وهم المكانة الاجتماعية: لماذا نشتري أشياء لا نحتاجها لإبهار أشخاص لا نحبهم؟
الاستهلاك البشري يتجاوز حاجاته الأساسية، ليتحول إلى وسيلة لإظهار الثروة والنفوذ
محمد صبّاح * – العربي القديم
في الثاني من مارس/آذار، يدق جرس الساعة السادسة مساءً، معلناً نهاية يوم عمل شاق في مكتب فاخر في أحد أرقى شوارع المدينة. يقف مدير شركة ناشئة بجانب نافذة مكتبه، يستنشق نسيم الربيع وهو يتأمل في إنجازاته. يمتلئ بالشعور بالفخر والرضا عندما يرى أن حسابه البنكي ينمو بانتظام. لكن شيئاً ما يفتقده. هذا الشعور المؤقت بالإنجاز سرعان ما يتلاشى، ليحل محله رغبة عميقة في إثبات النجاح، ليس فقط لنفسه، بل لكل من حوله.
رغبته ليست مجرد تحقيق النجاح، بل استعراضه أمام الجميع. السيارة التي اقتناها العام الماضي لم تعد كافية لتعبر عن مكانته. الساعة التي يضعها حول معصمه لا تُشبِع إحساسه بالتفوق. لذا يبدأ بالبحث عن مزيد من السلع التي يمكنها أن ترسم حدوداً طبقية بينه وبين الآخرين. ومع كل خطوة يخطوها في هذا الطريق، تستهدفه خوارزميات الإعلانات على الإنترنت، عارضة عليه منتجات وخدمات تَعِد بالتميز والفرادة
الاستهلاك وقلق السعي إلى المكانة
«نحن نشتري أشياء لا نحتاج إليها، لنبهر أشخاصًا لا نحبهم.» تايلر ديردن، فيلم (نادي القتال).
هذا الاقتباس يلخص السلوك البشري الذي يتجلى في ما يُسمى بـ«الاستهلاك التفاخري». وهو مصطلح صاغه عالم الاقتصاد والاجتماع النرويجي-الأميركي تورستين فيبلن في كتابه الشهير نظرية الطبقة المترفة، حيث أوضح أن الاستهلاك البشري يتجاوز حاجاته الأساسية، ليتحول إلى وسيلة لإظهار الثروة والنفوذ. هذا السلوك، كما يبين فيبلن، لا يقتصر على الطبقات الغنية فقط، بل يمتد إلى كل الطبقات، حيث يتنافس الجميع في استعراض المكانة، مما يؤدي إلى هدر الوقت والمال على أشياء لا تحقق نفعاً حقيقياً.
آلان دو بوتون، في كتابه قلق السعي إلى المكانة، يحلل هذه النزعة بعمق، ويحدد خمسة أسباب رئيسة تدفع الإنسان الحديث للهث وراء المكانة الاجتماعية:
1. الافتقاد للحب: يقول الاقتصادي آدم سميث في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية: «إن الدافع الأساسي وراء سعي الإنسان إلى الثروة والسلطة هو رغبته في أن يكون محط إعجاب الآخرين ونيل رضاهم». يربط دو بوتون هذا الشعور بعدم الحب غير المشروط، حيث يسعى الفرد البالغ إلى تعويض هذا النقص من خلال إثارة إعجاب الآخرين.
2. الغطرسة الاجتماعية: مع دخول الإنسان مراحل النضج، يكتشف أن انتباه الآخرين يُمنح بشروط صارمة، مما يدفعه لبذل المزيد من الجهد لاجتذاب هذا الانتباه.
3. التطلع والحسد: يواجه الإنسان دائماً ضغطاً اجتماعياً ليواكب من هم أعلى منه في المكانة. لم يعد الاكتفاء بالحاجات الأساسية كافياً ؛ بل أصبح السعي إلى التميز ضرورة نفسية.
4. الربط بين الكفاءة والنجاح: في العصر الحديث، بات النجاح يُعتبر دليلاً على الكفاءة، والفشل يُفسَّر على أنه عيب شخصي. هذه الفكرة تدفع الإنسان إلى إنفاق المزيد على المظاهر لإثبات كفاءته.
5. عدم ثبات المكانة: في العصور القديمة، كانت المكانة الاجتماعية ثابتة نسبياً. لكن في العصر الحديث، أصبحت تعتمد على عوامل مادية قابلة للتغيير، مما يخلق شعورًا دائمًا بعدم الأمان .
الاستهلاك التفاخري والفقر
يعتقد البعض أن الاستهلاك التفاخري يقتصر على الطبقات العليا، لكنه أكثر شيوعاً في الطبقات المتوسطة والفقيرة. تشير دراسة أجراها كيروين تشارلز وإريك هارست ونيكولاي روسانوفا إلى أن الأسر ذات الدخل المنخفض غالباً ما تنفق أموالها على سلع استعراضية لإخفاء فقرها، بدلاً من الاستثمار في تحسين وضعها المادي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك انتشار المجوهرات كبيرة الحجم أو الملابس ذات العلامات التجارية الباهظة في الأوساط ذات الدخل المحدود.
هذا السلوك يؤدي إلى ما يُعرف بـ «فخ الفقر»، حيث تستهلك هذه الأسر مواردها في محاولة إظهار مكانة اجتماعية زائفة، مما يعوقها عن الادخار أو تحسين وضعها المالي.
وسائل التواصل الاجتماعي ودائرة الاستهلاك
في عصر الإنترنت، أصبح الاستهلاك التفاخري أكثر تعقيداً بفضل منصات التواصل الاجتماعي. في دراسة أجراها ديفيد تيلور وديفيد ستروتور عام 2015، وجد الباحثان أن مواقع مثل فيسبوك وإنستغرام تعزز هذا السلوك من خلال عرض حياة الآخرين بشكل مُنمَّق ومثالي. تُعرض السلع الفاخرة كرموز للسعادة والنجاح، مما يثير مشاعر الحسد لدى المتابعين.
على هذه المنصات، تزداد ظاهرتان نفسيّتان سلبيتان:
_الحسد: إحساس دائم بالنقص بسبب مقارنة النفس بالآخرين.
_النرجسية: التركيز على استعراض الذات لإشباع رغبات شخصية.
على سبيل المثال، قد تجد شاباً ينفق راتبه الشهري بالكامل على هاتف جديد لمجرد نشر صورته على إنستغرام. أو شخصاً يشتري سيارة فاخرة على أقساط مرهقة ليُظهرها أمام أصدقائه. نتيجة لذلك، يدخل المستخدم في دائرة مغلقة من الاستهلاك التفاخري والترويج للذات، مما يؤدي إلى تعزيز الاستهلاك بدلاً من تحقيق النجاح الحقيقي.
_ الرفاهية المزيفة أصبحت سمة بارزة في مجتمعاتنا الحديثة: رغم ما يبدو من تطور اقتصادي وتقدم تقني، إلا أن الفجوة بين الطبقات الاجتماعية تزداد عمقًا بشكل مستمر. هذه الظاهرة لا تتعلق فقط بالأثرياء، بل تمتد إلى كل الفئات التي تسعى للظهور بمظهر الثراء والترف.
ما يعكس ذلك بوضوح هو السعي المحموم وراء العلامات التجارية الشهيرة والمظاهر الفاخرة التي تحولت إلى رموز للقبول الاجتماعي. في كثير من الأحيان، يصبح امتلاك هذه المظاهر وسيلة لتحديد المكانة الاجتماعية، وكأنها لغة خفية تُرسِّخ حدوداً بين الطبقات، تجعل من العبور بينها أمرًا شبه مستحيل.
تماماً كما رأينا في أعمال سينمائية مثل Parasite، يُظهر هذا الهوس كيف تصبح الفنون والثقافة، بجانب المال، أدوات لإبراز التمايز. إنها ليست مجرد رفاهية، بل رسائل خفية تُراد بها تكريس الطبقية بشكل يتجاوز المظهر الخارجي.
نحو معايير أكثر عمقاً وأصالة
لعلّ الخلاص يكمن في إعادة صياغة منظومة القيم التي تُوجّه مجتمعاتنا اليوم. بدلاً من الانغماس في قياس الذات بمعايير سطحية كالمظهر والممتلكات، يمكننا أن نرتقي نحو معايير أكثر عمقاً وأصالة، كالعمل الإبداعي، والسعي وراء المعنى، والإسهام في بناء المجتمع. كما أشار آلان دو بوتون، فإن التحرر من «قلق السعي إلى المكانة» يبدأ بالاعتراف بأن القيمة الحقيقية للإنسان ليست مرهونة بآراء الآخرين، بل بما يضيفه من جوهر ومعنى لحياته وحياة من حوله.
للخروج من دوامة الاستهلاك والمظاهر، يمكننا أن نتخذ خطوات تعيد تشكيل علاقتنا مع الذات والعالم. الابتعاد عن المقارنات العبثية التي تُغذّيها وسائل التواصل، وتحويل تركيزنا نحو الاحتياجات الحقيقية بدلًا من الرغبات المتولدة عن ضغط اجتماعي، يمثل بدايةً واعية. كذلك، الاستثمار في التجارب التي تُغني الروح، كتعلّم شيء جديد أو السفر لاكتشاف آفاق غير مألوفة، هو سبيل للخروج من أسر السلع المادية التي تُقيد الحرية.
بهذه الخطوات البسيطة والعميقة في آنٍ معاً، نستطيع إعادة تشكيل وجودنا وفقًا لأولويات نابعة من ذاتنا الحقيقية، لا من إسقاطات مجتمعية زائفة، ونستعيد بذلك حريتنا المفقودة في صياغة معنى حياتنا بعيداً عن سباق لا نهاية له.
_______________________________
*كاتب وباحث فلسطيني