التاريخ السوري

سُرقت من متحف إدلب: رُقُم إيبلا المسماريَّة إلى الواجهة مجدَّداً

العربي القديم – مهنَّا بلال الرَّشيد

عادت رُقم إيبلا المكتوبة بحروف مسماريَّة حوالي (2500) قبل الميلاد إلى الواجهة مجدَّداً، عندما أعلنت الشُّرطة الألمانيَّة مصادرة لوحين مسماريَّين من رُقم إيبلا بعدما عثر رجلٌ من رجال الشُّرطة الألمانيَّة على لوح مسماريٍّ أوَّل في شباط فبراير (2024)، كان بحوزة رجلٍ في منطقة (هايلبرون) ضمن مقاطعة (فادن فورتمبيرغ)، وقد ادَّعى هذا الرَّجل أنَّ اشترى هذا اللَّوح الطِّينيَّ بغية بيعه أو المتاجرة به، وبعد تفتيش منزل الرَّجل عثرت الشُّرطة الألمانيَّة في المنزل على لوح مسماريٍّ آخر وقطع أثريَّة مصريَّة، ثمَّ تبيَّن للشُّرطة الألمانيَّة أنَّ اللَّوحين مسروقان من متحف إدلب سنة 2015، ثمَّ وصلا إلى ألمانيا مع الآثار الأخرى بطريقة غير شرعيَّة.

وبحسب هذه الرِّواية يحظى ادِّعاء صاحب المنزل بعد استجوابه بأهمِّيَّة كبيرة سواء كان صادقًا في أجوبته أو كاذباَ فيها؛ لأنَّه يُعيد إلى الواجهة مسائل حسَّاسة جدّاً منها:

– عدم الاحتفاظ برُقم إيبلا وأرشفتها في موقعها الأصليِّ في متاحف معرَّة النُّعمان وإدلب وحلب ودمشق

– أو عدم العناية بها من خلال تحويل الموقع الأثريِّ في تلِّ مرديخ إلى متحف عالميٍّ يحتفظ بتلك الرُّقم بعد اكتشافها وفكِّ شيفرة لغتها على يد جيوفاني بيتيناتو وباولو ماتييه سنة (1976)

فهذه الألواح خرجت من سوريا لدراستها منذ اكتشافها، ولم تعد إليها أبداً خلال حكم المجرِمَين: حافظ الأسد وابنه بشَّار الأسد. وقد نبَّه جيوفاني بيتيناتو إلى هذه المسألة الحسَّاسة الثَّانية، وقال: إن لم تُترجم رُقم آثار إيبلا وتنشر نتائج دراستها بعد (1976) فهذا يدلُّ على وجود أسباب أيديولوجيَّة غير موضوعيَّة أو غير علميَّة تمنع من نشر دراسة هذه الرُّقم، وفي اللُّغة العربيَّة لا يوجد إلَّا دراسات هزيلة عن رُقم إيبلا، وأشهرها كتاب عفيف بهنسي (وثائق إيبلا)، الَّذي يُعرِّف تعريفًا سطحيًّا بطبيعة الموقع الأثريِّ في تلِّ مرديخ دون الحديث عن مضمون ما يقرب من (15000) رقيم.

مخطط القصر الملكي في إيبلا

مخطط القصر الملكي في إيبلا

تَقَصَّيْنا أخبار رُقم إيبلا أكثر من مرَّة قبل اندلاع الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ بشَّار الأسد في آذار 2011، ومرَّات عدَّة بين 2011-2024، وقد أفاد موظَّفو المتاحف في (معرَّة النُّعمان وإدلب وحلب) بعدم وجود أيِّ رقيم في أرشيف هذه المتاحف قبل اندلاع الثَّورة أساساً، وهذا ما يُعطي أهمِّيَّة لاستجواب الرَّجل في ألمانيا، فلربَّما أُخرج هذان الرَّقيمان نتيجة تنقيبات جديدة غير مرخَّصة في موقع تلّ مرديخ، لا سيَّما أنَّ نظام بشَّار الأسد هجَّرَ سُكَّان ريف إدلب الجنوبيِّ والجنوبيِّ الشَّرقيِّ سنة 2019، وخضعت منطقة تقاطع الطُّرق التِّجاريَّة (M4) (M5) وما حولها في سراقب وموقع تلّ مرديخ الأثريِّ لاتِّفاق وقف إطلاق النَّار بموجب مفاوضات أستانة، وما تزال معظم المدن والقرى في هذا الحيِّز الجغرافيِّ أو المجال الحيويِّ بين خطِّ سراقب- أبو الظُّهور وخطّ معرَّة النَّعمان- سنجار خالية من سُكَّانها منذ تهجير أهلها سنة 2019، وتشكِّل هذه المنطقة مربَّعاً طول كلِّ واحد من أضلاعه حوالي (20) كليو متر تقريبًا، وضلعه الغربيُّ هو المسافة الفاصلة بين سراقب ومعرَّة النّعمان على أوتوستراد دمشق-حلب الدُّوليِّ.

أهمِّيَّة رُقم إيبلا

لغة ألواح إيبلا لغة شرقيَّة (شماليَّة غربيَّة) مكتوبة بالحرف المسماريِّ، وتضمُّ تاريخ سوريا والشَّرق الأوسط والعالم القديم خلال النِّصف الأوَّل من الألف الثَّالث قبل الميلاد وما قبل ذلك؛ أي منذ (2500) قبل الميلاد وما قبلها، وبهذا تُغطِّي هذه الرُّقم مرحلة تاريخيَّة توازي في قِدمها أقدم ما جاء في مصادر العراق السٌّومريَّة والأكديَّة ومصادر مصر الفرعونيَّة، وتسلِّط هذه الرُّقم الضَّوء على واقع الشَّرق الأوسط والعالم القديم في مرحلة الطُّوفان وجمدة نصر ونشأة الأسُر والسُّلالات الحاكمة في العراق ومصر وإيبلا، وفيها وثائق ومعاهدات ونصوص دينيَّة وأساطير وابتهالات ومعاجم ودفاتر محاسبة تعطي صورة واضحة جدًّا عن الأديان والمعتقدات والأوضاع السِّياسيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في العالم القديم، وهناك معاجم ثنائيَّة اللُّغة ومعاجم ثلاثيَّة اللُّغة، وفي الرُّقم ما يقرب من عشرين أسطورة أدبيَّة مع أناشيد وابتهالات دينيَّة ممَّا يُعطي صورة واضحة عن الأدب السُّوريِّ والعربيِّ القديمين منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، كما يُعطي كلٌّ من فخَّار إيبلا وقلعة الموقع وبوَّابات القصر الملكيِّ وأعمدته ومكتبته صورة عن فنون النَّحت والزَّخرفة والعمارة والذَّوق الفنِّيِّ والأمن السِّيبرانيِّ في تلك المرحلة التَّاريخيَّة القديمة، كما تحظى اللُّغة الإيبلاويَّة وطبيعة أسماء الأعلام والملوك والمواقع والمدن فيها بأهمِّيَّة بالغة في مجال دراسة العقائد والأديان المقارنة، لا سيَّما أسماء: (إبراهيم، وإسماعيل، وميكائيل. وإبِت ليم) وغيرها.

أشرتُ في دراسة سابقة إلى بيتين من الشِّعر العربيِّ في (نقش عين عبدات)، الَّذي يرجع إلى (86-95) قبل الميلاد، وبيَّنت أهمِّيَّة هذا النَّقش في إعادة التَّأريخ لكلٍّ من الأدب والنَّقد وفنون اللُّغة العربيَّة وآدابها القديمة كلِّها، ووضَّحت دور هذا النَّقش في إعادة تقسيم عصور الأدب ودراسة تحوُّلات الفنون اللُّغويَّة وتطوُّراتها بالاستناد إلى كلِّ ما يظهر لدينا من وثائق لغويَّة وأثريَّة جديدة. وإن توازى زمن اكتشاف نقش (عين عبدات) وفكِّ شيفرته اللُّغويَّة (1979) مع زمن اكتشاف رُقم إيبلا وفكِّ شيفراتها اللُّغويَّة سنة (1976) فإنَّ لغة إيبلا المكتوبة بحرف مسماريِّ على ألواحها الطِّينيَّة تُعطي صورة جليَّة واضحة عن العالم القديم قبل نقش عين عبدات بما يقرب من (2400) سنة، وإنَّنا إذ نشيد في نهاية هذا المقال بموقف الشُّرطة الألمانيَّة في حماية هذا التُّراث الإنسانيِّ العريق من ناحية أولى، فإنَّنا نعبِّر عن أملنا من ناحية ثانية بإدراج موقع إيبلا في تلّ مرديخ ضمن مواقع التُّراث الإنسانيِّ العالميِّ، وندعو إلى تحويل هذا الموقع إلى متحف عالميٍّ، كما نأمل من المنابر والمؤسَّسات الثَّقافيَّة العربيَّة الرَّاهنة أن تُسلِّط الضَّوء على هذا التُّراث الشِّماليِّ الغربيِّ المهمِّ جدًّا للإنسانيَّة كلِّها ولمنطقة (شمال غرب بلاد الشَّام والجزيرة العربيَّة) على وجه التَّحديد.

زر الذهاب إلى الأعلى