إدلب: تفضّل خاي..
بقلم: محمد صخر بعث
ليسَ في إدلبَ من التنظيم والعُمران ما يجعلها بحدّ ذاتها مدينةً جميلةً خلّابةً، أو يُميّزها “كمدينة” عن غيرها من المُدن السورية، لكنّها تتحلّى برونَقٍ ما لَهُ مثيل، وأزعمُ أنّه ليس بسبب طبعٍ يخصّها، بل بفعل “المُحيط” الذي يحتضنها ويُسوّرها من كلّ الجهات، فأنتَ إن قدمتَ إلى إدلب من “جبل الزاوية” أو “أريحا” من الجنوب فستراها حين تعتلي الطريق بعد “المسطومة” مثل زنبقة تُشرف فجأةً من داخل بحيرة ماءٍ أخضر غير آسن، وإن قدمتَ إليها شرقاً من “سراقب” و”سرمين” فستراها مثل واحة عمران لا أُبّهة فيه سوى ما يصنعه سحرُ بحرِ أشجار الزيتون المحيط، وكأنّها جزيرةٌ بالتأكيد، وإن شارفت على الوصول آتياً من “كفرتخاريم” و “أرمناز” من جهة الغرب فستحسُّ –والأفضلُ وقت الغروب- أن المدينة تُشبه شمعةً تذوب في حُضن طبيعةٍ آسرةٍ، كما تذوب الشمس في الأفق خلفك، وإن أتيتَها من الشمال قادماً من “معرتمصرين” ومهما كانت وسيلة النقل، بل ولو كُنتَ تمشي مشياً، فستشعرُ أنّك تسبح إليها سباحةً، وأنّ الماء الذي سيوصلك إليها عذبٌ نقيٌ وليس ملحاً أُجاجاً، ولو كان لي أن أنصحك باستعمال وسيلة نقل لنصحتك بالدرّاجة النارية، كي تزيد “برَكَةُ الهواء” من مُتعة سباحتك إلى هذا الشاطئ العتيق الذي لا موانئ تجارية فيه بل ذكريات ومواسم انتظار وبيوت من طيبة وحنين لفّها النسيان، ثُمَّ أغلقتِ العتمة أبوابها الخجولة الصغيرة.
هذا شيء عن الطبيعة، طبيعة إدلب يا “محمّد”، ولن يجدي الوصف مهما أجدت، ولا يمكن أن أكون حيادياً أبداً، هل يكتب امرؤ عن حبيبته بحيادية؟، لكنّ السؤال الذي من حقّك وحقّ كلّ الناس: لماذا أحبّها؟، جوابه أنّها بسيطة يا أخي هذه المدينة، لا تكلّف ولا تصنّع ولا عقد، جميلة الجمال الهادئ، جمال “سندريلا” التي يعرف الجميع قصّتها لكن لا يعرف أحد شكلها بالفعل، وإنّما يعرفون أنّها كانت جميلة طيّبة مظلومة وقدمها ناعمة المقاس!.
أمّا عنّا نحن يا “محمّد”؟، فإليك بهذا الوصف، وصف صديق أرسله لي مرّةً برسالة وأنقله بالحرف وتماماً بعيداً عن الفُصحى، قال “محمود نحلاوي”:
(حتى كلاب الشوارع الجوعانة بنصاص الليالي.. كل شي بادلب بينحب، الحميماتي المشتاق يعمله كشه بعد ما يخلص شغل بالزريقا، المعمرجي يلي بيقرالك بيتين شعر للمتنبي بين كل حجر وحجر وسحبة سيكارة وشفة شاي، القصاب يلي بتشوف الخجل بعيونه وهو عم يغشك، والخضرجي يلي بيرحب فيك من راس السوق وبيقلك أهلين يا أستاذ وبيخليك تشتري من عنده كطقس من باب الوجاهة، إدلب يلي بتمشي فيها ومامعك فرنك او نسيان الجزدان وبترجع معك يلي بدك ياه، إدلب يلي وين ما مشيت العالم بتعرفك وبتعرف قصصك وحكاياك، إدلب الشوارع العتيقة وريحة الحارات، إدلب يلي اذا شي يوم قتلت وطرش دمك على الحيطان بيضل في حدا كل ما مر بيقول هون مطرح ما انقتل فلان).
تطلع من البيت ورايح عالسوق أو أي مكان ولزمك شي لا تاكل همّ!، ودير بالك تعمل شي ما منيح، بتضل سيرتك على الألسن لتموت ويموتوا ولادك، وكمان طبعاً المنيحة ما بتنتسى أبداً وبالتأكيد!.
ربّما لأنّها صغيرة، أو لنقُل: “كانت صغيرة”، فهي “بلدة” كانت وليس مدينةً إن صحّ التعبير أو التقييم، كان عديد سكّانها في 2010 لا يتجاوز 140000 نسمة، لكنّها مركز محافظة!. لقد خلق هذا حالة عجيبة، مركز محافظة يعني دوائر وأعمال وأشغال وبُنى تحتية وبُنى فوقية، وأنشطة وموارد وخدمات ومسائل، لكنّ هذا لم يكن حالها أبداً، رغم أنّ الحالة العامّة كانت جيّدةً بالفعل، وبسبب قلّة أعداد الناس، النظافة، المياه، المركز الثقافي مثلاً، الأبنية عموماً -فأغلبها بالحجرين الأصفر والأبيض- وأربع حدائق وخمس شوراع، كان الفراغ قاتلاً لكنّه كان قاتلاً مُريحاً، مالنا نحن والزحام والفوضى!.
بعد الخامسة عصراً لن تجد سوى تلامذة المدارس الابتدائية حصراً وآنساتهم (معلّماتهم يعني) وبعض المعلّمين، الأطفال الذين يداومون في “الفوج الدراسي الثاني” وليس الفوج 104، أصلاً لا يوجد في المحافظة كلّها وليس في إدلب سوى مطارين عسكريين من الطراز الخفيف، “أبو الضهور” و”تفتناز”، لا نفهم شيئاً عن العسكرة يا “محمّد” ولا عن السياسة أيضاً، وأنا شخصياً صاحب هذا المقال كنت ثالث ضابط شرطة قبلوه أو أخذوه وآخرهم من “مدينة إدلب” منذ إنشاء وزارة الداخلية السورية فعلياً سنة 1949، نحن إمّا ننتظر موسم الامتحانات أو موسم الزيتون، هكذا، نتعلّم أو نعصر، أو ليست هذه ميزة؟.
يأتي أبي إلى البيت في الساعة الثانية والربع، الأكل جاهز تماماً، موعد الغذاء خطير، لا يمكن أبداً الإخلاف به، النوم بعده أكيد، ساعة ونصف، وعلى الشرفة فنجان القهوة في موعده، ثمّة زيارة عائلية جيّد، لا يوجد نتمشّى قليلاً، نعود إلى البيت ومضى اليوم، هذه عادات عامّة لم تكن تخصّ أبي وحده، لكن كلّ حسب وقته وطبيعة عمله، أو ليس هذا الروتين الهادئ بعيداً عن الصخب والمشاكل والمفاجآت ميزة؟.
أنتج الفراغ والروتين وهذه البساطة والعفوية ميزةً غريبةً ومريبةً أيضاً، لكن.. بماذا يتسلّى الناس الذين يعيشون على هذا المنوال؟، بالسخرية يا أخي بالسخرية، يعني إذا الواحد منّنا لم يتمسخر؟ ما عساه يفعل؟، كيف يقضي الوقت؟.
انتبه أرجوك.. هذا لا يقارن بخفّة دمّ الحماصنة أو عفوية الحموية ولا بركة الديرية ولا بذكائكم أنتم الشوام، فلا شي يُشبه أي مكان خارج هذه الاثني عشر كيلومتراً مربّعاً، تخيّلت كم هي صغيرة هذه المساحة؟، نسخر من أنفسنا إذا لم نستطع أن نسخر من شيء أو من أحد آخر، وننتظر أن يسخر منّا الآخرون أو يتمسخروا علينا بالأحرى أو على حدث أو مسألة ما، نخترع القصّة اختراعاً ولا أساس لها، فقط لنضحك وننسى ونمضي الوقت، ولقد أنتج هذا “أدباً” منذ المعلّم “حسيب كيّالي”، وحتّاي أنا -إذا صحّ هذا الادّعاء أو الافتراض-، ولكن وللمعلومة.. كان الاعتماد شبه كامل على المجتمع، وبقي للكتّاب والأدباء تشغيل حواسّ الترتيب والتسوية والإنجاز، لكنّ المجتمع كان أساساً.
ميزة أخيرة يا “محمّد”، نحن غاضبون مزاجيون وعصبيون، ونحبّ الصراحة كثيراً، ولا نفهم أصلاً معنى “اللفّ والدوران”!، ولن يمكن لأحد -على سبيل المثال- شراء حاجياته من السوق بالمساومة، هذه القطعة ثمنها كذا، خلصت!، أو لأحدٍ خطبة فتاة بالمراوغة، هذا الشابّ هيك وضعو، خلصت!، ولا لشرطي إجبار سائق على رشوته، اكتوب المخالفة، خلصت!
لم تعد “إدلب” هذه التي طلبتَ أن أكتب عنها موجودةً أصلاً، هذه إدلب قديمة سارت، وأمّا الجديدة فما صارت!.
يحكي “نجم الدين السمّان” قصّة بسيطة ظريفة عن “علي حسينو” الإسكافي الذي علّق على باب دكّانه في “خان الرز” بإدلب لوحة مكتوب عليها “مشفى الصرامي” -أيخطر ذلك في بال أحد؟- وكان أبو نجم الذي كتب عنه قصّة “ساعة باب الفرج” ومع “حسيب كيّالي” أصدقاء: (جلسنا ثلاثتنا في الدكان نستذكر قصص الناس ونضحك حتى أدركنا الفجر، فهربنا قبل ان يصدح صوت مؤذّن الجامع العمري، الذي كنّا نظنّ أنّ صوت أنكر ونكير أجمل من صوته بكثير، فلما أفقنا متأخّرين صباح اليوم التالي وقع انقلاب حسني الزعيم، فتعاهدنا نحن الثلاثة ألّا نجتمع بعد اليوم، ليس حباً بالزعيم، ولكن كرهاً بالانقلابات!، وكنّا اجتمعنا ثانيةً عن سهو منّا، فحدث الانفصال، ليس حباً بعبد الناصر، إنّما كرهاً بأجهزة مخابراته!، بعد حكاية “حسيب” هذه، أدركتُ لماذا قال أبي: الله يعطينا خير هذا الضحك، حائراً في حلّ أحجية تبدو بسيطةً للغاية: هل يعقب الضحك انقلاب، أم يعقب الانقلاب العسكري مزيد من الضحك؟).
(هذه القصّة ذكّرتني كيف رمى “الأدالبة” بعدها حافظ أسد بالشحّاطات”!).
قال “حسيب”: اذهب بخيالك الى الدنيا، فأفضل القصص يؤلّفها الناس قبل ان نكتبها نحن!، و”إدلب” قصّة صارت من الخيال يكتبها الناس، أي والله.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024