مقامات أمريكية | أورفة... لا أكاد أصدق يا أغناصيو!
د. حسام عتال
كتب لي صديقي الفيليبيني أغناصيو من أورفة “لا أكاد أصدق جمال هذا المكان، من المؤكد أني سأعود هنا مرة أخرى!”
كنت قد تعرفت إلى أغناصيو في إحدى زياراتي لأيسلندا في رحلة تصويرية، حين تقاسمنا غرفة النوم. بقينا بعدها أصدقاء والتقينا في أماكن أخرى إما بالصدفة أو ببعض التدبير. عندما سألني عن بعض الصور التي كنت قد التقطتها في تركيا، اقترحت عليه زيارة المنطقة العربية الممتدة من مرسين وحتى نصيبين، وهو بالضبط ما يفعله الآن.
اغناصيو مصور هاو جيد ويستخدم كاميرا (اللايكا) الشهيرة، ويعمل أساساً بالأسود والأبيض، متعمداً على نقاء المونوكروم في فنه التصويري. آخر صورة أرسلها لي كانت من أورفة، فعادت إلى مخيلتي الأيام التي قضيتها فيها، وبعض أحداثها التي حصلت منذ ما يقرب السنة.
يومها تجولت في شوارع أورفة الضيقة القديمة، المرصوفة بمربعات من البازلت، قبل طلوع الشمس.
أحب أن أسمع أصوات المدينة وهي تتهيأ للعمل في الصباح الباكر، فتح أغطية المخازن الحديدية، قرقعة الكراسي، صرصرة مكانس القش على الرصيف. لكن أورفة كانت ساكنة كالقبر، فقط بضع حمامات يهدلن فوق أغطية المحلات التنكية، وقطة تموء جلست في حضني ووجدت في بنطلون الجينز خشونة كافية لتقليم أظافرها. أسفي… هذه المدينة تصحو متأخرة.
رأيت حفرة كبيرة وراء أحد الأبنية بدت وكأنها موقع أثري يُسبر. وأنا أسير تجاهها للنظر داخلها، صرخ رجل بصوت عالٍ أرعبني. نظرت تجاهه فإذا بشيخ مسن قرب كوخ حديدي صغير، قفله مفتوح، يصيح بالتركية ويشير إلي بحركات مبالغة من يديه. ذهبت إليه وبعد محاولات للتفاهم أدركت أنه يريدني أن أحمل علبته الثقيلة المليئة بالمسابح (أو بالسبحات لا أدري) وأنقلها له إلى الساحة المجاورة حيث يبيعها.
الساحة تبعد حوالي ١٠٠ متر، لم أمانع بل رحبت، فهي رياضة من ناحية، وكسر للصمت الذي لم أُطِقُه من ناحية أخرى. خلال مشينا إلى الساحة (هو حمل كرسيه الصغير الخفيف) ظل يتكلم بالتركية ويشير بيديه إلى هذا أو ذاك، وكأني أعرف التركية كما يعرفها أورهان پاموق أو نازك حكمت. بعد أن أوصلته واستقر في مكانه أراد إعطائي ُسبحة فرفضت، ولكني سألته عن صورة بدلاً عن ذلك.
بعد فطور تركي في مكان قريب (زيتون، لبنه، جبنه، بيض، قشطة وعسل، مع الشاي) توجهت لمتحف الآثار. كان هناك عدد من طلاب المدارس الصغار يصيحون ويشاكسون بعضهم البعض، فرأيت أن هذه ضوضاء أكثر مما أريد، فجلست في الكافتريا وشربت قهوتي. دخلت بوابة المتحف ووجدت أول عمل وهو التمثال في الصورة أدناه.
هذا أول تمثال قائم مكتشف في تاريخ البشرية، عمره ١١ ألف سنة. كان منظره صلباً وخاماً، مباشرة أعاد إلى مخيلتي وسمعي صورة وصوت الشيخ الذي التقيته في الصباح، وجعل بداية يومي صاخبة صارمة، كما أحبها.
أرسلت إلى أغناصيو صورة التمثال ناصحاً إياه بزيارة المتحف، فأجابني: “عمَّ تتكلم، أنا في المتحف الآن!”