الرأي العام

فرع "سوريا بودكاست": وصاية "فلسطينية" في إدارة الخطاب الثوري!

د. علاء رجب تباب – العربي القديم

في غرفة مظلمة بدأ الاستجواب! لكن المحقق كان منهجه خلاف ثقافة المحققين، فكان يشترط على الشاهد أن لا يكون فجا في نقل الحقيقة خوفا من غضب المستبد وأدواته! وهنا كان لزاما على الشاهد دون وعي منه، أن يتجاهل الجرائم ويتناسى تفاصيل ميدان الجريمة ليستدعي كلّ مهاراته اللغوية في البلاغة والاستعارة والكناية، لكي يصنع خطابا مقبولا لا يؤذي فيه مشاعر المستبد وأدواته الإعلامية والبحثية والسياسية، الساعية لإعادة الثائر السوري والعربي لحظيرة المستبد!

تلك الأدوات الأجيرة التي أغرقت الثورة وتحاول إعادة هيكلة المفاهيم والخطاب وفق إرادة المستبد وكيل الاحتلالات المتعددة! قوانينهم محكمة غير متشابهة! يمكنك أن تكون شاهدا ولكن شاهدا انتقائيا وفق معاييرنا ومصالحنا وما يخدم رؤيتنا ويقتلع حقيقتك وأحلامك ومساعيك في نشر الوعي وردع المستبد وتحرير إنساننا من القمقم الاستبدادي والخانوق السياسي الجاثم على صدره! ما يبدو أن جغرافيا الحقيقة والكلمة في عالمهم مقاييسها محددة! فحاذر أيها الثائر أن تتمرّد أو تشتبك! عليك أن تكون توافقيا وديعا! على أفكارك وخطابك أن يكونا خاليين من السعرات الحرارية! وإلا سنقطّع أوصالك وأعضاءك ونقتلع أظافرك ليس على “بساط الريح” ولكن في غرفة المونتاج التي يصل العقاب فيها لدرجة الخنق والمنع من العرض! نعم وحسب تبريرهم لقد منعت الإدارة حلقتي من العرض لأسباب تقنية ولأفكارها وأسلوبها التصادمي! هذه هي قصتي مع فرع “سوريا بودكاست” فرع فلسطين الإعلامي!

أستحضر كلّ تفاصيل الحوار ومحاوره أثناء الحلقة! تماما كما كنت استحضر أثناء التسجيل وجه الشباب السوري الذي تجمهر في الساحات السورية لينتزع الحرية رغما عن أنف المستبد! كان واضحا أن المحقق يتّقي السؤال ويخشاه كما يخشى المستبد عنفوان شعبه! لأنه على يقين أنّ السؤال مفتاح الحقيقة التي تزعج المستبد الهش بكل أنواعه سياسيا أو إعلاميا أو اجتماعيا! ومحليا أو إقليما أو دوليا! فراح على مدار ساعتين تامتين أثناء التسجيل يلوح كسجّان بمفاتيحه، دون أن يتجرأ على فتح هذا الصندوق أو ذاك! كان يقلّب مفاتيح صناديقي التي أعلمته بما تحتوي قبل بدء الحلقة، لكنه فيما يبدو كان يخشى الاقتراب خوفا من استفزاز الحقيقة لدى الشاهد الذي يتم استجوابه! بذريعة أنني إنسان تصادمي وأنّ ما أطرحه مثير للجدل! لم يكن التحقيق مرعبا! إنّه تحقيق مضحك يهرب فيه المحقق من السؤال ويغتصب فيه المستجوب الجواب اغتصابا!

لم أتعرّق كعادتي! فلم يكن هناك داع لاعتصار الذاكرة واستدعاء الأفكار والمعلومات، لأن المطلوب خلاف العرف الإعلامي! المطلوب هو خنق الذاكرة وترويض العقل قدر الإمكان كي لا نزعج المستبد بصوت الحرية المبحوح وأنين الضحايا! وبذلك تتحول الحقيقة المجتزأة لحقيقة مغايرة تختلف عن الحقيقة الأصلية ويسهل توظيفها لصالح هذه الفاعل أو ذاك! فمنذ البداية اشترط المحقق راجيا مراعاة بروتوكول التحقيق وأن أتقي أثناء حديثي عن قطّاع الطريق الثوري وميليشيات القطاع الإعلامي والبحثي والسياسي ذكر أسماء الأشخاص والمؤسسات خوفا من الإحراج! مستدركا: قل ما شئت ولكن دون تجسيد أو تشخيص! فالحديث عن تجسيد الآله خطير في شريعة المستبد! يفضل المستبد دوما أن يكون انتقاده في إطار الحديث العام دون الإشارة لشخصه لكي يشارك هو ذاته في نقد الاستبداد وهنا تضيع البوصلة! إن شرطهم مضحك ويشبه مثلا شعبيا يقول: “كامل لا تقسم ومقسوم لا تأكل وكُل حتى الشبع”! عندها أدركت أنني وربما المحقق ذاته هو قيد الاعتقال! لذا قلبت الطاولة وبعبارة أدق هززتها بقوة وكمافيا منظمة كسرت بعض الصناديق التي أحمل!، لأخرج ما فيها من أفكار ووقائع ومعلومات مع مراعاة مشاعر المستبد وقواعده بهدف الحفاظ على حياة هذه الحلقة! 

لكن رغم ذلك كان المستبد هشّا أكثر من المتوقع!

كان من الواجب عليّ فيما يبدو أن أتقي حتى الأفكار وأشوهها وأوظفها بالطريقة التي تخدم مصالح الفاعل السياسي لا الفاعل الاجتماعي، أيقنت بهذه الحقيقة عين اليقين بعد أن اعتذرت المؤسسة من جمهورها رسميا عن بث الحلقة عازية الأمر لأسباب تقنية ولوجستية! عندها ضحكت لدرجة القهقهة وتذكرت المثقف العربي عندما يتم اعتقاله ويخضع لأشد أنواع التنكيل والتعذيب والإرهاب! لكن عندما يتم الإفراج عن جثته وفي رأسه قبلة بندقية وعلى صدره رفسة بندقية وفي ظهره صورة بندقية إلا أن التقرير القانوني والأمني يثبت بوقاحة أنه مات بنوبة قلبية أو ذبحة صدرية! وهكذا هو “بودكاست سوريا” مَنع العرض لأسباب تقنية!

ولمّا حاورتهم وأنكرت عليهم حجتهم قالوها بصراحة: أنت تصادمي للغاية ولهذا فسدت الحلقة ولا يمكن للمونتير أن يصلح ما أفسد الدهر! فالكارثة ما يبدو ليست بفكرة بذاتها يمكن للتقني أن يستأصلها بل بالمنهج ذاته! عندها أدركت يقينا أن المراد اليوم هو تحييد كل أنواع العزيمة وتدجين الفدائية الإعلامية والسياسية والفكرية وترويض الحراك ليتحول لفلكلور نتغنى في مقاهينا على أطلاله! وبهذا يتحول الإعلام من كونه هو السلطة الأولى أو الرابعة إلى كونه الفيلق الرابع أو الأول! تحول الإعلام من كونه أداة لنقل الحقيقة إلى كونه أداة لصناعة الواقع، ومن كونه أداة تحرير إلى كونه أداة استبدادية، لإحكام سلطة المستبد السياسي وتطويع إنساننا لعبوديته.

ويحق للبعض أن يتساءل أليس ظلما اعتباره تحقيقا ونعته بفرع فلسطين؟!

والجواب: ماذا نوصف مثل هذه الحالات! رجل دخل وأفضى للمؤسسة الإعلامية بتحليلاته ورؤيته ومعلوماته لمدة ساعتين حول تفاصيل قضيته السياسية بشرط العرض، لكن وفجأة يتعسف الطرف الآخر ويستبد ويرفض العرض بسبب طبيعة أفكار الضيف  الجريئة والصريحة غير المحابية، ليبقى هذا الاستجواب في أدراجهم ما يمكنهم من استخدامه والعبث بمحتواه سرا في المستقبل بالطريقة التي يريدونها!

فإذا لم يكن ذاك بمثابة تحقيق في فرع أمني فماذا يمكن أن نصف مثل هذا الإعلام الانتقائي الوظيفي المختطف! مثل هذه الغرف الإعلامية السوداء بأسلوبها الانتقائي تكون لا تسعى لتوعية الرأي العام، بل لجمع المعلومات وقياس الرأي العام النخبوي وتقديمها على طبق من ذهب لصناع القرار الساعين لإعانة الفاعل السياسي في إعادة هيكلة الشرائح الاجتماعية وفق رؤيته التي لا تستند على الواقعية الاجتماعية بل تنطلق من الواقعية السياسية التي ثارت عليها الشعوب وطالبت بالتحرر من القمقم الاستبدادي!

ونعته بفرع فلسطين هو أن المالك أحد أهم الشخصيات السياسية الفكرية التي تتكلم عن وجوب تحرير الإنسان وتقويض الاستبداد! كذلك إنّ فريقه التحريري الفلسطيني الذي حصرا يسترشد بالبوصلة الإيرانية هو المتحكم فيما يبدو يقينا في إدارة الخطاب الخاص ببودكاست سوريا والعراق واليمن وليبيا وكافة دول الحراك العربي داخل المؤسسة، سواء من حيث هيكلة الخطاب وتوجيهه أو من حيث المنع والإباحة وتحديد قواعد المحاور والنشر! وهذه إستراتيجية خطيرة لازمة التغيير وغير مقبولة في إدارة الخطاب الشعبي والإعلامي العربي! فهو تسييس للخطاب والإعلام وفق إرادة الفواعل السياسية! مستغلين القوة السياسية والاقتصادية في تحقيق ترويض العقل الشعبي العربي الذي دفع ما دفع بغية تحقيق الحرية! إن من الخطورة بمكان هو التمكين لإستراتيجية عدم تحكيم كل بلد بخطابه الخاص! وتوكيل فئة لا علاقة لها بالحراك ولا تفاصيله في التحكم بخطاب الحراك! فإن الفاعل السياسي بذلك يسعى لتحييد العاطفة وتعطيل التدافع الفكري البيني داخل الحراك الشعبي النخبوي لكل بلد! وإن مثل هذه الإستراتيجية تعطب فاعلية الحراك الاجتماعي لدول الحراك العربي بل وتسهّل تحكم الفاعل السياسي بالفئة البشرية النخبوية الموكل لها إدارة خطاب دول الحراك العربي بأمان مطلق، لأن هذه الفئة بطبيعة الحال غير متضررة بشكل مباشر من المستبد المسؤول عن القطاع السوري أو اليمني أو العراقي! وخطورة هذه الفئة (اليساريين واليمينيين) أنها تهتدي بالبوصلة الإيرانية المجرمة! وهذه الإستراتيجية باعتقادي أقل ما يقال عنها: إنها عبث غير مسؤول بالجملة العصبية لأمة الجسد الواحد! وبذلك تتحول حضارتنا إلى جسد معطوب ومجموعة من الأعضاء العاجزة عن الحركة! لذا على الفاعل الإعلامي الفلسطيني اليساري واليميني الذي يختطف مؤسسات الإعلام الثوري السوري والعربي بكل أنواعها ويطوع خطابها لما يخدم فكرة إعادة تدوير الاستبداد وتقويض الحراك وزجه في حظيرة التجهيل المقنع والعبودية السياسية! على هذا الفاعل أن يراجع نفسه ويكف عن العبث والارتزاق الحضاري!

في المقابل على الحراك الثوري السوري والعربي أن يحذر من إصرار الفاعل السياسي على تحكيم الأدوات المتناقضة في إدارة الخطاب الشعبي العربي، لأن هذه الاستراتيجية تؤدي إلى ارتهان خطابه وبيع عقل حراكه الشعبي والاجتماعي في مزاد الإعلام ومراكز الدراسات والأبحاث، التي يوكل الفاعل السياسي عناصر اليسار واليمين في إدارتها! فهو يعمد على دعم المتناقضات الاجتماعية لتكريس بيئة الصراع وعدم الاستقرار الاجتماعي الذي يؤدي إلى استنزاف القوى الاجتماعية لصالح المستبد السياسي المحلي والدولي والإقليمي! إضافة إلى أنّ دعم التناقضات الاجتماعية والسياسية تسهّل على الفاعل السياسي تحقيق استراتيجية التوظيف السياسي لكافة الحراكات والنخب الاجتماعية وتجييرها لخدمة مصلحته حصرا! في نهاية المطاف لا بد أن يتنبه الحراك ويحذر من إستراتيجية تشييد الوطن الافتراضي الذي يبنيه الاستبداد الأنيق ويسعى بواسطته لترويض المهجرين الخارجين عن نطاق جغرافيا المستبد المحلي، مستخدما في تحقيق ذلك كافة المؤسسات الإعلامية والبحثية والسياسية والتعليمية التي يسعى بواسطتها لمحاصرة الفكر والانتفاضة العربية وتعطيل التدافع! ولذلك نلحظ غالبا أنّ هذه المؤسسات التي تخضع لحظيرة الوطن الافتراضي، غالبا لا تنتقد بعضها بعضا بل  على العكس تماما! بل يسوّق كل منها لتشريع وجود الآخر، فالعلاقة بينهما تكاملية تهدف لإحكام السيطرة على عقلية الحراك الاجتماعي وفق رؤية الاستبداد السياسي! ومن هنا يتوجب على كل النخب الحرة إذا كانت تحذر من الاستبداد المجرم مرة، عليها أن تحذر من الاستبداد الأنيق ألف مرة!

____________________________

*دكتوراه في الإعلام والرأي العام السياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button