سير ذاتية ومذكرات

جرمانا وأول غول عرفته في حياتي

سجلت نفسي أول بخاخ يحسّن شكل الجدران بدل أن تبقى دفاتر تسبح بحمد الغول

جرمانا الآن فقط اشتقت إليك بعد أن أزيل رأس الغول  

ولدت في بيتنا الذي كان بين بساتين المشمش والجوز والرمان قبل 65 عاماً، وكانت تحنو على شقاوتي، إلى أن تكدرت عندما تفتحت عيناي تستكشف المحيط الأوسع، فكان الغول بدأ يقيم في هوائنا وأحذيتنا وثيابنا وطعامنا فلوث فضاءنا، ولبّد سماءنا، وزاد المحن.                        

فلما أزل أذكر كيف كنت أسير خلف حبي الأول عند عودتنا من المدرسة، لأرى سمات الكمال كلها متجمعة فيها، فتبادلني ابتسامتي بأوسع منها، أعيش عليها أياماً طويلة، ويصيغ خيالي بلياليه جسدها إغواءً أنثوياً، إلى أن انعقد لساني فحفرت على شجرة مشمش في البستان القريب من بيتي أول حرف من اسمها، إلى جانب حرف اسمي الأول، وبينهما قلب يخترقه سهم، بشكل فني جميل يلهم توق ذائقتها إلى السمو الذي أسعى إليه.

ولطالما جلست خلف شجرة رمان كثيفة، أتفيأ ظلها، وأرقب عودتها من المدرسة، بداية لم تلحظ ما حفرته، فعدتُ وكتبت على شجرة ثانية، وثالثة، إلى أن توقفتْ أخيراً تعاين الأحرف، وفهمتْ أنني العاشق الولهان، فاقتربتُ حين ركنتْ إلى الشجرة كغصن بقدها، وأخافتني روعة جمالها، وامتقع وجهها بحمرة أكثر من وجهي، وتابعنا بسبابتنا مجرى الأحرف، وعيناي معلقتان بعينيها، فأنستني كل ما حولها، وشعرت بالرضى العاطفي والنفسي.

وما حدث أن ظهر صاحب البستان، راكضاً إلينا ملوحاً بعصاه معلناً اكتشافاً تاريخياً كما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية، وشغل الحي بأنني أجرح الأشجار، لإسالة الصمغ منها، ودون أن يلصق تهماً بها صارت حديث الناس، فعاقبها أهلها عليها بأن منعوها من الذهاب إلى المدرسة وبعد مدة نقلوا سكنهم إلى قرية أخرى.

كان صاحب البستان أول غول عرفته وحال بيني وبينها وأصابني بحزن شديد، فلم يفهم أنني وسهيلة كنا غصنين من شجرة، شعرت معه بأن قلبي يتمزق، فخطرت لي فكرة أن أرسم قلبا مشطوراً على جدار بيتها بطبشورة حمراء، وفعلت مرة واثنتين لكنها لم تخرج من بيتها.

الظلم مرتعه وخيم، والغول رعب فرسمت في الظلمة سهماً ملوناً على “معاكة المشمش والمبخرة” وعلى جدار بستانه ويسمى “بحيط دك”، وهكذا حتى رآه كابوساً يؤرقه فردد أن شبحاً يرسم “خطاً” وهو ماكان يعرف بـ”العمل” الذي يقوم به المشعوذون ويراد منه الأذية أو التطويع.

وكان أن شيد بناء حديثاً في البستان فاستهواني جداره الإسمنتي الجديد، بأن أرسم  عليه سهما، فشاهدني بعد أن نصب كميناً، فأخفيت علبة الدهان قبل أن أخط الرسم، وفككت سحاب البنطالون، ولكنه بقي على شكه، فكلف ابنه الكسول بكتابة لا تتبول هنا ياحيوان، بخط لا يكاد يقرأ إلى جانب كتابات أخرى واضحة وملونة تتحدث عن أفضال الغول، مثل “معك إلى الأبد ياباني البلاد الحديثة”.

تحطيم تمثال الديكتاتور حافظ الأسد فيما كان يعرف ب”دوار الرئيس” في مدينة جرمانا

شطبتُ كلمة “ياباني” واستبدلتها بـ “كوري” وأصررتُ على أن أرسم سهماً إلى جانبها، فمسحوا ما كتبته في اليوم التالي، وعدت وشطبتها في مكان آخر وجدته متاحاً وغير مراقب من النسخة الثانية من الغول، فلم أر نفسي إلا جانحاً أبداً إلى مخالفته بكل ما هو عليه، فهو انبرى لتعيره كلمتي سمعها، وترعه بصرها، أرادها أن تذرف دمعاً، فتُقهر وتُهزم، مثلما يفعل منذ مئات السنين، في فرض الصمت، وجعل المعاناة مكبوتة، والتغول بالعقل، وأسره لمنع نموه، ليسقط كالجذع اليابس بالعاً اللسان.

وتحولتُ من ساذج بريء في سن المراهقة إلى مغامر عنيد في مرحلة الشباب، ومن عاشق يكتب على الشجر إلى مولع بالسياسة يخط على الجدران، وفقدت كثيراً من مرح الشباب وزهوته ودهشته، وتوجه سؤالي المعرفي صوب الكتابة والسياسة لأجيب عليه بنفسي من خلال الترويح عن النفس بلوم المجتمع والساسة.

وبقيت على هذه الحال وأمامي مستنقع من أفكار معلبة وافدة، وأخرى مستحضرة، تلاطمت مثل غيوم احتبس مطرها، ولم تأت بخصب، فلما دخلت غمارها، رأيت الغيث، في التلفظ بالحقيقة ميسراً للحياة، ويمنحها طعماً ولوناً ورائحة متميزة، ويثبت حضوراً أزهو به أمام أقراني، فأقرنت الثقافة بالأفعال، وتمثلتُ عناوينها، فأعطتني ثقة، بعد أن أغدقوا المديح للساني وهو ينطق بإدانة الغُول.

اخترعت نصاً خاصاً بي، نحته من كل شيء إنساني أحبه، إذ مهما كانت النصوص الجاهزة التي نتبع فإن عناوينها قضبان نأتي بها لنسجن أنفسنا خلفها، لكنني لم أستطع كتابته في وسيلة الإعلام التي بدأت العمل فيها آنذاك، فسجلت نفسي أول بخاخ يحسّن شكل الجدران بدل أن تبقى دفاتر تسبح بحمد الغول، وتُخط أقواله عليها، وترفع حكمه، إلى جانب عبارات مثل “لا تلق القمامة يا حمار”، فطمست منها ما تيسر، بشعار نحته من النص، و تركت ما يرسمه المراهقون، من قلوب وأحرف لأسماء يؤكدون فيها الحب الأبدي العذري وفاء لذاكرتي.

وهكذا كنت كلما سنحت الفرصة أكتب على الجدران ما لم أستطع قوله، بعد أن ينسني المشروب الرعب من الاعتقال، أما عند الصحوة، فأزداد خوفاً وهلعاً، وأعود وأشرب لكي أخرج من الحالة، و تدحرجت على محيط دائرة، فصرت كلما أرى ظلماً أرجع مسبباته إلى الغول فأشرب وأكتب، فأصحو وأخاف، فأشرب لنزع الخوف وأكتب من جديد، وحكم التوجس من الغول سلوكي اليومي كشلال يبللني بالحذر، فبقيت محتاطاً، أشك بأي حركة من أي شخص، وأتساءل في العيون التي تنظر إلي ما إذا كانت أبصرتني وأنا أكتب على الجدران، أو أن أحدا أرسل تلك العيون، لمراقبتي، فكان الخوف حبسٌ روحي، جعلني أرى الناس تحب المتواضعين، فأجزلت العطاءات للمقربين، كمن يتوقع نهايته قريبة. 

الشرب يُنطق اللسان بكل ما يختلج بالصدر، ويذُهب الجزع والتخويف، و يشحذ العزيمة والشجاعة في التحدي، ونشر الرفض والحرية، على الرغم من ثقله عندما يستقر في الرأس صاعدا من المعدة فيسيخ فيه، ودافعي بذلك كان سؤالاً: ألم يخاطب الأخطل الخليفة عبد الملك بمثل ما أخط على الجدران، عندما كان في تلك الحالة حين قال في مجلسه؟ 

إذا ما نديمي علني ثم علني       

ثلاث زجاجات لهن هدير                                                 

خرجت أجر الذيل تيها كأنني 

عليك أمير المؤمنين أمير

أدرك بعيداً عن المشروب بأن الغول غير عبد الملك، خاصة أنه ظهر يريد معرفة الفاعل لذلك كان علي أن أبحث عن وسيلة غير اللسان تتشاكل مع ما أريد على الرغم من النصح الذي كان يسديه لي أخي الأكبر بأن لا تكن مراً فتعاف، وبأن علي النزول عن الشجرة، فأبديت السخط وعدم الرضا مناكفة، منكرا كارها ظلمه، ولما يسميه زورا نعمته الكافية الشافية.

بقيت أكتبه وبقي الغول يطاردني، بينما أنا أعب من العرق، متمثلاً الأخطل وأتأرجح بين كأسين وخمسة وما بينهم من الحالات الثلاث التي يمر بها المخمور وهي سمر وليلى وآخيراً حالة صادف أن اسمها الغول، فعندها واجهته.

و لما أزل متنقلا بين الجدران والأشجار، على الرغم من أنني كنت أرى ما أكتب ثمراً على جدب، وقد تبلبلت خضرتها على زوالها، ولكنني أشعر أنني شاعراً وخليفة معاً والأرض تمور تحتي وأنا أسير ليلاً ، فأواصل طريقي مغامراً لا يستطيع إبقاء الحقيقة محبوسة.

عنيداً أطوف وأتجول بين حالتي ليلى والغول، وأقول ياليل ياعين ردحاً من الزمن إلى أن أتت ليلى كالوردة الناضرة مع بداية الثورة التي طالما حلمت بها، في وقت متأخر من الليل والحياة، بعد أن بلغت الخمسين، فوجدت  فيها حبي الأول، وكتبت لها بمثل ما كتبت لسهيلة، واستكتبتها فشكلتُ من حروف كلماتها امرأة بنسج ما هويت وعشقت.

تعليق واحد

  1. Just desire to say your article is as astounding. The clearness in your post is just nice and i can assume you are an expert on this subject. Fine with your permission allow me to grab your feed to keep up to date with forthcoming post. Thanks a million and please continue the enjoyable work.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى