أرشيف المجلة الشهرية

حكايتي مع إدلب

بقلم: عبد المعين عبد المجيد

لي مع إدلب حكاية تبدأ من تكليفي بتأسيس المركز الإذاعي والتلفزيوني فيها، وفصلها عن مركز حلب، وإعطاء تلك المحافظة حقها في تغطية الأخبار والمناسبات.

حينها تلقيت من إدارة مركز حلب نصيحة، كتمت مضمونها منذ عام 2001 حتى تاريخه. قال لي الحلبيون: غريب قبولك هذا التكليف، وتركك ساحة الأمويين بدمشق، والمجيء إلى محافظة لا يوجد فيها إلا الشعيبيات، والكرز، ودبكات شعبية تطل في المناسبات الوطنية، فإدلب كلها لا تحتمل رسالة أسبوعية. هذا فحوى النصيحة حرفياً!

إدلب الوسطى!

بدأت العمل في تأسيس كادر، وتأمين مساحة في الطابق الثالث في مبنى المحافظة، بمساعدة نواف الفارس محافظ إدلب آنذاك. قمت بجولات واستطلاعات في المدن، والقرى، والمشاريع، والمؤسسات، ولقاءات مع المهتمين بمحافظتهم، وكونت فكرة لا بأس بها، وفوجئت بما وصلت إليه من نتائج تدعوك وتحفزك على تصويرها والحديث عنها، والغوص في مجتمعها الذي بدا نشيطاً، محباً لمحافظته، منتجاً في أرضه، شغوفاً للمعرفة، صابراً على معاناته؛  من قلة الخدمات، وقلة فرص العمل، وعزلة المحافظة الجغرافية؛ بسبب عدم مرور الأوتوستراد الدولي – الذي يربط إدلب بالمحافظة المجاورة –  لها.

رغم ذلك، تبين لي أن محافظة حمص ليست المنطقة الوسطى، إنما إدلب التي يستطيع أهلها  الذهاب إلى حمص، وحماة، وحلب، والرقة، وحتى الحسكة بمسافات شبه متقاربة، والدليل على ذلك أنه عندما كان يتم تكليفنا  بمهام إلى تلك المحافظات؛ لمساعدة الزملاء في مراكزهم التلفزيونية والإذاعية، لم نكن نجد صعوبة في الوصول والعودة في اليوم ذاته.

خلال وجودي هناك علمت أن كثيراً من المشاريع التي كان يُفترض أن تكون لصالح إدلب، كانت تتحول إلى حلب؛ بسبب نفوذ المسؤولين، وعدم رغبة القيادة الحاكمة في مساعدة محافظة إدلب أساساً.

عندما كنا ندخل الحواري والأزقة، ونلتقي الناس، كنا نجد ما يثيرنا ويجذبنا لتدوينه وتسجيله، ولا أقصد هنا تصوير المساحات الخضراء، وفلاحها النشيط الخبير، بل أعني الإنسان، واعتماده الذاتي، وسعيه لبناء أسرة،  وتحمل الظروف الاقتصادية القاسية،  ناهيك عن جرأة أبنائها في السفر والترحال والعودة، رغم أن ذلك أسهم للأسف – ودون قصد – في حرمان المحافظة من المتعلمين، والحرفيين، والفنانين، والأطباء، والمهندسين في وقت من الأوقات، رغم ذلك لا تصدق، عندما تذهب إلى سهل الروج، كيف تحقق كل عائلة تسكن السهل حالة الاكتفاء الذاتي إلى جانب التعليم والتصدير.

إرث يمتد بعيداً

المفاجأة أن إرث إدلب يمتد بعيداً خارج جغرافيا المحافظة، فمن درّب على أصول الفنون الشعبية في حلب،  بالإضافة إلى شيوخ رقص السماح هم من دركوش، ومن قضى أشهراً عدة في تدريب فرقة الرحابنة على الفنون الشعبية في بيروت هم من مدينة إدلب… وهناك الكثير من الموسيقيين الأدالبة الذين عزفوا وراء عمالقة الطرب في حلب، ولا يتسع المجال لذكرهم.

ظرفاء إدلب

عرفت دمشق بشخصياتها المرحة الخفيفة الظل، ممن بات يُطلق عليهم “ظرفاء دمشق”، وهم موثقون في ما كُتب عن دمشق وأهلها، ولا يتعدى عددهم العشرة، وقد عاصرت بعضهم. في إدلب هناك العشرات من الذين امتلكوا روح النكتة والظرف، والجرأة في القص والإبداع في سرد الحكايات، وحسيب كيالي  من الذين تعلّموا من هؤلاء.

ذات مرة شعرت بالامتعاض من بعض المعدين والمديرين في مركز حلب الإذاعي والتلفزيوني، الذين أبدوا تذمرهم وسخطهم،  بعدما وضع مدير المراكز في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في لوحة الإعلانات جدولاً لرسائل المحافظات الأنشط والأفضل أداء؛ ليكون حافزاً لتحسين أداء باقي المراكز، فحلت رسالة إدلب الأولى، وأتت بعدها باقي المحافظات.

هنا إدلب من حلب

 استبدت بي الرغبة برفع منسوب هذا الامتعاض الذي وصلني من قبل إدارة مركز حلب، فقررت إنجاز أكثر من رسالة إدلبية تحت عنوان (هنا إدلب من حلب)، ورحت أسجل لقاءات مع مالكي ومديري مؤسسات كبيرة في حلب، ومع أساتذة في جامعة حلب، وأطباء، ومهندسين، وأصحاب مشافٍ خاصة، ومطربين، وموسيقيين، وشعراء، وأدباء، وكتاب، ومحامين مشهورين، وهؤلاء جميعهم من إدلب، ولكنهم معروفون على أنهم حلبيون، تحدثوا لنا عن إدلب، والمناطق التي خرجوا منها منذ عقود، وكيف استقروا في مدينة حلب، وعن مشاوريهم الأسبوعية لقضاء يوم مع أهلهم وذويهم في إدلب.

بعد بث أكثر من رسالة تحت العنوان نفسه، انزعج محافظ حلب، وأمين فرع الحزب، وطالبوا بإيقافها. لاحقاً اكتشفت أن في مبنى الإذاعة والتلفزيون بدمشق، هناك عشرات المعدين والمحررين، ورؤساء الأقسام من إدلب، لكن معظمهم لم يعلن انتماءه للمحافظة، وعندما كان يُسأل، كان يقول أنا من حلب… كنت سعيداً بهذا الاكتشاف، وقررت أن أقوم بتسجيل لقاءات معهم؛ ليتحدثوا عن محافظتهم، فمنهم من سيكون أقدر بالحديث والشرح عن أهل المحافظة، وعن أجوائهم الاجتماعية، لكنني عدت خائباً لرفض الفكرة من قبلهم، وامتناعهم عن الحديث.

بعد سبعة أشهر من تأسيسي لمركز إدلب التلفزيوني، غادر السيد نواف الفارس منصبه كمحافظ لإدلب، وجاءنا السيد حسين الهدار محافظاً، وهنا بدأت مشكلات المركز تظهر ونشاطه يتراجع. فتشنا عن السبب، فتبين لنا أن كثيراً من المتنفذين والفاسدين لا يريدون التعامل مع المركز، وبدؤوا ينشطون  لعرقلة، وإفشال كثير من المهمات، لكن هذا دفعنا لمضاعفة التغطية  الإعلامية والتحقيقات عن المجتمع الإدلبي، لا المسؤولين ومناسباتهم، وانتقل الضغط إلى فرع مخابرات أمن الدولة، بالتنسيق مع قيادة الشرطة وأمين فرع الحزب، حتى وصلت شكوى إلى أعضاء من القيادة القطرية، تتهمنا بعدم الترويج لاجتماعاتهم، ولقاءاتهم المملة.

المشكلة كانت أن المركز لا يمتلك، إلا كاميرا واحدة، ومصوراً واحداً،  ونحن لدينا الرسالة الأسبوعية، وتخديم البرامج القادمة من دمشق؛ لإنجاز مجموعة أفلام وثائقية عن الآثار والمدن القديمة، ناهيك عن اهتمامنا بتصوير أرشيف خاص بالمركز، يرصد المواسم والمحاصيل، ولوحات الفنون الشعبية، وإجراء حوارات مع كتاب، وأدباء وشعراء المحافظة؛ لتكون في مكتبة المركز، وتتم إذاعتها تباعاً، والاستفادة منها في برامج موضوعة في خطة المراكز، بالإضافة إلى تسجيل حلقة كل عشرين يوم، لصالح برنامج (التلفزيون والناس)؛ بسبب زخم النشاط الاجتماعي، وخاصة في فصل الصيف، وازدحام الزوار لإدلب من جميع المحافظات.

العلاقة الشائكة بين إدلب وقراها

بدأت علاقة المركز بجمهور محافظة إدلب تتطور، وراح أبناء المحافظة يقدمون خدماتهم، ويكثرون من تواصلهم اليومي معنا. كانت إدلب مهمشة إعلامياً، والضوء لا يصلها. وكانت هناك مشكلة اجتماعية نعاني منها، وهي العلاقات ما بين المناطق والقرى وبين مدينة إدلب، تكاد تجد نفسك في حلبة مصارعة، فمن الصعوبة إرضاء الجميع بالتغطية الإعلامية، ومن الصعوبة أيضاً إقناع الجميع، بأن إدلب تعبر عنهم أيضاً. إضافة لعدم وجود الإمكانات الفنية، لتغطية ما يحصل على مساحة هذه المحافظة الغنية بأناسها وإنتاجها. ولعل نشاط الأدالبة خارج محافظتهم مثير للدهشة حقاً. مواطن سوري موجود في حلب أو دمشق، لديه معاملة في دائرة رسمية ما، وهناك مشكلة ما تقف أمامه، ما عليك إلا الاستعانة بمعارفه الأدالبة؛ ليحلوا لك الإشكال، بشكل يدهشك بسرعته وشهامته. وهؤلاء منتشرون في جميع الوزارات والمؤسسات، والأسواق التجارية، وتكتشف أن مداخل دمشق، وخاصة بائعي البطبخ في فصل الصيف، وسوق الهال، والعاملين في وزارة الداخلية من الشرطة، والمشافي العامة كلهم من محافظة إدلب، ويقدمون الخدمات لبعضهم، وأصدقائهم ومن حولهم، وبخلاف آخرين هم يفعلون ذلك، دون رشاوى ومقابل مالي.

بعد قضاء ثلاث سنوات في محافظة إدلب، تعرفت على سورية وجزء كبير من أسرارها،  كما لمست التعايش الحقيقي ما بين المسيحيين والمسلمين في إدلب، والعلاقة ما بين الطوائف، إذ كان في إدلب قرى شيعية ودرزية في قلب الأغلبية السنية، وكلهم على خط واحد. ولا أنسى مدى تأثير بيروت على إدلب؛ وذلك بسبب العدد الهائل من العمال، وأصحاب المحال التجارية، والسائقين، والمزارعين الأدالبة الذين يعملون في لبنان، وانعكاس ذلك على المجتمع الإدلبي المادي والثقافي، ففي أسواق إدلب ما يدلك على ذلك، وعلى حركة الرحلات اليومية من إدلب إلى بيروت، فهي تكاد تساوي المسافة ما بين إدلب ودمشق.

وأذكر عندما كانت تُجمع تبرعات في المحافظات السورية، لصالح فلسطين أو العراق، كانت إدلب تلك المحافظة المهمشة الأولى، وتتصدر القائمة، وبعدها تأتي دمشق وحلب، ولا أنسى مشاهد التبرع من قبل الأطفال والنساء، وكمية الذهب الذي وُضع في صناديق إدلب، وكان ذلك مؤشراً مهماً على طبيعة أبناء هذه المحافظة، رغم تخلي بعض أبنائها الذين سكنوا حلب ودمشق من مسؤولين وتجار عنها.

نساء إدلب القويات

من خلال علاقاتي في إدلب تعرفت على طبيعة أهلها، وكان التواصل مع الأدالبة مريحاً وواضحاً، مكّنني من التعرف على عاداتهم وتقاليدهم وقوانينهم الاجتماعية، ومن المقارنة بين المجتمعات السورية، ومعرفة تفاصيل لا يتم تناقلها لخصوصيتها، والخوف من تأويلها بشكل سلبي ضد المجتمع الإدلبي المليء بالمفاهيم المحافظة الخاصة به التي يتمسك بها، لكن هذه القيم المحافظة خلقت سمات خاصة للمرأة، فالمرأة في إدلب لها مواصفات، ولها خصوصيتها التي لا يمكن فهمها، دون التعمق في بنية المجتمع. معظم النساء في إدلب يستطعن إدارة الأسرة، والتحكم بها؛ نظراً لإمكاناتهن الذهنية وقوة شخصيتهن، وقدرتهن على التعايش مع وضعهن الاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى اهتمام المرأة الإدلبية، بمعرفة ما يدور حولها، والملامح الجمالية التي تتمتع بها ولون بشرتها، وارتباطه بالأرض، وما تنتجه من ألوان وثمار  تنعكس على نفسيتها، وأسلوب تعاملها مع الآخر، ولا أدري ما هي نسبة العنوسة عندهم، لكنني لاحظت عدداً لا بأس به من تلك الحالات، ولهذا أسباب تعود إلى طبيعة الفتاة والجو المحيط بها.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى