عندما قاومت عين فرحان بلبل مخرز الأسد
لم يكن أمامه سوى خيارين: إما السجن وموت مشروعه الثقافي، إذا تجاوز الخطوط الحمر السياسية، أو السير في حقل من الألغام
ميخائيل سعد – العربي القديم
في نهاية ١٩٦٤ حزمت حقائبي، تاركاً ورائي سنوات عمري الدمشقية متوجها إلى حمص. وفي مطلع عام ١٩٦٥، في مثل هذا الشهر انتسبت إلى حمص وإلى إعدادية عزت الجندي التي كانت ما بين باب تدمر وباب الدريب. كان عمري خمسة عشر عاما، وكنت في الصف التاسع. بقي في ذاكرتي، بعد ستين عاما، اسمين من إسماء الأساتذة الذين علموني في تلك الإعدادية هما: مدرس اللغة العربية فرحان بلبل، ومدرس الفنون رشيد شما. كانت صورة فرحان بلبل، قبل أن نصبح أصدقاء، ثابتة على الشكل التالي: يدخل شاب ثلاثيني جميل المحيا، طويل الغرة المشلوحة على يمين جيبنه، إلى الصف، وهو في كامل أناقته، يرتدي طقما يميل إلى الزرقة مع ربطة عنق وكأنها قوس كمنجة، فوق بنطال (مجعلك)، كنت أظن أنه غير مكوي بالصدفة، ولكن عرفت فيا بعد أنه كان يجلس على الأرض وهو يعمل ليلا قراءة وكتابة. كانت شخصية المحببة قد انعكست الطلاب، وكذلك درسه البسيط والواضح، مما جعله نجما في الاعدادية.
أما الفنان والأستاذ رشيد شما فكان يجسد في سلوكه وكلامه الروح الحمصية اللطيفة، والعمق في التعليم. كان يعطي الدرس وكأنه يرسم لوحة فنية قابلة للتعديل كل مرة يكتشف فيها نقصا دون أو يؤذي الأصل.
وتنقضي الأيام وتمر أربع سنوات في دار المعلمين وسنتان في مدارس عفرين الابتدائية، وأعود إلى حمص مرتديا طقما يشبه طقم فرحان بلبل الذي في ذاكرتي، وأنخرط في الحياة الثقافية في حمص، وتتقاطع دروب الطالب مع دورب المعلم الذي كان يحاول تكوين حلقة ثقافية تهتم بالمسرح وتكون داعمة وحاضنة لمشروعه الذي تبلورت خطوطه العامة: تأليف فرقة مسرحية، كتابة النصوص المسرحية، وتوسيع دائرة الحلقة ودفعها للقراءة وخاصة قراءة النصوص المسرحية المشهورة، وكانت سلسلة المسرح العالمي التي تصدر في الكويت والسلسلة الأخرى التي كانت تصدر في القاهرة خير معين لتحقيق ذلك الهدف.
المسرح العمالي
كانت نقابات العمال في بداية السبعينيات ما تزال مستقلة نسبيا، وقد شكلت اتحادا فيما بينها، ربما بضغط من الحكومة، وشيدت مقرا كبيرا لها مكونا من عدة طبقات على طريق حماه بعضها كان شاغرا. التقط الأستاذ فرحان بلبل الفرصة، وقدم اقتراحا لاتحاد العمال بتشكيل فرقة مسرحية تحمل اسم الاتحاد وتعبر عن بعض تطلعاته وتكون كدعاية للعمل النقابي، وتمت الموافقة على تكوين ”فرقة المسرح العمالي“. وهكذا عثر فرحان على مكان مجاني للفرقة وعلى غطاء سياسي يحميها من تغول الأمن الذي كان يتحول إلى اخطبوط يمتص دم الشعب السوري.
في تلك الفترة من عام ١٩٧٣ على ما أظن، كانت الحلقة الثقافية التي تشكلها فرحان بلبل تجتمع كل أسبوع على ما أذكر، يتم في الاجتماع مناقشة قضايا مسرحية، والتعريف ببعض الاعمال المسرحية المشهورة، وكان بعض أفراد الحلقة يقدمون تلخيصا بعض الاعمال والمسرحيات المكتوبة. ولا أزال أذكر منهم: أحمد منصور، وعبد القادر الحبال، ونجاح سفكوني، وعمر قندقجي، وصلاح الصالح، وصبية نسيت اسمها، وعاصم مدور.
في عام ١٩٧٦ اعتقلت لأسباب سياسية، وبعد إطلاق سراحي ذهبت للعمل في بيروت وانقطع تواصلي مع الأستاذ فرحان وأعضاء فرقته، ولكن كنت أتابع أخبار ونشاطات فرقة المسرح العمالي.
الثقافة والاستبداد
من المعروف أن دولة الاستبداد تسعى إلى فرض ثقافة معينة كوسيلة لتوحيد الهوية الوطنية، مما يؤدي إلى قمع التنوع الثقافي، فيؤثر سلبًا على الثقافة الأدبية والفنية. ويواجه الفنانون والمبدعون الرقابة والتهديد والقمع والسجن وأحيانا الموت. كما يتم توجيه التعليم ليعكس قيم النظام، مما يؤثر على كيفية تشكل الوعي الثقافي والسياسي بين الأجيال الجديدة.
عادة تتسبب الظروف الاستبدادية في نشوء حركات ثقافية مقاومة، حيث يستخدم الفن والأدب كوسيلة للتعبير عن الرفض والمعارضة.
في المجمل، الثقافة في دولة الاستبداد تعاني من الضغوط السياسية والاجتماعية، لكنها أيضًا قد تصبح وسيلة للتعبير عن المقاومة والتغيير.
السير في حقل من الألغام
كان فرحان بلبل يدرك منذ بداية عمله الظروف الصعبة التي يعمل فيها، ولم يكن أمامه سوى خيارين: إما السجن وموت مشروعه الثقافي، إذا تجاوز الخطوط الحمر السياسية التي وضعتها سلطة الأسد، أو السير في حقل من الألغام، مع حسبان احتمال انفجار أحد الألغام في كل خطوة، لذلك تجنب الكتابة التي تشير إلى سلبيات النظام بشكل مباشر، ونوّع كتاباته ومسرحياته التي كانت تحوم حول النار دون أن تحترق، ساعده في ذلك ثقافته العميقة والمتنوعة، وطبعه الهادئ، وحس الفكاهة الذي يتمتع به، ووده للناس، وابتعاده قد الإمكان عن كسب الأعداء.
هكذا قاومت العين المخرز، وخلد فرحان بلبل، رحمه الله، اسمه من خلال بناء عمارة ثقافية مسرحية مقاومة بأصالتها لطغيان الاستبداد، فشهرته وخدمت شعبه.
مونتريال ١٧/١/٢٠٢٥