النفس البشرية بين وطأة الصمت والحاجة إلى الكتابة
الكتابة عن التجارب العاطفية المؤلمة يمكن أن تحسّن مناعة الإنسان

كمال صوان – العربي القديم
ما لم يُكتب بعد… هل هو مفقود أم في طور التشكّل؟
داخل كل إنسان، هناك نصوص غير مكتملة، مشاعر بلا لغة، وذكريات لم تُروَ. “ما لم يُكتب بعد” ليس مجرّد كلمات لم تصل إلى الورق، بل هو عالم داخلي يختبئ في تجاويف النفس، ينتظر لحظة البوح، أو ربما لن تأتي أبدًا. فالكتابة ليست فعلًا لغويًا فحسب، بل هي عملية نفسية، استبطانية، تشبه الغوص في أعماق الذات لاستخراج ما لم يتم التعرف عليه بعد. ومن وجهة نظر علم النفس، فإن الكثير مما لا يُكتب، إنما هو ما لا يُدرك بعد، أو ما يخشاه العقل من أن يتحوّل إلى وعي صريح.
🔹 الكتابة كمرآة داخلية: ما الذي نكتبه دون أن ندري؟
في جلسات الكتابة الحرة، كثيرًا ما يفاجأ الإنسان بنفسه. سطور تُكتب وكأن اليد تسبق العقل، وأفكار تظهر فجأة دون مقدمات واعية. هذا ما يُشير إليه علماء النفس بـ”الكتابة التعبيرية”، وهو أسلوب يتم فيه تحرير المشاعر والأفكار دون رقابة داخلية، في عملية تشبه التنفيس الانفعالي. الدكتور جيمس بينيبايكر (James Pennebaker)، رائد في هذا المجال، أظهر من خلال تجاربه أن الكتابة عن التجارب العاطفية المؤلمة يمكن أن تحسّن مناعة الإنسان وتقلّل من مؤشرات التوتر والقلق والاكتئاب (Pennebaker, 1997). الكتابة هنا ليست للتوثيق، بل للاكتشاف — لا نكتب فقط ما نعرفه، بل ما لم نكن نعلم أننا نحمله.
🔹 اللاوعي الكاتب: حين يكتب العقل الباطن روايته
اللاوعي ليس مجرد خزان للذكريات القديمة أو المشاعر المكبوتة، بل هو كاتب خفي يوجّه كثيرًا من إنتاجنا المعرفي دون وعي منا. التحليل النفسي، كما أسسه فرويد ووسّعه يونغ، يعتبر أن الإبداع والكتابة يحملان في طياتهما تمثيلات لاواعية، وأحيانًا تكون الكتابة بمثابة أحلام مكتوبة، ترمز لما لا يمكن قوله صراحة. عندما نكتب، تنفتح “بوابة الرموز”، وتبدأ الذات اللاواعية بالتعبير عن نفسها عبر المجاز والصورة واللغة الشعرية. إنه نوع من “التداعي الحر” على الورق، حيث يصبح النص فضاءً لإسقاط ما تعذّر التعبير عنه مباشرة.

🔹 ما لم يُكتب بعد: صراعات مكبوتة تنتظر لغتها
من وجهة نظر التحليل النفسي الكلاسيكي، فإن “ما لم يُكتب بعد” يمكن أن يُفهم على أنه الكبت النفسي (Repression)، وهو أحد أهم مفاهيم سيغموند فرويد في تفسير نشوء الأعراض النفسية. الكبت هو آلية دفاعية لا شعورية تعمل على إبعاد المشاعر أو الرغبات أو الذكريات المؤلمة عن ساحة الوعي، لأنها تُهدد توازن الأنا أو تتعارض مع القيم الأخلاقية والاجتماعية. إلا أن تلك المحتويات المكبوتة لا تختفي فعليًا، بل تظل حية في اللاوعي، وتعود للظهور بشكل رمزي أو غير مباشر — في الأحلام، أو الزلات اللسانية، أو الأعراض النفسية، أو حتى في النصوص التي نكتبها دون أن نعي تمامًا مرجعياتها.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى الكتابة كفعل “استحضار”، أو وسيلة لاستنطاق ما تم كبته طويلًا. فاللاوعي لا يتحدث بلغة صريحة، بل بلغة الصور والرموز، وهو ما يجعل الكتابة — خاصة الإبداعية منها — أداة مرنة لترجمة الصراعات النفسية المكبوتة إلى شكل يمكن التفكير فيه أو معالجته. وهذا ما يُفسّر، مثلًا، لماذا قد يكتب الشخص قصة عن “شخص آخر” يُعاني من العزلة، في حين أن تلك القصة تمثل إسقاطًا غير مباشر لمشاعره الخاصة.
كما يشير بيسل فان در كولك (van der Kolk)، فإن الأفراد الذين مروا بتجارب صادمة ولم يعبّروا عنها لفظيًا، غالبًا ما يعانون من “صمت جسدي ونفسي”، وكأن التجربة لم تُدمج لغويًا في البنية النفسية للفرد. من هنا، تأتي أهمية “منح اللغة لما لم يكن له صوت”، كأحد أشكال العلاج وإعادة البناء الداخلي.
🔹 الكتابة كعلاج: ما بين الحبر والشفاء :
الكتابة ليست مجرد أداة تعبير، بل هي أيضًا أداة علاجية فعّالة أثبتت فائدتها في عدة مدارس نفسية. من أبرز هذه المدارس:
1. المدرسة السلوكية–المعرفية (CBT):
- تعتمد على إعادة هيكلة الأفكار المشوهة والتعامل مع أنماط التفكير السلبي.
- يتم استخدام “دفتر الأفكار”، أو ما يسمى بـالكتابة التأملية، كوسيلة لملاحظة الأفكار وتفكيكها.
- من أبرز روّادها في هذا السياق: Aaron Beck وJudith Beck.
2. العلاج السلوكي الجدلي (DBT):
- يُستخدم مع اضطرابات مثل اضطراب الشخصية الحدية، ويعتمد على “كتابة المشاعر” لتحديد حالات الذروة العاطفية.
- من أبرز مطوريه: Marsha Linehan.
3. العلاج الإنساني–الوجودي:
- يرى أن التعبير عن التجربة الذاتية جزء من تحقيق الذات.
- يشجع على “السرد الذاتي” وكتابة اليوميات لفهم معنى التجارب.
- من أبرز الأسماء: Carl Rogers وRollo May وViktor Frankl.
4. العلاج بالتعبير الإبداعي (Expressive Arts Therapy):
- يُدمج بين الكتابة، الرسم، الحركة، والموسيقى.
- يعزز فكرة أن التعبير الإبداعي يُحرر النفس من الجمود النفسي.
- من روّاده في مجال الكتابة: Natalie Rogers (ابنة كارل روجرز)، وShaun McNiff.
5. العلاج بالكتابة (Writing Therapy أو Journal Therapy):
- يُعد James Pennebaker من أهم الباحثين الذين درسوا التأثيرات البيولوجية والنفسية للكتابة.
- طوّرت Kathleen Adams هذا النوع من العلاج بشكل منهجي، وألفت كتبًا حول كيفية استخدام الكتابة اليومية لأغراض علاجية.
الدراسات الحديثة تدعم فعالية هذا النوع من التدخلات. في تجربة أجراها بينيبايكر، تبيّن أن المشاركين الذين كتبوا عن تجاربهم العاطفية الصعبة لمدة 15-20 دقيقة يوميًا، لمدة 3 أيام، أظهروا تحسّنًا في الحالة المزاجية، انخفاضًا في زيارات الطبيب، وتحسّنًا في مؤشرات جهاز المناعة (Pennebaker, 1997).
الكتابة، في هذا الإطار، تتحوّل إلى “مكان آمن” نُخاطب فيه أنفسنا، نُسائلها، ونعيد ترتيب الفوضى التي تراكمت داخليًا. ليست مجرد ترف فكري، بل ممارسة علاجية موازية يمكن أن تكون جسرًا نحو الذات الحقيقية.
🔹 الخاتمة: ما لم يُكتب بعد… ينتظرنا لنمنحه صوتًا
في أعماق كل فرد، ثمة كلمات لا تزال تنتظر حبرها. ليست كل الصراعات النفسية صاخبة، بعضها همسات تختبئ في الظلال. لكن ما لم يُكتب بعد، لا يعني أنه غير موجود؛ بل يعني فقط أنه لم يجد بعد طريقه إلى اللغة. ومن خلال فعل الكتابة، لا نُفرغ النفس فقط، بل نُعيد تشكيلها، نبني الجسر بين الداخل والخارج، بين الخوف والتعبير، وبين الألم والمعنى. لذلك، اكتب — لا لتُصبح كاتبًا، بل لتُصبح أكثر وعيًا بنفسك.
المراجع :
- Beck, J. S. (2011). Cognitive behavior therapy: Basics and beyond (2nd ed.). Guilford Press.
- Freud, S. (1915). Repression. In J. Strachey (Ed. & Trans.), The standard edition of the complete psychological works of Sigmund Freud (Vol. 14, pp. 141–158). Hogarth Press.
- Linehan, M. M. (1993). Cognitive-behavioral treatment of borderline personality disorder. Guilford Press.
- May, R. (1983). The discovery of being: Writings in existential psychology. W. W. Norton & Company.
- Pennebaker, J. W. (1997). Opening up: The healing power of expressing emotions. Guilford Press.
- Rogers, C. R. (1961). On becoming a person: A therapist’s view of psychotherapy. Houghton Mifflin.
- van der Kolk, B. A. (2014). The body keeps the score: Brain, mind, and body in the healing of trauma. Viking.
- Adams, K. (1990). Journal to the self: Twenty-two paths to personal growth. Grand Central Publishing.
____________________________
* باحث في محال الصحة النفسية وتأثير النزاعات والكوارث عليها – مدرب سايكودراما