الأذى والفساد فكتب البربير الى الوالي (في رواية):
وزيرنا طاهر المزايا فاقصد ندا جوده ويمّم
قد خصّ بيروت بالبخاري ليته خصّها بمسلم
كما هجا رئيس العسكر قائلاً:
وجهولٍ تعريفه كلب خاري يوهم الناس انه كالبخاري
هاج في راسه بخار طعام فهو يروي حديث ذاك البخار
وفي دمشق ألّف البربير كتابه الفريد «الشرح الجليّ على بيتي الموصلي». قال في مدح دمشق:
أيها الساكنون روض دمشق حزتم في الأنام عيشاً رفيها
قد سكنتم قصور جنات عدن وظفرتم برحمة الله فيها
المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله
بعد توطّن أحمد البربير في دمشق تولى تلميذه عبد اللطيف فتح الله إفتاء بيروت. وكان سبق لهذا الأخير أن أقام في دمشق عدة سنوات تلقّى العلم على علمائها ونشأت صداقات بينه وبين أهلها وقال فيها:
بها تسلّيت عن داري وعن وطني
وباللطافة قد تنسى الأحباء
فإن يكن لي يا بيروت فيك أب
فلي بجلق سادات وأبناء
وقال فيها:
وعجّ نحو أرض الشام واقصد دمشقها
ففيها لطيب الأنس تلك المعاهد
ولو كانت الدنيا جناناً فجلق
كفردوسها الأعلى وما ان معاند
وكانت له صداقات أهمها شمس الدين محمد الكزبري وابنه عبد الرحمن. ومع ابن عابدين الذي اختاره أمينا للفتوى. وكانت للمفتي عبد اللطيف فتح الله مواقف وآراء في الشؤون السياسية الطارئة سببت له عداوات ومخاصمات. ففي سنة 1821م تعاظم الخلاف بين درويش باشا وبين عبد الله باشا والي صيــدا (وكانت بيروت تابعة لصيدا) فصدر فرمان بعزل عبد الله باشا ورفع يد الأمير بشير الشهابي على بيروت، فسار هذا الأخير الى بيروت مع أولاده وخدمه وفي حرج بيروت خرج للقياه الشيخ عبد اللطيف فتح الله وقاضيها الشيخ أحمد الأغر.
روى الأمير حيدر الشهابي ان البيارتة انقسموا بين الشيخين، فكان فتح الله يميل الى درويش باشا والأغر الى عبد الله باشا، ثم تبدّلت الأمور، فكان أن عزل درويش باشا وتنازل فتح الله عن الإفتاء الذي عهد به الى الشيخ أحمد الأغر.
القاضي والمفتي الشيخ أحمد الأغر
في ربيع الأول 1240هـ/ 1824م وجهت وظيفة إفتاء بيروت على الشيخ أحمد الأغر الى جانب وظيفة القضاء. كان الأغر يتمتع بشخصية قوية تبلورت في مواقف عدة منها: الاشراف على وضع المتاريس وتنظيم مقاومة البيارتة لقتال الأروام عام 1241هـ/ 1826م على ما رواه هنري غيز قنصل فرنسا في بيروت في رسالة بعث بها الى وزير خارجيته. وتبدو شخصية الشيح أحمد الأغر فيما رواه جرجس الخوري على لسان أحد المسلمين المسنين في بيروت حول واقعة إبراهيم باشا مع المفتي الأغر واضطرار هذا الأخير الى النزول في حمى صديقه مفتي دمشق الشيخ محمد عمر الغزي أواخر 1836م.
وقبل ذكر الحادثة نشير الى انه سبق ذلك ان حضر الشيخ الغزي الى بيروت مبعوثاً من طرف شريف باشا حكمدار بر الشام على عسكر إبراهيم باشا، لأجل فض نزاع نشأ بين متسلم بيروت عبد الفتاح آغا حمادة وناظر مجلس الشورى فيها.
وملخص واقعة المفتي الأغر مع إبراهيم باشا، ان هذا الأخير عندما كان ممثلاً سوريا، كان يعتمد على تاجر في دمشق لتموين الجيش. وفي آخر السنة أراد التاجر تصفية الحساب، فادّعى إبراهيم باشا ان التاجر زاد الأسعار وأبى أن يؤدي له مطلوبه. فاستاء التاجر وعرض قضيته على أصحاب الفتاوى فقيل له ان في بيروت شيخاً عالماً جريئاً لعلّك إذا استفتيته في قضيتك تنال الحكم على الباشا.
قصد التاجر المفتي البيروتي وقصّ عليه حكايته مع الباشا فأفتى للتاجر ضد إبراهيم باشا وحكم عليه بأداء حق الرجل. حمل التاجر الفتوى وعرضها على الباشا مطالباًَ بحقه. استاء إبراهيم باشا من جرأة المفتي واستقدمه الى دمشق. ولما وقف بين يديه سأله كيف جاز له أن يفتي ضده، فقال المفتي: لست أنا الذي أفتى ضدك بل كتاب الله. ثم أورد له النصوص الشرعية. فالتزم الباشا أن يؤدي الحق بتمامه.
وأقام الأغر في دمشق أربعة أشهر نازلاً في دار الشيخ محمد عمر الغزي وكان ذلك علم 1252هـ/ 1836م.
وفي ديوان الأغر تعريض بإبراهيم باشا في أكثر من موضع.
قال عندما كان في دمشق مشطراً:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى صديقاً بدا منه لأعدائه ود
وأنكد من ذا أن يرى وهو صابر عدواً له ما من صداقته بد
وقال مقتبساً (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها):
مليكة الحسن قد أفسدت قريتنا عند الدخول إليها هل يجوز كذا
وقد جعلت أعزّاها أذلّتها قالت وذا شأن الملوك إذا
كما نظم عام 1256هـ/ 1840م قصيدة طويلة أرّخ فيها كيف «خسر إبراهيم باشا الحرب وولّى هارباً بعسكره».
يُذكر ان إبراهيم باشا زار بيروت بعد حادثته مع المفتي الأغر وطلب من خادمه أن يزور هذا الأخير في بيته فأخذوه إليه وأدخلوه الى غرفة المفتي البسيطة الخالية من الزخارف فوجده قاعداً يقرأ الكتاب (القرآن الكريم) فلاحظ ان المفتي (كان مريضاً) لم يحفل به بل ظل ماداً رجله. ثم عاد الباشا وأرسل مع خادمه صرّة من المال تقدمة للمفتي قاصداً امتحان عفّته. فقال المفتي لخادم الباشا: قلْ لسيدك ان الذي يمدّ رجله لا يمدّ يده.
المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري
في عام 1879م اختير الشيخ عبد الباسط الفاخوري 1824- 1905م مفتياً لبيروت خلفاً للمفتي الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي.
يُذكر ان المفتي الفاخوري كان له دور فاعل في الانتخابات البلدية التي جرت في بيروت عام 1878م أثار جدلاً واسعاً. كما كان له دور مؤثر في إحصاء الأوقاف وتسليمها الى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي كانت حديثة النشأة. وكان المفتي الفاخوري عالماً بالفقه والحديث والفتوى. علماً بأن الرجوع الى المفتي في الأحكام الفقهية كان قد أصبح نادراً بعد صدور مجلة الأحكام العدلية عام 1876م.
اشتهر المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري بمحاربة البدع والعادات المخالفة للشرع وانتقاد التطرف والغلو الذي لاحظه لدى بعض مريدي محمد بن عبد الوهاب، كما انتقد تصرفات بعض الملل المحلية، ما دفع بعضهم الى التسلل ليلاً الى داره وذبح فرسه (أي تفجير سيارته بلغة هذه الأيام) فتوترت الأحوال في بيروت وهبّ كثيرون لمساندته. استغل بعض الطامعين في مركز الافتاء هذه الحوادث (قيل كان منهم نقيب الأشراف في حينه) وأرسلوا الى الأستانة يتهمون الفاخوري بالتسبب بالفتنة. فأرسلت الاستانة الى الوالي في دمشق للتحقيق معه في الأمر.
أدرك المفتي الفاخوري سبب طلبه الى دمشق، فتوجه إليها وذهب مباشرة الى بيت صديقه محدث الديار الشامية الشيخ محمد بدر الدين الحسني ت. 1835م وأعلمه بالأمر فأوعز له الشيخ بدر الدين بأن يتوجه الى سراي الوالي على أن يلحقه هو بعد ذلك.
وبالفعل توجه المفتي الفاخوري الى السراي فاستقبله الوالي وأجلسه الى جانبه. وما هي إلّا لحظات حتى أعلن حاجب الوالي وصول الشيخ بدر الدين ونظراً لمكانة هذا الأخير، وقف الوالي واتجه صوب الباب للسلام على الشيخ بدر الدين، ولكن هذا الأخير تجاهله وأسرع يقبّل يد المفتي الفاخوري ويضمّه. بهت الوالي وأخذه العجب وقال في نفسه: إذا كان الشيخ بدر الدين صاحب القدر الكبير والعلم الغزير يكرم الشيخ الفاخوري، فكم يكون قدر هذا الأخير؟!
واحتفى الوالي بالشيخين وكتب الى الأستانة بأن ما اشيع عن مفتي بيروت في غير محله. واستضاف الشيخ بدر الدين المفتي الفاخوري أياماً قبل أن يعود الى بيروت معزّزاً مكرّماً.
* المصدر: (اللواء) الطرابلسية
* عبد اللطيف الفاحوري مؤرخ لبناني