بصمات | استشهدوا جميعاً لكنهم ما زالوا يعيشون فيّ
د. علي حافظ
إلى الشهداء التاليين بمناسبة ذكرى ثورتهم: أبو يزن (همام نجار)، أبو مريم (يحيى حافظ)، أبو شريف (محمود شريف حافظ)، أبو أحمد ذاتية (محمود نجار)، الشيخ مصطفى القناص (مصطفى الصالح)، أبو طلحة القناص، أبو علي القناص، عثمان حافظ، أحمد عمر حافظ، لؤي سليم حافظ، محمد كامل حافظ، أيمن ربيع حافظ، محمود حسين حافظ، أمجد وعبد الله أولاد صادق حافظ، أحمد الحسن (عكرمة) أبو عدنان الحلبي، أبو الفضل، ميشيل (راعي دير السريان الكاثوليك)، وجرثومة…
كم كانت أيام الثورة جميلة وصعبة بنفس الوقت.. كم كانت رائعة ومعقدة.. كم كانت حالمة ويائسة.. كم كانت واضحة وغامضة… عشنا في تناقض رهيب، عشنا في خطر عظيم، لكن الأحلام والآمال ساعدتنا كثيراً على التخلص من أخطار الوضع وكارثيته… كنا نفقد كل شيء في لحظات، معتقدين أننا هزمنا وقد حلت نهايتنا؛ وفي لحظات كنا نمتلك القوة والثقة بأننا سننتصر في الحال، ونحصل على حريتنا المؤجلة!
لكن، مضى الوقت وأصبح الموت هو الشيء الوحيد القادر على إعطائنا حريتنا.. هو الحاضر الأبدي الوحيد المستمر في الحركة والتقدم نحونا دون خوف أو وجل أو تلكؤ.. هو الوحيد الذي يمكنه أن يخلصنا من بقايا أغلالنا التي ورثناها عن السنين العجاف الماضية.. هو الوحيد الذي سيتوسط لنا عند خازن الحياة ليأخذ ما أعطانا وما حرمنا…
استشهد أصدقائي واحداً تلو الآخر؛ وكنت قاب قوسين أو أدنى من الموت.. أصبت مرتين؛ وكان يمكن للثالثة أن تكون ثابتة – كما قال لي ذات مرة أبو يزن وهو يضحك قبل أن يستشهد؛ ويأخذ قلبي ودموعي معه!
لقد أدمنا جميعاً على الموت؛ لكنه لم يأت لزيارتي… توقف في أماكن أخرى وانشغل بكثرة زبائنه وطلابه!
ربما دعاء والدتي، الذي شق سدف السماء في كل صلاة، هو الذي أنقذني؟!
ربما، تريث قليلاً، وتركني لأكتب عن تفاصيل موت أصدقائي، عن ملامحهم الجميلة الأخيرة، عن ضحكاتهم التي ما زال صداها يجمل سمعي ويرفض التغير والمغادرة، عن أجسادهم النازفة وهي تسقي التراب بالدم القاني، عن أرواحهم التي عانقت السماء وغفت في أحضان الغيوم؟!..
ربما، تركني لأكون صوت أولئك الذين مازالوا يقاومون بصدورهم العارية وبسواعدهم الغضة، حتى تسقط أسطورة جدران مملكة الخوف العالية التي بنوها حولنا منذ عهود؟!.. ربما، تركني لأكون عوناً لأولئك الذين مازالوا يقاتلون، ليموتوا أخيراً من أجل إيقاف هوس القتلة بقتلنا، مجددين الهواء الفاسد الذي نتنفسه منذ بداية حكم آل الأسد؟!..
ربما، تركني كي أساعد أولئك الذين يحاولون إيقاف عهود الانحطاط التي طغت على عقولنا وأشبعتها بالخرافات والأساطير والكوابيس؛ لننام بسلام وأمان وأعمق من أي وقت مضى…
رغم أن رحى الحياة تدور بين الظلمة والنور؛ فإنني لا أراكم يا أصدقائي الراحلين سوى في هالات النور. لقد استشهدتم جميعاً، لكنكم ما زالتم تعيشون فيّ أنا الغريب هنا حتى عن أنفاسي؛ أنا الذي يحتضر كل يوم ولا يلحظ هذا أحد!
في الحقيقة، أنا لم أنج من الموت؛ وإنما أتظاهر بأنني أعيش فقط معتبراً أن كل ما حدث هو مجرد حلم عابر.. هذا الموت لم يغادر مملكتي للحظة واحدة.. إنه ينتظر بعض الأحيان عند مدخل بيتي، وأحياناً أخرى يقف أمام المرآة في دهليز شقتي ويعدّل ربطة عنقه؛ منتظراً الفرصة المناسبة ليمد لي يده بالسلام الأخير!
طوبى لموتكم يا أصدقائي…
فـ “في الحياة هناك أشياءٌ كثيرةٌ أسوأ من الموت” – حسب بيرل باك؛ لذلك، أَستيقظُ أحياناً من أحلام الموت في هجيع الليل، حين تنفخ الرياح ما بقي من أنفاسها المتعبة وتتأهب النجوم للرحيل؛ وأنهض بصعوبة كي آتي إلى المقبرة: تهب نسمات الهواء الباردة على العدم المظلم والصامت، ويفوح عبق الأعشاب وبعض الزهور الملتحفة بكفن الضباب.. ألقي التحية عليكم أيها الأحياء، وأقول لكم: “لا يوجد انتصار أعظم من أن تغادر هذا العالم كإنسان حر” – كما قال سبارتاكوس – وأغادر مشيحاً بوجهي عن المكان كي لا أرى نظراتكم وهي تخترق عظامي أنا الهارب من ضجيج البشر، الميت منذ رحيلكم!