فنون وآداب

نصوص إدبية || إبريق الشاي والعفريتة السورية (قصة قصيرة)

قصة: صخر بعث

لا أحبّ الشاي ولا أشربه أو أشربها إلّا نادراً، لكنّ العائلة، الأسرة الصغيرة أعني، تحبّ الشاي وتحبّ الجلوس إلى مائدة الفطور مثل السوريين الطبيعيين، وليس مثلي!

 بيض مقلي، جبنة، زيتون، عطّون، خيار بندورة، مكدوس، زيت وزعتر، وشاي، هكذا يأكل السوريون الطبيعيون في الصباح، ولطالما قصّرت في أداء هذا الطقس العائلي اللطيف، ربّما بسبب عدم الانسجام مع الطبيعة، فأنا سوري غير طبيعي “أعتقد”، سوري منكَّد ومنكِّد ونكدي، في الوقت الذي يفهم فيه تماماً ما معنى “اللمّة العائلية” السورية، يفكّر دائماً: أيّ لمّة وأيّ عائلة وأيّ سورية وسوريا هذه!.

غيّر “إبريق الشاي” حياتنا البارحة، عندما أيقظني ابني الأصغر “جاد” الطفل السوري الاجتماعي الذي يحبّ اللمّة والعائلة والناس كثيراً، صارخاً بصوته الطفولي اللطيف ولهجته السورية الإدلبية البسيطة: أبوي تعا كول، فما كان لبابا أن يرفض دعوة بهذه البراءة والمحبّة لتناول الطعام وفوراً بعد الاستيقاظ، مع أنّ هذا ليس طبيعياً، لأنّ البابا يستيقظ بعد ساعتين من استيقاظه، لكنّه القدر!.

بتشرب شاي؟ نعم نعم أشرب طبعاً، ناولوني السكّر، “شكراً، عفواً”، وخبز وملعقة وتفضّل وخود وإلخ..، وإذ ببخار الإبريق يعجّ عجّاً، ثمّ تحوّل إلى دُخان كثيف مُخيف، كدنا نموت من الخوف، ففاجأتنا مفاجأة المفاجآت التي يحلم كلّ إنسان مهبول بها، حين بدت لنا بعد لُقمتين وثلاث غمسات ورشفة من الشاي مخلوقة حقيقية تتكوّن أمامنا فوق “السُفرة”، من بُخار ودُخان، ملوّنةً بألوان البيض والبندورة والزيتون والزعتر، شهيّة نديّة بهيّة، وصاحت بنا صياحاً بلا صراخ، أنا “شعبوطة” السورية، اطلبوا وتمنّوا.. وشبّيكن لبّيكن.. أمنية وحدة بين إيديكن.

هذا ليس فطوراً، هذا حفل تحضير أرواح قلتُ لزوجتي السورية، قالت: “طوّل بالك.. خلّيني افهم.. هي من وين بتعرفك”؟، حلو هالصباح.. “يلعن أبو الشاي ع أبو الفطور ع أبو المكدوس”، قال ابني الكبير السوري البارع في الرياضيات: “انتي يا “شعبوطة” شقد عمرك؟”، وسألتها ابنتي الوسطى السورية المُحبّة للفنون الجميلة و”الإتكيت”: “طيّب انتي كيف بتطلعي من إبريق الشاي بدون ما تستأذني؟”، قال الطفل السوري الصغير “جاد”: هاي شابوطة حلوي هاي..، فردّت “شعبوطة” السورية: معكن خمس دقايق يا حلوين لتطلبوا منّي أمنية وحدة انتو الكلّ!
ببساطة سورية عفيفة ولطيفة قالت زوجتي: “نرجع على سوريا بأمن وسلام”، قال ابني الأكبر: “دراستي وجامعتي”، قالت ابنتي الوسطى: “بابا يشتغل ويطلع من البيت ونرتاح شوي من ملاحظاتو ونصائحو”، تقصد أكل…. تبعي!، وقال الصغير: “شاكرية” (اللبن المطبوخ بالبصل واللحم مع الرزّ يعني) والتي يلفظها “شاكنينا”.

لا أحبّ الشاي قلتُ لشعبوطة السورية، ولا أحبّ الفطور يا شعبوطة السورية، ولا أحبّ الكذب يا شعبوطة السورية، وأبشع شيء يا أمّ الشعابيط أن يغرّر أحد بأولادي، ارجعي عالإبريق، تعبانين.

قالت “شعبوطة السورية”: أعود.. لكنّك لم تتمنّى شيئاً يا بني آدم!، قُل شيئاً، لا بدّ أنّك تفكّر في شيء ما، قلتُ: السلامة.. أتمنّى لكِ السلامة، بس اتركينا ناكل هاللقمتين، قالت: لا.. أرجوك تمنّى.. أنا سورية متلي متلك.. اعتبرني متل أختك وتمنّى..

يا للرقّة!.

زوجتي عادت فسألَتها: ليش متل يعني؟، الشعبوطة ردّت: أنا “عفريتة” يا “خيت” والعفريتات بيحبّوا رجال الإنس محبّة أخوية وخلصت، خليه يتمنّى أمنية وحدة واتّفقوا بدّي جواب نهائي خلص الوقت، فاستيقظتُ وصدّقتُ وصرختُ: يا شعبوطة السورية بدنا السعادة.

– السعادة؟

– نعم.. السعادة؟

– بدّي روح، لازم تطلب شي واضح ومحدَّد..

– طيّب، بدنا بيت، لكن بشرط واضح ومحدَّد..

– بيت؟

– إي بس مو حيالله بيت..!

– أي قصر بيخطر ببالك ولا يهمّك، شبّيك لبّيك شعبوطة بين..

– لا لا أبداً بس بيت، لكن بشرط واحد.

– قول، وأنا أختك شعبوطة السورية، بس قول..

– بدنا بيت ببابين يا أختي.

بيت عادي، وكتير طبيعي، كتير يا أختي الشعبوطة العفريتة السورية، بيت بسيط متواضع، لكن ببابين. باب نفتحه فنخرج منه في “غازي عنتاب” إلى شارع نظيف يذهب أولادنا عبره إلى مدارسهم فيتعلّمون، وعندما يعودون من المدارس يفتحون الباب الآخر فيخرجون إلى الحارة في “إدلب” كي يلعبوا مع رفاقهم.

بيت ببابين، باب نفتحه فنخرج منه في “غازي عنتاب” إلى سوق أو حديقة أو مستشفى فنقضي عملاً أو شأناً أو حاجةً، ثمّ نعود فنخرج من الباب الآخر إلى “إدلب” كي نقضي الوقت مع من تبقّى من الأهل والأصحاب.

بيت ببابين يا “شعبوطة”، باب نفتحه فنخرج منه في “غازي عنتاب” للعمل والكدّ، ثمّ نعود إلى البيت لنخرج من بابه الثاني إلى “إدلب” كي نصرف ما نكسبه.

بيت من بابين أيّتها “الشعبوطة السورية”، باب يؤدّي إلى تلبية حاجاتنا المادّية والتعليمية والصحّية في “غازي عنتاب”، وباب يلبّي احتياجنا لأحضان أمّهاتنا وصدق رفاقنا ومحبّة أهلنا وأقربائنا في “إدلب” يا “شعبوطتي السورية”.

هي ذي السعادة التي نطلبها نحن العائلة السورية البسيطة، بتقدري؟ ولا بترجعي عإبريق الشاي؟

عادَت قبل أن أكمل كلمة الرشفة.

زر الذهاب إلى الأعلى