أرشيف المجلة الشهرية

الإرادة وفعلها في مواجهة السياسة السوداء

بقلم: سالم الأخرس

تعرّض المجتمع السوري، منذ عقود إلى انبعاث سياسة الإقصاء والتهميش، لكل نشاط سياسي، أو شبه سياسي لا يتطابق مع أفكار، ومصالح القوى الممسكة بالمركز السياسي أي الدولة، وأخذت سياسة الإقصاء أبعاداً أكثر خطورة، عندما انتهجت تفتيت الفعّاليات النشطة لأي طرف، أو حالة بوصفها خطراً، سواء كان “قائماً”، أم “محتملاً”، باعتبارها “عدواً”.

 ومن نافل القول إن سياسة الإقصاء لا يمكنها التعامل مع أي صيغة أو حالة مختلفة، إلا على أساس فرضية سياسة الاحتكار، بمعنى احتكار المركز السياسي في الدولة، واحتكار المجال العام في المجتمع، وعلى المستويات كافة، العامة وحتى الخاصة. وسياسة الاحتكار لا تقتصر على من يُمسك، أو يتسلّق على الدولة، بل أصبحت جزءاً أصيلاً من ثقافة المدى السياسي للأغلبية الساحقة للفاعلين، داخل المجال السياسي السوري المعاصر.

واكتسبت هذه السياسة طابعاً شرساً حد التوحش، عند أولئك الذين تكوّن وعيهم وثقافتهم العامة، ضمن الإستراتيجية العسكرية، داخل الكلية الحربية، حيث يُنظر للناس كأنهم أفراد، ضمن الوحدات العسكرية، وإذا أصبحوا في مركز المدى السياسي تصبح رؤيتهم للمخالفين لأفكارهم، أنهم قصّر “مغرر بهم”، ومكانهم سجن الأحداث؛ لإعادة التأهيل، أو شباب واعون، ومكانهم المعتقلات، ومن لا تنفع معه رشوة بمنصب وتسهيلات فاسدة، فيستحق السجن المؤبد أو الإعدام، بتنويعاته الجسدي، والمعنوي والمعيشي، ناهيك عن السحل الفكري المتعمّد، بتهم الافتراء والتخوين والعمالة المزعومة، والهدف كسر الإرادة، والتي يعبر عنها شعبياً بـ” كسر الشوكة”، أي الإذلال الذي يجري في المعتقلات فرضه.

وبهذا المعنى تعتبر الإرادة، بوصفها مخزون الخبرات والطموحات المتراكمة داخل المجتمع، وفي مختلف تراتبيته الاجتماعية، إنها شريك الوعي الفعلي، وهي نوع من أنواع الحرية، عندما يصبح لها موضوع أو غاية، بمعنى: هدف ذو أركان وقوام مقنع، عندها تتحول الإرادة إلى مشيئة وفعل، عبر الاستمرار والمثابرة، وهنا تكتسب الإرادة وفعلها أوامرها الخاصّة الصادرة عن ذاتها، لتمثل الضمير المنتج للمسؤولية تجاه الهدف أو الغاية.

وحيال السياسة السوداء لمحفل “السيادة” في الحالة السورية، وطرق عمله في الدفاع عن “السيادة”، يمكن أن نتلمّس نسقاً آخر كان حاضراً، داخل المجال السياسي، ذا سيرورة، رغم التعتيم الشرس على حضوره. فالأغلبية الكبيرة التي تعرّضت لسياسة الإقصاء والتفتيت، أفرزت نهجاً مقاوماً ارتكز على فعل إرادة مميّز وقويّ في أدائه، ومعانيه ومدلولاته. كان منهم قائمة طويلة من الشخصيات النبيلة، التي عبّرت بشكل، أو بآخر عن قوة الإرادة الرافضة لسياسة الاحتكار السوداء. من تلك الشخصيات من غيّبت سيرهم عتمة المعتقلات، ومنهم من حفظتهم الذاكرة، وأغلبهم من الزعماء والقياديين، نورد ذكر ثلاث منهم يمثلون تيارات متباينة، لم يكسر شوكتهم الاعتقال، والتعذيب والإقصاء، حيث يعطي المناضل رياض الترك نموذجاً مشرفاً عن فعل الإرادة، ففي مسيرته السياسية، اتّخذت مساراته الفكرية منحىً متجدّداً، انتقل فيها من الفكر الشيوعي الستاليني، إلى الفكر الماركسي المتحرّر من التجربة السوفياتية، حتى وصل إلى أفكار ذات طابع ليبرالي واضح، وترافق ذلك مع جولات متعاقبة وشاقة، من الاعتقال والتواري عن  أنظار الأجهزة الأمنية، حيث لم تقلّ سنوات الاعتقال عن عشرين عاماً، والتي تعادل في سنينها المؤبّد حسب القانون، ورغم ذلك ظل الترك علماً في رفض سياسة التهميش، ومدافعاً عن آرائه، حتى وافته المنية هذا العام.

وهناك أيضاً الداعية الشيخ مروان حديد الذي أضرب عن الطعام، بعد اعتقاله مع مجموعة من الشبّان المريدين، مطالباً بالإفراج عن هذه المجموعة، وإلا سوف يستمرّ بالإضراب. وبحسب شهادة أحد حراس زنزانة الشيخ مروان ظلّ مصرّاً على موقفه، حتى فارق الحياة لعام 1976، رغم تحذير الطبيب له (من عائلة شكور)، بأنه يقترب من زيارة الموت. وهنا قدّم الشيخ مروان حديد نموذجاً عن فعل الإرادة، في تحمل التعذيب الوحشي، يصعب على مفرداتنا المتداولة التعبير عنها.

 ولم يكن الأمر بعيداً عن شخصية أخرى قدّمت نموذجاً عن فعل الإرادة، وبعيداً عن الأدوار التي قام بها اللواء صلاح جديد الذي امتنع عن تقديم أي تنازل عن أفكاره وقناعاته؛ كي يُفرَج عنه، كما أضرب عن الخروج إلى ساحة التنفس حتى وفاته؛ من جرّاء إهانة تعرّض لها، من قبل عسكري حارس، طالبه بخفض صوت المذياع في الساحة، كما ذكر شهود عيان على الحادث، وقد أمضى اللواء صلاح جديد ثلاثة وعشرين عاماً في السجن، وتوفي فيه في العام 1993، هنا تظهر المفارقة في الإرادة، مع بعض الزعامات والقيادات الوطنية التي اعتُقلت في انقلاب حسني الزعيم   1949، وضعفت في مواجهة أولى علامات الاستبداد العسكري “الوطني”، وصلت حد تقديم أحدهم طلب استرحام.

وبعيداً عن الموقف من الأفكار والمعتقدات التي حملتها هذه الشخصيات، أو الأدوار التي قاموا بها،  وكانت بنت الظروف التي نشؤوا فيها، وتفاعلوا معها، نرى أن قوة الإرادة والفعل ظلّتا رفيقاً ملازماً لسيرة حياتهم، وخطّاً ثابتاً في تنقّلاتهم الفكرية والعملية التي بلا شك تطلب سبراً، ورصداً وتدقيقاً بحثياً، إلا أن الثابت والأكيد كان رفضهم سياسة الإقصاء، والتهميش المسيطر على المدى السياسي، وكلّ منهم بحسب طريقته وفكره ومعتقداته. ولعل تلك التجارب في تمثل الإرادة وفعلها، سواء التي حفظتها الذاكرة، أو غيبتها عتمة المعتقلات، كانت البذار الذي أنبت، بعد عقود في حالة الرفض العامة التي عمت البلاد، والتي قُمعت دون أن تُكسر شوكتها. وبهذا المعنى تمثل الإرادة أحد عناصر القوة والقدرة في استمرار المجتمع، وتتضمن فكرة الإرادة تراكم مخزون الخبرات والطموحات داخل المجتمع.

 وتستند وجهة النظر هذه إلى فكرة إنتاج الجماعة الوطنية السورية التي عبّرت عن نفسها في التجارب السورية، في ثلاثينيات القرن العشرين بالكتلة الوطنية، حيث أنتجت بذاراً يمكن التعويل عليه في إنتاج محصول جديد، بحسب الشروط التي نعيش فيها، وبالخبرات المعرفية التي تراكمت، خلال المئة عام الماضية، فالأجيال الأربعة أو الخمسة السابقة تركت إرثاً فكرياً، وسياسياً واقتصادياً، ينتظر روافع معرفية وعلمية، تضعه على سكّة الحاضر المتّجه، نحو المستقبل المأمول والممكن، وعلى سكّة رفض سياسة الإقصاء والتفتيت والتهميش لأيّ جماعة، داخل الجماعة الوطنية السورية، تعمل وفق ناموس الخير العام، وقواعد المدى السياسي الحديث الذي يُفرّق، بين من يدافع عن الخير العام، وضمنها دفاعه عن حقه ومصالحه الخاصة، وبين من يدافع عن مكتسباته الشخصية بزعم الدفاع عن الخير العام.

وما تزال الحاجة ملحّة لإنضاج منهجيّات جديدة تساعد على الارتقاء بمعرفتنا، وبالوعي المصاب بداء البؤس، والخاضع لحسابات وضعانية جزئيّة، وصغيرة، اجتماعيّة وحزبيّة ومناطقيّة.

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى