تاريخ العرب

كيف شكلت فرنسا الشرق الأوسط الحديث: قصة الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان

أنت في منطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي تتسم بقدر كبير من التنوع والتعقيد والصراع. وهي منطقة تأثرت تأثراً كبيراً بإرث الاستعمار، وخاصة من قبل القوى الأوربية السابقة التي حكمت الشرق الأوسط في القرن العشرين.

وقد كان الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان واحداً من أهم حلقات التدخل الاستعماري في شرقنا الأوسط، ذلك الاحتلال الذي امتد من عام 1920 وحتى عام 1946 ميلادية.

لذا وفي مقالتنا هذه سنحاول التنقيب في محاور التاريخ بحثاً عن ماهية هذا الانتداب وعواقبه وتداعياته على المنطقة، وكيف شكلت فرنسا الدولتين الحديثتين في سوريا ولبنان، فضلاً عن علاقاتهما مع بعضهما بعضاً ومع الجيران.

ما هو الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان؟

كان الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان ترتيباً قانونياً أنشأته عصبة الأمم، وهي تسمية الأمم المتحدة سابقاً، أنشأته بعد الحرب العالمية الأولى. وكان من المفترض أن يختلف نظام الانتداب عن الاستعمار، بحيث تهدف الدولة الحاكمة إلى العمل كوصي حتى يصير السكان مؤهلين للحكم الذاتي. وعند هذه النقطة، ينتهي الانتداب وتولد دولة مستقلة.

أُسْنِدَتْ مهمة الانتداب على سوريا ولبنان إلى فرنسا، في مؤتمر سان ريمون الذي عقده الحلفاء في المدينة الإيطالية في نيسان/ أبريل عام 1920، بعد هزيمة وتقسيم الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت معظم منطقة الشرق الأوسط لقرون عدة.

شملت أراضي الانتداب سوريا الحالية ولبنان وأجزاء من تركيا (الإسكندرونة وكيليكيا). كان للفرنسيين اهتمام طويل الأمد ببلاد الشام، يعود تاريخه إلى الحروب الصليبية وحماية الأقليات المسيحية في المنطقة. كما رأت فرنسا في الانتداب رصيداً إستراتيجياً لتأمين نفوذها في البحر الأبيض المتوسط ولمواجهة الهيمنة البريطانية في مصر والعراق.

كيف أدارت فرنسا الانتداب؟

اتسمت إدارة الانتداب الفرنسي بدرجة عالية من المركزية والتدخل والانقسام. ولم يعترف الفرنسيون بشرعية أو تطلعات الحركة القومية العربية التي ظهرت أثناء الحرب وبعدها، بقيادة فيصل بن الشريف حسين أمير مكة، الذي أسس مملكة لفترة وجيزة في دمشق عام 1918 بدعم بريطاني. وبدلاً من ذلك، فرضت فرنسا رؤيتها الخاصة لكيفية حكم المنطقة، استناداً إلى مصالحها.

فقسم الفرنسيون الانتداب إلى عدة ولايات أو أقاليم أصغر، لكل منها حكومتها وإدارتها الخاصة، وهي كالتالي:

  • دولة لبنان الكبير (1920-1943): وتضم بيروت وضواحيها، بالإضافة إلى أجزاء من جبل لبنان وطرابلس وصيدا وصور وسهل البقاع. قام الفرنسيون بتوسيع لبنان بإضافة الأراضي التي كانت ذات أغلبية مسلمة أو درزية إلى الجيب المسيحي الماروني الحالي. وكان الهدف هو خلق حليف مخلص ومستقر لفرنسا في المنطقة، فضلاً عن حماية وتعزيز مصالح الأقليات المسيحية.
  • الدولة السورية (1924-1930): والتي شملت دمشق وضواحيها، بالإضافة إلى حلب وحمص وحماة واللاذقية ودير الزور والرقة والحسكة. كانت دولة سوريا في البداية عبارة عن اتحاد فيدرالي من أربع مناطق تتمتع بالحكم الذاتي: دمشق وحلب والعلويون (أعيدت تسميتها فيما بعد باللاذقية) وجبل الدروز. ومع ذلك، في عام 1925، ألغى الفرنسيون الفيدرالية والسلطة المركزية في دمشق تحت إشراف مفوض سامٍ عينته باريس. وغُيِّرَ اسم الدولة السورية إلى الجمهورية السورية في عام 1930.
  • الدولة العلوية (1920-1936): والتي شملت معظم المنطقة الساحلية من طرطوس إلى أنطاكية (في تركيا حالياً)، بالإضافة إلى أجزاء من المناطق الداخلية في سوريا. أنشأ الفرنسيون دولة منفصلة لهم لعزلهم عن الأغلبية العربية السنية واستغلال ولائهم المحتمل لفرنسا كأقلية دينية.
  • دولة جبل الدروز (1921-1936): والتي ضمت معظم المنطقة الجبلية جنوب دمشق. وقد أنشأ الفرنسيون دولة منفصلة لهم لعزلهم عن الأغلبية العربية السنية واستغلال ولائهم المحتمل لفرنسا كأقلية دينية.
  • سنجق منطقة الإسكندرونة (1921-1939): الذي ضم أجزاء من شمال سوريا وجنوب تركيا على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. كان لدى السنجق سكان مختلطون من الأتراك والعرب والأرمن والأكراد والشركس وغيرهم. وأدارها الفرنسيون كجزء من سوريا حتى عام 1939، عندما ضمتها تركيا بعد استفتاء تحت إشراف دولي.

كما حافظ الفرنسيون على سيطرتهم المباشرة على بعض المناطق التي كانت تعد ذات أهمية إستراتيجية أو حساسة، مثل ميناء بيروت، ومطار دمشق، والسكك الحديدية، والجمارك، والعملة، والخدمات البريدية، ونظام التعليم، والنظام القضائي، والخارجية.

كيف كان رد فعل السوريين واللبنانيين على الحكم الفرنسي؟

قوبل الحكم الفرنسي للانتداب بمقاومة واستياء واسعين من قبل غالبية الشعب، وخاصة القوميين العرب الذين سعوا إلى استقلال ووحدة سوريا ولبنان. واجه الفرنسيون العديد من الثورات والانتفاضات طوال فترة الانتداب، والتي قُمِعَ بعضها بوحشية باستخدام القصف الجوي والاعتقالات الجماعية والإعدامات والترحيل.

ومن أبرز الثورات:

  • الثورة السورية الكبرى (1925-1927): التي بدأت في جبل الدروز وامتدت إلى دمشق وحلب وحماة وحمص وأجزاء أخرى من سوريا. قاد الثورة سلطان الأطرش، وهو زعيم درزي، وبدعم من فصائل مختلفة من القوميين السوريين، بما في ذلك وجهاء المناطق الحضرية وزعماء القبائل وعلماء الدين والفلاحين. هدفت الثورة إلى إسقاط الانتداب الفرنسي وإقامة دولة سورية مستقلة. لكن الجيش الفرنسي سحق التمرد في نهاية المطاف بمساعدة بعض القوات الموالية، مثل قوات الدرك اللبنانية والميليشيا العلوية.
  • الكتلة الوطنية السورية (1928-1936): وهي عبارة عن ائتلاف من الأحزاب والجماعات القومية السورية التي ظهرت بعد الثورة السورية الكبرى. وترأس الكتلة هاشم الأتاسي، وهو سياسي بارز من حلب، وضمت ممثلين عن مختلف المناطق والطوائف والطبقات السورية. واعتمدت الكتلة نهجاً معتدلاً وعملياً لتحقيق الاستقلال عن فرنسا من خلال المفاوضات والدبلوماسية. ونجحت الكتلة في توقيع معاهدة الاستقلال الفرنسية السورية عام 1936، التي منحت سوريا السيادة الكاملة وأنهت الانتداب. ومع ذلك، لم يتم التصديق على المعاهدة من قبل البرلمان الفرنسي بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939.
  • الحركة الوطنية اللبنانية (1936-1943): وهي عبارة عن ائتلاف من الأحزاب والجماعات الوطنية اللبنانية التي ظهرت بعد معاهدة الاستقلال الفرنسية السورية. قاد الحركة بشارة الخوري، وهو سياسي ماروني بارز من بيروت، وضمت ممثلين عن مختلف المناطق والطوائف والطبقات اللبنانية. هدفت الحركة إلى تحقيق الاستقلال عن فرنسا وإقامة دولة لبنانية ديمقراطية وعلمانية تحترم حقوق ومصالح جميع مواطنيها. نجحت الحركة في إعلان استقلال لبنان في 22 نوفمبر 1943، بعد فترة وجيزة من العصيان المدني والأزمة السياسية التي أدت إلى اعتقال وإطلاق سراح العديد من القادة اللبنانيين من قبل السلطات الفرنسية.

كيف انتهى الانتداب الفرنسي؟

تسارعت نهاية الانتداب بسبب تأثير الحرب العالمية الثانية على فرنسا ومستعمراتها. فقد احتلت ألمانيا النازية فرنسا عام 1940، مما أدى إلى تقسيم فرنسا إلى منطقتين: واحدة تحت السيطرة الألمانية (فرنسا فيشي) والأخرى تحت السيطرة الفرنسية (فرنسا الحرة). وحدث الانقسام نفسه في سوريا ولبنان، حيث انحاز بعض المسؤولين الفرنسيين إلى جانب فرنسا فيشي وآخرون إلى جانب فرنسا الحرة.

تعاونت سلطات فيشي الفرنسية في سوريا ولبنان مع ألمانيا النازية وسمحت لها باستخدام أراضيها كقواعد لعملياتها في شمال إفريقية والشرق الأوسط. أدى هذا إلى غزو بقيادة بريطانيا لسوريا ولبنان في يونيو 1941، بدعم من القوات الفرنسية الحرة بقيادة الجنرال شارل ديغول. أدى الغزو إلى هزيمة فرنسا الفيشية واستبدالها بفرنسا الحرة كقوة انتداب.

لكن فرنسا الحرة لم تتمتع بالكثير من الشرعية أو الشعبية بين شعبي سوريا ولبنان، الذين اعتبروها شكلاً آخر من أشكال الاستعمار. علاوة على ذلك، واجهت فرنسا الحرة ضغوطاً من حلفائها البريطانيين لمنح الاستقلال لسوريا ولبنان كجزء من مجهودهم الحربي ضد ألمانيا النازية. ولذلك خففت فرنسا الحرة تدريجياً قبضتها على سوريا ولبنان واعترفت بسيادتهما واستقلالهما.

أعلنت سوريا استقلالها في الأول من كانون الثاني/يناير 1944، في عهد الرئيس شكري القوتلي، الذي انتخبته الجمعية التأسيسية التي صاغت دستوراً جديداً لسوريا. فيما أعلن لبنان استقلاله في 22 نوفمبر 1943، في عهد الرئيس بشارة الخوري، الذي انتخبه البرلمان الذي عدل الدستور اللبناني الحالي.

ومع ذلك، ظل كلا البلدين تحت الاحتلال العسكري الفرنسي حتى عام 1946، عندما انسحبت القوات الفرنسية أخيراً من سوريا في 17 أبريل ومن لبنان في 31 ديسمبر، بعد مواجهة احتجاجات واشتباكات عدة مع القوات المحلية.

ما هي النتائج والآثار المترتبة على الانتداب الفرنسي؟

كان للانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان عواقب وتداعيات دائمة على كلا البلدين وعلى المنطقة ككل. بعض هذه كانت:

  • قيام دولتين متميزتين من منطقة تاريخية واحدة: سوريا ولبنان. رسم الانتداب الفرنسي حدوداً مصطنعة تفصل بين الأشخاص الذين يشتركون في التاريخ أو الثقافة أو اللغة أو الدين أو العرق أو المصالح المشتركة. كما أدى الانتداب إلى خلق أو تفاقم الانقسامات الطائفية بين المجموعات الدينية أو العرقية المختلفة داخل كل بلد، مثل السنة والشيعة والعلويين والدروز والمسيحيين والأكراد والأرمن وغيرهم. كما حَرَمَ الانتداب سوريا من بعض الأراضي التي تُعَدُّ جزءاً منها.
  • تطوير نظام إقليمي معقد وديناميكي في الشرق الأوسط، يشمل مختلف الجهات الفاعلة والمصالح والصراعات والتحالفات. كان الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان جزءاً من عملية أكبر لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وظهور دول وجهات فاعلة جديدة. أثر الانتداب على العلاقات بين سوريا ولبنان، وكذلك على علاقاتهما مع اللاعِبِين الإقليميين الآخرِين، مثل تركيا والعراق والأردن وفلسطين وإسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية وإيران وغيرها. كما أثر الانتداب على تدخل القوى الخارجية في المنطقة، مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقاً وغيرها. وساهم الانتداب في ظهور العديد من القضايا والتحديات التي لا تزال تشكل منطقة الشرق الأوسط حتى اليوم، مثل الصراع العربي الإسرائيلي، والمسألة الكردية، والنظام الطائفي اللبناني، وغيرها.
  • ظهور قوى وحركات سياسية واجتماعية جديدة في كلا البلدين، مثل القومية والاشتراكية والشيوعية والإسلاموية والعروبة وغيرها. حيث حفز الانتداب الفرنسي تطوير إيديولوجيات وأجندات مختلفة سعت إلى تحدي النظام الاستعماري أو استبداله وتحديد هوية ومصير سوريا ولبنان. بعض هذه القوى والحركات تعاونت أو تنافست مع بعضها بعضاً، في حين اشتبك بعضها الآخر أو تحالف مع السلطات الفرنسية أو جهات خارجية أخرى.
  • قيام نظام سياسي معقد وهش في لبنان، يعرف بالميثاق الوطني أو النظام الطائفي. الميثاق الوطني هو اتفاق غير مكتوب تم التوصل إليه في عام 1943 بين الطوائف اللبنانية الرئيسية لتوزيع السلطة والتمثيل فيما بينها وفقا لوزنها الديمغرافي ودورها التاريخي. ونص الاتفاق على أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً، ورئيس الأركان درزياً. كما أكد الميثاق على استقلال لبنان وهويته العربية، مع رفض أي اصطفاف مع سوريا أو فرنسا. ويهدف الميثاق إلى تحقيق التوازن بين مصالح وتطلعات المجتمع اللبناني المتنوع ومنع أي هيمنة أو تهميش من قبل أي فئة. ومع ذلك، فقد أنشأ الاتفاق أيضاً نظاماً كان عُرْضَةً لعدم الاستقرار والفساد والطائفية والتدخل الخارجي والحرب الأهلية.
  • تشكيل دولة مركزية وسلطوية في سوريا، يسيطر عليها الجيش وحزب البعث. حزب البعث هو حزب اشتراكي عربي تأسس عام 1947 على يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وهما مثقفان سوريان تأثرا بالإيديولوجيات الأوروبية وعارضا الاستعمار والإقطاع. وكان الحزب يدعو إلى الوحدة العربية والحرية والاشتراكية والعلمانية. وقد اكتسب الحزب شعبية بين فئة من الجماهير السورية والضباط العسكريين الذين كانوا غير راضين عن الحكومات المدنية الضعيفة والفاسدة التي حكمت سوريا بعد الاستقلال. استولى الحزب على السلطة عام 1963 عبر انقلاب عسكري قادته مجموعة من الضباط تعرف باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة. كان الانقلاب بمثابة بداية لسلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة التي بلغت ذروتها في عام 1970 مع صعود حافظ الأسد، وهو ضابط علوي عزز سلطته من خلال مزيج من القمع والمحسوبية والفساد. وحكم الأسد سوريا حتى وفاته عام 2000، حيث خلفه نجله بشار الأسد الذي ورث نظام والده وواجه تحديات وأزمات غير مسبوقة في حكمه.
زر الذهاب إلى الأعلى