سوريا: الحاضنة تأكل نفسها ورأس النظام بـين أيدي الحلفاء
لم يكن مُسْتَغْرَباً إعلان جبل العرب الإضراب العام احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية؛ فالجبل لم يهدأ منذ عام ٢٠١١، وإن كان له وضع خاص أو طُبِّقَ فيه سيناريو قمع مختلف عن باقي المناطق التي تقرر تحويلها الى أرض محروقة، ولن تُسْتَغْرَبَ عودة الإحتجاجات الى الشوراع، بل إن العكس هو المستغرب؛ لأن القاع الذي بلغته الأوضاع المعيشية من تردٍ ومهانة لا قاعَ تحته، ولعل الصمت السائد ليس صمت الخوف بقدر ما هو صمت الزهد بالحياة بعد ١٣ عاماً من القتل والقمع المتوحش، دون أن يثمر ذلك عن بارقة فعل دولي تعطي الأمل للسوريين، لكن المستغرب إلى درجة الارتياب؛ هو ما يُسْمَعُ عن حراكٍ في الساحل، والأصوات الفردية التي يتوالى ظهورها في البث المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منتقدة رأس النظام بشكل واضح وصريح، مشفوعاً بالشتائم والتحدي!! في مشهد خارج عن معتاد ما سبق وتردد من نقد كان أقصاه المطالبة بكف يد فاسد تمادى في غيه، ووصل أذاه الى الخزان البشري لقوات النظام، وحاضنته أو بمعنى أدق (مفرخته الشعبية).
فبعدما كان يُسْمَحُ لما يطلق عليها مسمى المعارضة الشريفة “المصنوعة داخلياً” توجيه “النقد الذاتي البناء” بصيغ حزب البعث البائدة؛ بهدف تقليم الأغصان اليابسة في شجرة الفساد الكبرى كي تبقى وتتجذر، راحت تعلو أصوات مِنْ عقر حاضنة النظام، المسموح لها ما لا يُسمح لغيرها كونها قدمت “شهداء” أصواتٌ تطالب “قرة العين” بالتنحي والرحيل!!
فأي درك وصلت إليه تلك الحاضنة التي قدمت دمها وروحها كرماً لبقاء البسطار فوق رأسها، حتى يخرج أنينها إلى العلن بهذا الشكل؟ سؤال يطرح نفسه سيما وأن هذه الحاضنة لم تتوانَ خلال السنوات الماضية عن سحق كل خارج عنها، وكل من تسول له نفسه الأمارة بالكرامة النطق جهاراً بما لا يرضي سادة البساطير.
البحث عن مُخَلِّصٍ
ثمة إجابات عدة على سبيل التكهنات، لعل أقربها للمنطق العام؛ هي أن موارد الرزق والاسترزاق التي وفرتها سنوات الحرب لتلك الحاضنة قد جفت، وبدأت الحاضنة تلتهم نفسها ووصلت إلى الرأس. لكن هل هذا سبب كافٍ للمجازفة وإعلان التحدي، سيما وأن من جازف من السوريين عام ٢٠١١ واحتج قد تُرِكَ وحيداً بين فكي الوحش، وذاق من العذاب والتنكيل ألوان لا يحتملها عقل بشري؟
هذا يقود الى التكهن الآخر؛ حول احتمال وجود أطراف دولية داخلة في النزاع، لها مصلحة مباشرة إما بالضغط على النظام في دائرته الأقرب لتحصيل مزيد التنازلات، أو أن صلاحية النظام انتهت لدى تلك الأطراف وبات بقاؤه عبئاً. ولا يستبعد من تلك الأطراف الحليفين المقربين (روسيا وإيران) مع ترجيح أحدهما أي الحليف الروسي، الذي يبسط سيطرته على أجهزة النظام العسكرية والأمنية، والذي تسلل إلى الحاضنة الشعبية التي رأت فيه المخلص حين قدومه عام ٢٠١٥، وهو الحليف المنفتح اجتماعياً، مقابل الحليف المتزمت دينياً واجتماعياً الذي يريد فرضته أجندته التوسعية في المنطقة.
فإذا صح هذا التكهن؛ فهذا يعني أن موسكو تستعد لمعادلات جديدة يفرضها تعزيز القوات الأميركية في المنطقة، مع انتهاء معاهدة لوزان الموقعة في عام ١٩٢٣ التي أقرت الصيغة الأخيرة لتقسيم تركة الدولة العثمانية بشكلها الراهن.
استمرار المشاركة في الحكم
ولعل موسكو التي تخوض في المستنقع الأوكراني، لن تندفع نحو مغامرات متفجرة في الشرق الأوسط، بل قد تطرح على الطاولة مقابل بقاء قواعدها في المتوسط ورقة تطبيق قرار ٢٢٥٤، وقطع رأس النظام، مع المحافظة على هيكل الدولة ونزع فتيل صراع جديد في سوريا، عبر تكليف حاضنة النظام الشعبية بمهمة نزع رأسه بيدها، وذلك لضمان مشاركتها في الحكم في المرحلة القادمة، وبما يُجَنِّبُهَا الانتقام الذي طالما خوفها منه النظام. كما يمكن لموسكو من خلال هذا السيناريو، إن صح، تقديم ورقة الحد من نفوذ إيران في سوريا عبر قطع ذراعها المتمثل برأس النظام، وهو ما يحقق هدفاً أميركياً بحسب التحليلات الغربية التي تؤكد رغبة أميركا بتقليم أظافر إيران في الشرق الأوسط وإعادة تموضع للقوات الدولية والإقليمية فيه بصيغ جديدة.
ويبقى الاستفهام حول السيناريوهات الإيرانية المحتملة، لا سيما فيما يتعلق بالإبقاء على رأس النظام الذي بات بين أيدي الحلفاء، ومعالجة الاحتجاجات المندلعة في جنوب سوريا والتحركات في الساحل، فهل ستعود إلى الادوات الوحشية والجهنمية التي استخدمتها عام ٢٠١١ والتي لم تُؤْتِ ثمارها بل استدعت دخول الدب الروسي؟ وبذل المزيد من الأموال على تسليح ميليشيات رديفة مكروهة شعبياً، أم ستنتهج خطط جديدة؟
أياً كانت الإجابات؛ فإن الاحتجاجات عام ٢٠١١ ليست كاحتجاجات عام ٢٠٢٣، فإذا كان لدى السوريين بعضاً من رمق الحياة قبل ١٣ عاماً؛ فإنهم اليوم يبعثون من القبور.