نهاية المعلّم التقليدي وبداية الصفّ الجديد
لسنا أمام «نهاية المعلّم»، بل أمام ولادته من جديد. ولسنا أمام «موت المدرسة»، بل أمام تحوّلها الجذري

محمد صبّاح * العربي القديم
حين نقول «نهاية المعلّم»، فإننا نعيد إنتاج وهم شائع في خطاب الحداثة: وهم «القطيعة المطلقة». في الحقيقة، ما ينتهي ليس الكيان في ذاته، بل وظيفته التاريخية.
من أوهام «النهاية» إلى حقيقة «إعادة التأسيس»: لماذا لا يموت المعلّم بل يتغيّر تعريفه جذرياً؟
وظيفة «المعلّم الملقّن» التي ارتبطت بمدرسة قومية صلبة، بسلطة معرفية مغلقة، وبمنظومة تعليمية عمودية، هي التي تفقد معناها في زمن الذكاء الاصطناعي. لكن الحاجة إلى معلمٍ بالمعنى الأوسع ـ أي إلى إنسان يلعب دور الوسيط بين المعرفة والحياة، بين المعلومة والمعنى / هي حاجة أنثروبولوجية لا تزول.
الفارق إذن بين «النهاية» و«إعادة التأسيس» يشبه الفارق بين موت جسد وولادة جسد آخر بروح مختلفة. إننا نشهد انتقال المعلم من «مالك المعرفة» إلى «صانع فضاء للمعنى»، ومن «سلطة النطق» إلى «مربّي الحرية». وهذا التحوّل لا يقل عمقًا عن التحولات التي عرفتها الفلسفة منذ «نهاية الميتافيزيقا» وبداية «النقد».
المدرسة لم تعد جداراً يحتكر المعرفة: من فضاء مغلق للانضباط إلى مختبر مفتوح لتشكيل «الذوات الحرة»
كانت المدرسة الحديثة وليدة عصر الطباعة والدولة القومية. كانت مؤسسة لإنتاج مواطنين منضبطين، عبر تلقينهم معارف مشتركة تضمن وحدة الهوية. لذلك، كان الطباشير رمزًا لسلطة عمودية: من المعلم إلى الطالب، من المركز إلى الأطراف. لكن اليوم، مع الثورة الرقمية، تحوّلت المعرفة إلى تدفق لا نهائي متاح للجميع. لم تعد المدرسة المكان الوحيد الذي يحتكر «الوصول» إلى المعلومة.
إنها أزمة عميقة: ما جدوى المدرسة إذا كان كل طالب قادرًا على الوصول إلى أي معلومة بضغطة زر؟ الجواب يكمن في أنّ المدرسة الجديدة ليست «بوابة للمعرفة» بل «مختبر للذات». دورها لم يعد «إيداع المعلومات» في الذاكرة، بل تعليم كيفية تحويلها إلى «تجربة»، وكيفية إخضاعها لـ«المساءلة النقدية». بهذا المعنى، تتحوّل المدرسة إلى «فضاء حرية»، حيث يتعلّم الطالب كيف يصبح ذاتاً فاعلة وسط فيض البيانات.
الذكاء الاصطناعي: جهاز حسابي خارق يقدّم المعرفة كسلعة خام لكنه يفتقر إلى «التجربة الإنسانية»
الذكاء الاصطناعي يذكّرنا بما قاله هايدغر عن «التقنية»: إنّها ليست مجرد أدوات، بل أنماط وجود تحدّد كيف ننكشف للعالم. إنّ ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي ليس «معرفة» بالمعنى الكانطي، بل «بيانات منظّمة» بسرعة خارقة. إنّه يتيح لنا «الشيء» لكنه لا يتيح لنا «الغاية».
الفارق الجوهري هنا أن «المعرفة» ليست مجرد «معلومة». إنّها علاقة بين «ذات» و«موضوع»، يرافقها تاريخ من التجربة والخطأ، من القلق والبحث. هذا البعد الوجودي، الذي يجعل المعرفة «حكمة»، لا يمكن للآلة أن تمنحه. لذلك، فالذكاء الاصطناعي ليس «خصماً » للمعلم، بل «قوّة إضافية» تكشف محدودية المعلم القديم وتدعو إلى ميلاد معلم جديد.
المعلّم الجديد بوصفه «مهندس الأسئلة» و«حارس الهشاشة»: من «مفسر النصوص» إلى «دليل على كيفية التفكير»
إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على إنتاج «الأجوبة»، فإن المعلم الجديد لا بد أن يتحوّل إلى «مهندس للأسئلة». دوره أن يعلّم الطالب كيف «يسائل»، لا كيف «يكرر». إنّه لا يقدّم «معرفة جاهزة»، بل يدرّب على مواجهة «المجهول».
هذا التحول يعيدنا إلى معنى «الفلسفة» كـ«حبّ للحكمة»: الحكيم ليس من يملك «الحقيقة»، بل من يسير نحوها بـ«أسئلة لا تنتهي». هنا يكمن الفرق بين «المعلم القديم» و«المعلم الجديد»: الأول «وسيط للنصوص»، والثاني «صانع لمسافة نقدية» بينها وبين القارئ. وبهذا يصبح المعلم «حارسًا للهشاشة»: يذكّر بأن «الإنسان» ليس «آلة»، وأن «الخطأ» و«القلق» و«التردّد» ليست نقائص، بل هي «شروط ضرورية للحرية».
الطباشير كرمز لـ«الهشاشة» والآلة كرمز لـ«الصرامة»: لماذا لا بد من الجمع بين أثر اليد وصرامة الخوارزمية؟
الطباشير، بقدر ما يبدو بدائياً، يكشف عن بعد عميق: «الكتابة اليدوية» بوصفها أثراً جسدياً، أثراً يتخلله المحو والإعادة. كل خط بالطباشير يذكّر بأن اليد البشرية «هشة»، قابلة للخطأ. أمّا «الخوارزمية» فهي صورة «الصرامة»: الحساب البارد، الدقة المتناهية، الحوسبة الخالية من التردد.
الصف الجديد لا يمكن أن يقوم على أحد الرمزين وحده. لو اكتفينا بالطباشير سنظل أسرى «البطء» و«ضيق الأفق». ولو سلّمنا للآلة وحدها، سنخسر «الهشاشة» التي تجعلنا أحرارًا. لهذا، لا بد من «تركيب جديد»: جسد يكتب وأسئلة تقلق، مدعومة بآلة تنظّم وتحسب. التوتر بين «الهشاشة» و«الصرامة» ليس عيبًا، بل هو سرّ الحرية الإنسانية.
نحو «إعلان تربوي جديد»: لم ندفن المعلّم بل دفنّا صورته القديمة؟!
إنّ ما يتغير اليوم ليس «وجود المعلّم»، بل «صورته التاريخية». لم ندفن الحاجة إلى «المربي»، بل دفنّا دور «الملقّن». ما يولد هو «معلّم-فيلسوف»، مربٍّ يدرب على «التفكير» لا على «الترديد»، على «صناعة الذات» لا على «استهلاك الجاهز».
المدرسة الجديدة ليست «مقبرة للماضي»، بل «مختبر للذات الحرة». إنّها الفضاء الذي يتعلّم فيه الإنسان كيف يستخدم «الخوارزميات» دون أن يتحوّل هو نفسه إلى «خوارزمية».
وهذا هو التحدي الأكبر: أن نعلّم الأجيال القادمة أن تكون «بشراً» في عالم لم يعد يعترف إلا بـ«الآلة».
خاتمة: في معنى أن نظلّ «بشراً» ونحن نتعلّم بين «الطباشير» و«الخوارزميات»
إنّ السؤال الحقيقي ليس: من سينتصر في الصف، «المعلّم» أم «الذكاء الاصطناعي»؟ بل: ما معنى أن «نتعلّم» في زمن صار فيه «العقل الحسابي» أقوى من أي «عقل بشري فردي»؟
إذا كانت «المعرفة» متاحة للجميع، و«الأجوبة» جاهزة على «شاشات صغيرة» في جيوبنا، فما الذي يبقى لـ«المدرسة»، ولـ«المعلم»، ولـ«الطالب»؟
الجواب يبدأ بالاعتراف بأن «المعرفة» لم تكن يوماً مجرد «تكديس للحقائق». المعرفة هي «تجربة وجودية»، سيرورة يتحول فيها «الكائن البشري» إلى «ذات» قادرة على أن «تفكر» و«تختار» و«تخطيء» و«تعيد المحاولة». هذا البعد لا تستطيع «الخوارزميات» أن تمنحه، مهما بلغت دقتها. فهي تزودنا بـ«المادة الخام»، لكنها عاجزة عن أن تجعلنا «أحراراً ».
من هنا، يصبح دور «المعلّم الجديد» واضحًا: ليس «حارسًا» لمخزن الحقائق، بل «مربياً للحرية». ليس «سيداً» على النصوص، بل «مُيسراً للأسئلة». ليس «وصياً» على العقول، بل «شاهداً » على أن «الخطأ» و«الهشاشة» و«التردّد» ليست نقائص، بل هي «علامات إنسانية». المعلّم الجديد هو الذي يذكّر الطالب بأن يعيش كـ«إنسان» وسط «آلة»، لا كـ«آلة» وسط «آلات».
أما «المدرسة»، فهي لم تعد «جداراً» يحيط بالمعلومات، بل «مختبراً» يُدرَّب فيه الجيل الجديد على الجمع بين أمرين متعارضين في الظاهر: «صرامة الخوارزمية» و«هشاشة الإنسان». بهذا التوتر وحده يمكن أن يولد «تعليم» يليق بالإنسان في زمن «التقنية».
إذن، لسنا أمام «نهاية المعلّم»، بل أمام «ولادته من جديد». ولسنا أمام «موت المدرسة»، بل أمام «تحوّلها الجذري». ما ندفنه هو «صورة قديمة» عن التعليم كـ«إملاء» و«تلقين»، وما يولد هو «معنى جديد» للتعليم كـ«تحرر» و«تفكير».
وفي النهاية، «الانتصار» ليس لـ«الطباشير» ولا لـ«الذكاء الاصطناعي»، بل لـ«الإنسان» الذي يعرف كيف يمسك بـ«الطباشير» بيد، ويُسخّر «الخوارزمية» باليد الأخرى، ليظلّ «سيّد المعنى» في عالمٍ تتسارع فيه «الأدوات» وتبرد فيه «الحقائق».
_______________________________
*كاتب وباحث فلسطيني