الرأي العام

إسقاط "الوطن" الجماعات الخائفة على خطى الأسد

على رؤوس الأشهاد يعتبر بعضهم أن التقسيم بات أمرا واقعا كما التعامل مع إسرائيل، فيما يمجد آخرون من يتعامل معها كبطل قومي

أسامة المصري – العربي القديم

دام حكم النظام البائد ستة عقود من بينها 14 عاما من القتل والتدمير الممنهج للقرى والمدن السورية، والتهجير والتغيير الديموغرافي ومع ذلك لم نر أو نسمع أصواتا تطالب بتقسيم سوريا ما عدا بشار الأسد الذي أتى بمصطلح (سوريا المفيدة) فيما لم يخطر على بال أي سوري فكرة التقسيم أو إنشاء كانتونات طائفية رغم قساوة ما مر به السوريون جميعا.

وحدة سوريا

مع إسقاط النظام بدأت هذا المصطلح بالظهور، وأول من ذكر ذلك كان في نداء لحزب العمل الشيوعي، بعد عشرة أيام من سقوط النظام يقول فيه (انتقلت سوريا منذ عشرة أيام من سلطة إلى سلطة، وبعد سقوط النظام الأمني الذي حكم سوريا بالحديد والنار، تبدأ صفحة جديدة تشوبها شتى المخاطر على وحدة البلد ووحدة شعبه ومصير أجياله) اذ يبدو أن هذا الحزب لم ينتبه لكل ما فعله الأسد طيلة العقود الماضية من تدمير للمجتمع السوري وتفتيته ورأى الخطر بات محدقا بعد سقوط النظام وكأن الأسد هو من كان محافظا على وحدة سوريا، واليوم بات الخطر محدق ووحدتها في خطر، ولم يدرك هذا الحزب أن الأسد أسقط الدولة والوطن منذ عقود حكم الأسد الاب، ولم يلحظ مصطلح بشار الأسد (سوريا المفيدة). 

مطالب بكيانات

بالطبع بعد أحداث الساحل خرجت أصوات ساحلية عالية النبرة، تريد كيانا مستقلا وتداعى الكثيرون من أجل تدخل دولي (اسرائيلي) لحماية أهل الساحل وذهب الأمر ببعض متصدري المشهد إلى تخيل انضمام الساحل إلى إسرائيل لضمان عدم الاعتداء عليه، مع ذلك فهؤلاء وعلى رأسهم الشيخ غزال غزال وثلة من النخبة العلوية تعمل بلا كلل من أجل ذلك، لكن من المؤكدة أن عموم أبناء الطائفة العلوية غير آبهين بهم.

صيغة استقلالية

وفي تواطؤ قل نظيره تخلى الأسد عن مناطق في الجزيرة السورية التي يقطنها السريان والاشوريين والعرب والأكراد لقوات سورية الديموقراطية التي تتشكل في معظمها من حزب العمال الكردستاني وتحت قيادته أيضا، لكن الحالة الكردية بسياقها التاريخي لا ترى أن انتمائها النهائي للوطن السوري، وترى أن لا بد من تأسيس وطن خاص بها في أماكن تواجدها في الدول الأربعة، لكن مع استحالة تحقيق ذلك لأسباب اقليمية ودولية لسنا بصدد البحث فيها، لذلك لا بد من إيجاد صيغة استقلالية ربما تكون على النمط العراقي في سلطة وجيش واستقلال شبه دولة.

الأجندة الهجرية

في الجنوب بدا واضحا مع سقوط الأسد أن الأجندة الهجرية تسير بالسويداء إلى المجهول، مع احتضان الهجري لكل المجرمين وتجار المخدرات، ورجال المخابرات وضباط الأسد القتلة وغير القتلة، وبدا الهجري بالتصعيد مع وصول المحافظ الجديد، حتى وصل الأمر باتباعه بالاعتداء عليه واسقاط العلم السوري ورفع علم اسرائيل. 

“قسد” تتصدر

هذه الحالات الثلاث كانت بقيادة  قوات سوريا الديموقراطية “قسد”  من جهة والعامل الخارجي من جهة أخرى، ففي 25 شباط الماضي عقد الأكراد بقيادة “قسد”  مؤتمرا في مدينة القامشلي ضم جميع الأحزاب والفعاليات الكردية وكان ملاحظ في البيان الختامي أن “قسد” تريد رسم مستقبل الدولة الوليدة في سوريا بناء مصالحها ورؤاها، لكن مع ذلك كان من نتائج هذا المؤتمر ما عرف باتفاق (عبدي الشرع) الذي لم يطبق، أما مؤتمر الحسكة فهو يبحث عن طوفان يشبهه (طوفان السنوار) من حيث ما يمكن أن ينتج عنه، فـ “قسد” التي فشلت في جمع الأكراد في الحسكة، كما حدث في مؤتمر القامشلي جمعت اليوم فلول الأسد من جميع الأنواع لكن هذه المرة ليس لعقد اتفاق جديد مع دمشق أو لتنفيذ الاتفاق السابق، بل لتقدم نفسها حامية الأقليات ومنفذة أجندات باتت واضحة في تقسيم سوريا ورسم خرائط وممرات التي تعمل عليه إسرائيل وقد يقودنا إلى الجحيم. 

 متصدرو المشهد

جميع من يتصدر المشهد السياسي في سوريا والذي بخلفياته طائفية وقومية ودينية يجد مبرراته فيما يذهب اليه بدعوات التقسيم، السبب هوية السلطة الحاكمة في دمشق باعتبارها سلطة دينية ذات خلفية جهادية لا ديموقراطية، وكأن هذه الجماعات وقادتها ديموقراطية ووطنية وعلمانية، ورغم أن الزخم قد أتى مع أحداث الساحل ومن ثم تجدد على نطاق أوسع وأعمق مع أحداث السويداء، وبات واضحا من خلال هذا التصعيد المنفلت من أي عقال أن الجميع لا يبحثون عن بناء وطن ولا قيام الدولة السورية أو الجمهورية الثانية، جماعات وأفراد، ما يجعلنا نرى أكثر من ملاحظة. 

الوطن والسلطة

الاولى أن هؤلاء يعتبرون السلطة هي الوطن السوري ولا يريدون الاستمرار معها وهي سلطة دينية متخلفة قاتلة إلى آخر الأوصاف التي تليق أو لا تليق بهذه السلطة، دون أن يلاحظوا أو لا يريدون أن يلاحظوا، أن السلطة ليست الوطن، والسلطات تأتي وتذهب ليس في سوريا بل في جميع دول العالم والوطن يبقى، ونظام الأسد الذي قدم نفسه كنظام أبدي انتهى وبقيت سوريا، واليوم أتت هذه السلطة التي بالطبع لا تمثل الوطن السوري ومن المفترض أنها مؤقتة وأنها تعد لمرحلة سوريا المستقبل لكنها لم تكن على قدر المسؤولية، وبدل أن يتحد السوريون لتعديل نهجها وتغييره أو حتى إسقاطها، يذهب هؤلاء بدلا عن ذلك إلى إسقاط الوطن وتقسيمه والإجهاز عليه عبر الاستقواء بالخارج وإسرائيل.

سقوط أخلاقي

فيما لابد من الإشارة إلى مسألة تعبر عن سقوط أخلاقي لدى الكثيرين من متصدري المشهد الفيسبوكي، فرغم أن نظام الأسد بشقيه الاب والولد عمل على شيطنة الاكثرية السورية، ودمر مدنها وحواضرها واتهم جماعات منها بالإرهاب،  لكنه لم يستخدم نظامه أو إعلامه كلمة واحدة تسيء لهذه الأكثرية التي يتشكل منها الوطن السوري، وبدونها لا وجود لسوريا، وهي التي كانت على مدى تاريخها وستكون صمام أمان للوطن، لكن للأسف نرى اليوم أن متصدري المشهد الهجري الكردي والساحلي يصعدون بخطاباتهم ضد الأكثرية، يصفونها بأبشع الأوصاف غير الأخلاقية ويحولونها من ضحية نظام الأسد طوال ستة عقود إلى متهمة ومجرمة، وكأن هذه الاكثرية هي من افتعلت أحداث الساحل والسويداء، إن ما يصدر عن متصدري المشهد نستطيع وصفه بالمخجل ويعبر عن كراهية لا حدود لها، ليس ذلك وحسب بل وعلى رؤوس الإشهاد يعتبر بعضهم أن التقسيم بات أمرا واقعا كما التعامل مع إسرائيل، فيما يمجد آخرون من يتعامل معها كبطل قومي يصعد إلى الذرا مع محاولاته  تقسيم  سوريا، وحقيقة لا أدري لما كل هذا السعار الطائفي، الذي كان نائما على وسادة من حرير أيام نظام الأسد، لكن يبدو أن العقل استقال لا بل الوجدان أيضا.

وحدة الصف

الثانية وهي أن هؤلاء صمتوا عن تدمير مدن سوريا أريافها وبلداتها وآثارها وأسواقها وتهجير ملايين من سكانها، أمام الفيديوهات التي نقلت صور الناس وهم يقتلعوا من بيوتهم ويهانوا ويضربون بالأحذية في الباصات الخضراء بل يداسوا بالأقدام ويطلق الرصاص عليهم عشوائيا وتسقط عليهم أطنان من القذائف والصواريخ والبراميل، (لكن يبدو انها كانت بالنسبة لهم كفيلم سينمائي ينتهي كل شيء مع خروجهم من صالة العرض أو إغلاق التلفزيون)، ولم يطالبوا يوما بالانفصال عن سوريا التي كان اسمها سوريا الأسد، لم يطالب الهجري بالانفصال رغم أن أهل السويداء قمعوا وانتهكت حرمات بيوتهم وسيق أولادهم للقتال جنودا وضباطا وعادوا بالتوابيت إلى قراهم ومدنهم، ومشهد المجرم عصام زهر الدين وهو يسير إلى جانب الجثث في دير الزور تمتد لمئات الأمتار  يندى له الجبين،  بالطبع الهجري و(اتباعه القدامى والجدد) كان يرى بالأسد بطلا وهو من قال ذلك بعظمة لسانه، وبالتأكيد لن ينسلخ عن بطله، فهو جزء من ذلك المشروع الاجرامي، ولذلك نراه اليوم يعيد تشكيل مؤسساته الأمنية والعسكرية بجنود وضباط الأسد لكن لا أظن أنه يحلم بعودته لان حلمه تجاوز الحدود السورية، ولأني أؤمن بأن كل السوريين وطنهم النهائي سوريا، كذلك أومن أن أبناء السويداء انتمائهم عربي وسوري وسيتحررون من سلطة الهجري ويسقطوا سلطته وأحلامه وهذياناته.

العمال الكردستاني

أما حزب العمال الكردستاني الذي يشكل الجزء الأهم من “قسد”  فهو كان حليف الأسد، وكل سياقات الأحداث طوال أربعة عشر عاما تؤكد العلاقة الجيدة إن لم نقل تحالفية بين الطرفين على كافة الأصعدة، إن كان بالتهجير أو بتبادل المواقع أو التبادل التجاري والاقتصادي، وبالتأكيد كان يحلم أن يستمر النظام البائد ليستمر هذا الواقع بحكم ذاتي فاسد ذو طبيعة مافوية إجرامية، وهم عمليا تحت سلطة الأسد ممثلة بالقوات الروسية وسندهم الأمريكي الذي يريدهم  كـ (المساعد جميل) لا أكثر وعندما يحين الوقت يحال على التقاعد، وبالطبع لم تطلب “قسد” الانفصال عن الوطن فقد كان سقف أحلامهم امتلاك سلطة بميليشيات مسلحة برضى الأسد وروسيا وهذا ما كان محققا، ومرة أخرى أوكد أن “قسد”  وميليشياتها لا تمثل الشعب الكردي وحتى متصدرو المشهد لا يعبرون عن الشعب الكردي.

تأسيس سلطة

لا بد من الوقوف عند دور السلطة الجديدة التي يبدو أنها لم تأت لتبني دولة بل تريد تأسيس سلطة، بدأت ترتسم ملامحها مع تقدم الشهور فلا مؤتمر حوار وطني يليق بالسوريين، وخاصة بالذي ضحوا ودفعوا أثماناً غالية خلال الحرب المدمرة، ولا عدالة انتقالية تنصف على الأقل معنويا ذوي مئات الآلاف من الشهداء المفقودين، ولا إعلان دستوري أيضا يليق بمستقبل سوريا التي كانت وطنا لكل السوريين قبل البعث والأسد وكانت معلما حضاريا على مدى تاريخها، وحتى لا خطط لإعادة المهجرين والنازحين وخطط لإعادة الإعمار، أو على الأقل تشكيل لجان أو مؤسسات لهذا الامر، كذلك لا تسعى هذه السلطة لبناء جيش وأجهزة أمنية وطنية وما يحدث من ممارسات من هذه الأجهزة مخجلا ليس بحق السلطة وحسب، بل بحق السوريين الذين ضحوا من أجل سوريا، ومن أجل إزالة حكم العائلة الوسخة، أما اذا نظرنا إلى ممارساتها المنفلته في القمع، أو محاولاتها في تغيير عقيدة السوريين الدينية، أو تقاليدهم وأعرافهم التي تشربوها عبر الاف السنين، فإن ما يحدث أيضا يندى له الجبين، أما تعاملها مع الاحداث السياسية والعسكرية فأيضا لا يرقى لسلوك دولة. 

مشهد جماعاتي

بتنا أمام مشهد جماعاتي أقل ما يوصف بأن قادته سقطوا في أول امتحان للحفاظ على الوطن، وأن نخبه سقطت أخلاقيا قبل أن تسقط سياسيا، وبات معظمهم تابعا لشيخه أو قائده الديني، إنه مشهد حزين لسوريا، أن يطالب الهجري وغزال والخزنوي بالعلمانية وهم يقودون طوائف دينية بعقلية قروسطية فيما العلمانيون واليساريون يصفقون لهم في الخلفية الفيسبوكية.

زر الذهاب إلى الأعلى