دلالات وقضايا | أيهما أفضل: اتِّهامُ الملحدين أم مُحَاجَجَتهم في الوجود التَّاريخيُّ للأنبياء؟ (1)
مهنَّا بلال الرَّشيد
بدأنا في مقال الأسبوع الماضي مناقشة ردود سامي العامريِّ على خزعل الماجديِّ وفراس السَّوَّاح من خلال كتابه الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء، وعرَّفنا بناشر الكتاب وهدفه من نشره؛ لنحطَّ اليوم عند بعض القضايا المطروحة فيه نظرًا لحساسيَّتها وتشظِّي دلالاتها؛ الَّتي تمسُّ معظم جوانب حياتنا: (الدِّينيَّة والتَّاريخيَّة والفكريَّة والسِّياسيَّة وغيرها)؛ لذلك وهذا-من وجهة نظرنا-خيرٌ من الاكتفاء بالتَّعريف الموجز بالكاتب والكتاب معًا، أو الاقتصار على الإشادة بالجهود المبذولة فيه أو نقد آرائه وتفنيدها أو تبنِّيها، ونحن في هذا المقام نحاول أن نعرض آراء الكاتب وآراء خصومه، الَّذين يردُّ عليهم بعيدًا عن موقفنا الشَّخصيِّ من تبنِّي أيٍّ منها، وإن أبدينا رأيًا سنبديه حول قوَّة الدِّليل في الدِّفاع عن الفكرة أو ضعفه خلال نقضِها وتفنيدها، ونحن نعتني بالدِّليل لا بإيمان الشَّخص أو كُفره بمثل هذا النَّوع من القضايا التزامًا بالحدُّ الأدنى من الموضوعيَّة، الَّتي تعلَّمناها في بحوثنا الأكاديميَّة، ونصحنا طلَّابنا في مرحلة الدِّراسة الجامعيَّة الأولى ومرحلة الدِّراسة العليا أن يحافظوا عليها دائمًا خلال نقاشاتهم وبحوثهم العلميَّة بعيدًا عن كلِّ أيديولوجيا سياسيَّة أو دينيَّة ينتمون إليها.
تختلف مهمَّة الباحث في بحثه العلميِّ عن مهمَّة المناضل لنشر أيِّ أيديولوجيا حزبه أو المبشِّر بدين جماعته أو مذهبهم أو معتقدهم؛ لأنَّ التَّبشير بأيِّ فكرة لا تصمد أمام حجج البحث العلميِّ يُفقِدها موضوعيَّتها، ونحن ههنا لا نتَّخذ موقفًا سلبيًّا من التَّبشير ذاته، وإنَّما ننتقد نوعًا من التَّبشير الَّذي يعتمد على السَّرد العاطفيِّ بعيدًا عن حجج العقل والمنطق، وانزواء المبشِّر في بيته-من وجهة نظرنا-أفضل من تصدِّيه لمهمَّة التَّبشير الشَّاقَّة دون امتلاك أدوات البحث العلميِّ كلِّها؛ لأنَّ معارك الفكر والقلم لا تقلُّ ضراوة عن معارك السَّيف والعَلَم. ولا يحقُّ للمبشِّر أن يحارب أفكار الآخرين ومذاهبهم ومعتقداتهم (الإلحاديَّة أو الدِّينيَّة أو اللَّادينيَّة) انطلاقًا من حكم مسبق يعتقد فيه أنَّ تديُّنَه يضعه في مرتبة أعلى منهم، وإن كانت ضراوة هذه النَّقاش الظَّاهريَّة تنبع من إلحاد فريق من المتحاورين أو لادينيَّته مقابل تديُّن الفريق الآخر؛ فإنَّ الحقيقة خلاف هذا المعتقد تمامًا؛ فالعاجز عن الإقناع هو الَّذي يحارب ويتهجَّم، وضراوة الحوار بين الفرق المحسوبة على الإلحاد لا تقلُّ عن ضراوته بين الفرق المحسوبة على التَّديُّن؛ وبين طوائف المؤمنين ومذاهب المتديِّنين معارك حامية أيضًا، والحجج المنطقيَّة الَّتي نستخدمها لإقناع الملحد، الَّذي لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون حُجَجٌ من السَّهل الممتنع، وتختلف تمامًا عن الأدلَّة العقليَّة والحجج المنطقيَّة، الَّتي نستخدمها في محاورة الرُّبوبيِّين من المؤمنين بوجود الإله ومنكري التَّواصل بين الرُّسل والخالق من خلال الوحي والمعجزات، وكذلك نحتاج أدلَّة من نوع مختلف عند نقاش طائفة (اللَّاأدريَّة) المؤمنة بمقولة: لا أدري؛ أي لا أعرف حقًّا إن كان هناك خالق لهذا الكون أو ليس له خالق أساسًا؛ لأنَّ هذه الطَّائفة تقتنع ببعض أدلَّة المؤمنين على وجود الخالق، ولا تقتنع ببعضها الآخر، وتُسلِّم بمشروعة شكوك بعض الملحدين، وترفض بعضًا من أفكارهم المتعنِّتة.
في الحاجة إلى المعارك الفكريَّة
تنسحب ضراوة المعارك في مثل هذه النِّقاشات داخل الجماعة (الإلحاديَّة أو الشِّرْكيَّة أو اللَّادينيَّة واللَّاأدريَّة) الواحدة؛ فالمؤمنون بنظريَّة التَّطوُّر على درجات متنوِّعة في فهم هذه النَّظريَّة ذاتها، والملحدون درجات وطبقات، وبعض عبدة الأصنام يخلصون عبادتهم لأصنامهم، وبعضهم الآخر مشركون؛ أي لا يعبدون هذه الأصنام إلَّا لتقرِّبهم من خالق الكون؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى: (ألا لله الدِّين الخالص والَّذين اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدُهم إلَّا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى إنَّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إنَّ الله لا يهدي من هو كاذب كفَّار) [سورة الزُّمر، الآية: 3]. وبين طوائف المؤمنين داخل أتباع الدِّيانة الواحدة (كاليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام) معارك ضارية أيضًا، وقد تفوق هذه المعارك بضراوتها معارك (الملحدين والمشركين واللَّا دينيِّين واللَّا أدريِّين)؛ بسبب مخاطر الأيديولوجيا الدِّينيَّة، الَّتي تشعل الحرب بين المتزمِّتين من أتباع الدِّيانات، وتُزكي أُوار الحرب بين الطَّوائف اليهوديَّة أو الطَّوائف المسيحيَّة أو الطَّوائف الإسلاميَّة داخل أتباع الدِّين الواحد؛ ونستنتج من هذا العرض كلِّه أنَّ الحوار الفكريَّ بين (الملحدين واللَّا دينيِّين) من جانب والمتديِّنين (اليهود والمسيحيِّين والمسلمين) من جانب آخر حوار طبيعيٌّ؛ لأنَّ أتباع الطَّائفة الواحدة يتعاركون-فكريًّا-فيما بينهم، ومعاركهم مع الآخرين من باب أولى؛ ويجب على المتجادلين في هذه المعارك الفكريَّة كلِّها احترام العقل والمنطق والنَّزاهة والموضوعيَّة والشَّفافيَّة وأخلاق البحث العلميِّ؛ لأنَّ القارئ أو المتلقِّي الواعي ينفر من التَّعصُّب والمغالطات وشَخْصَنة القضايا، وينبذُ كلَّ متعنِّتٍ، ومجرَّد الخوض في مثل هذه النِّقاشات يفرض على المتناقشين أن يتقبَّلوا الآخر المختلف عنهم، وأن يحاوروه بمنتهى الهدوء والشَّفافيَّة بعيدًا عن القدح الشَّخصيِّ. ولا يعني المتلقِّي الواعي إلَّا جودة الفكرة ومنطقيَّتها وقدرة صاحبها على استخدام الحوار المنطقيِّ والجدل العقليِّ للدِّفاع عنها خلال المقال أو المناظرة أو الكتاب؛ ومن هنا نستنج أنَّ كلًّا من التَّعصُّب والصُّراخ والقدح ليست أدلَّة على تميِّز أصحابها في مجال (التَّديُّن أو التَّنوير) وإنَّما هي أدلَّة على فراغ أصحابها أو خوائهم الفكريِّ إن كانوا من أدعياء التَّديُّن أو التَّنوير أو التَّبشير.
لماذا ألَّف العامريُّ كتاب الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء؟
يضع الدُّكتور سامي العامريُّ على عاتقه مسؤوليَّة كبيرة حين يحدِّد أسباب تأليفه هذا الكتاب، الَّتي يرى فيها تلبية لواجبه الدِّينيِّ أو الأخلاقيِّ بسبب عدم وجود كتاب مفرد لتاريخيَّة الأنبياء في المكتبة العربيَّة بعد تسارع حركة الأفكار ونشاط الملحدين العرب في استقدام الشُّبهات الغربيَّة للطَّعن في الإيمان والقرآن الكريم، وقال في تمهيده للكتاب: “غير أنَّ سرعة حركة الأفكار، وعناية منابر اللَّادينيَّة في العالم العربيِّ جعلت الحديث في مثل هذا الموضوع واجبًا لا يُنسأ؛ خاصَّة أنَّني لا أعرف كتابًا في مكتبتنا العربيَّة قد أُفرد لتناول هذا الموضوع؛ بما يقتضي المعاجلة بالمعالجة حتَّى لا تصير الشُّبهة حقيقة منكوتة في صدور الشَّباب السَّاعي للمعرفة والباحث عن الحقِّ”. يرفع العامريُّ سَقَف الطُّموح لدى قارئ كتابه، ويشوِّقه لقراءته حين يلحقه بسلسلته حول (الانتصار للقرآن)، ويعده بتقديم أدلَّة الوفاء البيِّنة على ربَّانيَّة القرآن وانتشار ظاهرة النُّبوَّة في التَّاريخ البشريِّ؛ لأنَّ شُبه الطَّعن في الإيمان والقرآن من خلال التَّشكيك في الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء “صارت تُصدَّرُ في خطاب الطَّعن في صدق الخبر القرآنيِّ، وظاهرة النُّبوَّة في التَّاريخ البشريِّ والوفاء لربَّانيَّة القرآن الكريم يقتضي دفع هذه التُّهمة، بالدَّليل البيِّن الَّذي يُرضي طالب الحقِّ”. وهذا الوعد حسَّاس جدًّا يزيد من شوق المتلقِّي لقراءة الكتاب؛ لأنَّ شرط جودة الدَّليل هو أن يكون مقنعًا ومرضيًا كلَّ طالب حقٍّ بغضِّ النَّظر عن قارئ الدَّليل إن كان ملحدًا أو متديِّنًا؛ فهل وفى العامريُّ بوعوده؟ ولماذا راح يدافع عن التَّوراة برغم اعترافه بأخطائها؟
كيف دافع سامي العامريُّ عن الخبر التَّوراتيِّ؟
يُرْجِع العامريُّ انتشار شبهة الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء وقدومها إلى المجتمعات العربيَّة إلى وصول جملة من الأخبار حول أخطاء الكتاب المقدَّس بعدما تطوَّرت مدرسة (الحدِّ الأعلى)، الَّتي تهتمُّ بمصادر الوثائق (التَّاريخيَّة والدِّينيَّة) لمعرفة مؤلِّفيها وزمن تأليف هذه الوثائق وأمكنتها؛ لتسقط هذه المدرسة احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدَّس، وتقدِّم تصوُّرها عن صِدْقِ الأحداث التَّاريخيَّة في جغرافية الكتاب المقدِّس، لكنَّ تطوُّر مدرسة (النَّقد الأعلى) أو الحدِّ الأعلى أسفر عن نتيجة غير منطقيَّة بحسب رأي العامريِّ، وأدَّى إلى ظهور مدرسة (الحدِّ الأدنى) المضادَّة والمشكِّكة في كلِّ شيء، وصعدت “التَّيَّارات (العقلانيَّة المتطرِّفة) في أوروبَّا، والَّتي استهواها التِّشكيك في كلِّ شيء دينيٍّ، خاصَّة المعجزات”. ونحن هنا نسجِّل ملاحظتنا على استنتاج العامريِّ هذا، الَّذي يتَّهم فيه التَّيَّارات العقلانيَّة بالتَّطرُّف؛ لأنَّها تُشكِّك في كلِّ شيء دينيٍّ، لا سيَّما حدوث المعجزات أو وجودها؛ لنسأل بعد الملاحظة: أين التَّطرُّف الفكريُّ إن كان من حقِّ المرء أن يسأل عن أدقِّ أمور دينه، ويَتَفقَّه فيها؟ وإن لم يكن للإنسان العاقل سلطة على عقله وقَلْبِهِ إن تساءلا كثيرًا، أو إن لم يؤمنا بالمعجزات الخارقة للعادات، أو إن تساءلا عن صحَّة خبر المعجزات وحُجَجِ مُثبتيها؟ وقد أخرج أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه وأحمد حديثًا روته أمُّ المؤمنين عائشة-رضي الله عنها عن الرَّسول الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وضعَّف الألبانيُّ هذا الحديث الَّذي تحدَّث فيه الرَّسول الكريم وفي غيره من الأحاديث عن سُلطان القلب على الإنسان، وقال: (اللَّهمَّ هذا قَسْمِي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)؛ أي لا تَلُمني في ميول قَلبي وأحاديثه وتساؤلاته! وإن ضعَّف الألبانيُّ هذا الحديث فإنَّ البشر في زمن تسارع انتشار الأخبار منقسمون بين مُصدِّق لأخبار المعجزات وبين متأمِّل فيها بصمت دون الجرأة على المجاهرة بطرحه تساؤلاته واستفساراته عنها خشية على نفسه من تكفير المتزمِّتين واتِّهامه في دينه وتبعيَّته للغرب الملحد، الَّذي يعتبره المتزمِّتون مستهدِفًا دائمًا لهم كلَّما طرح مفكِّرٌ تساؤلًا مشروعًا عن أخبار الكتب المقدَّسة والرُّسل والمعجزات.
لكنَّنا نجد نفرًا كبيرًا من الباحثين الغربيِّين قد شرعوا بنقد الكتاب المقدَّس بين أبناء مِلَّتهم من اليهود والمسيحيِّين، وقدَّموا أدلَّة موضوعيَّة في نقدهم، الَّذي لا يستهدفون فيه رجال الكهنوت الدِّينيِّ ذاتهم بقدر ما ينقدون الأخبار والرِّوايات، ولا يتَّسع الحديث لذكر مئات الدِّراسات حول نقد الكتاب المقدَّس وأخباره، ونكتفي بالإشارة إلى واحد من أجمل الكتب في هذا المجال؛ هو: (تاريخ الكتاب المقدَّس منذ عهد التَّكوين وحتَّى اليوم) لمؤلِّفيه: ستيفن م. ميلر وروبرت ف. هوبر، وقد ترجم هذا الكتاب وليم وهبة ووجدي وهبة، وصدرت طبعته العربيَّة الأولى عن دار الثَّقافة في القاهرة سنة (2008)، ولا ضَيْرَ -من وجهة نظرنا- أن يدرس هذا النَّفر من الباحثين أخبار المعجزات وغيرها في الكتب المقدَّسة كلِّها (التَّوراة، والإنجيل، والقرآن الكريم)، ولا ضير إن نقدوها بشرط أن يقدِّموا نقدًا موضوعيًّا مقنعًا؛ وهنا تأتي أهمِّيَّة بحوث المدافعين عنها وردودهم على النُّقَّاد إن واجهوا الحجَّة بالحجَّة والدَّليل بالدَّليل بعيدًا عن تكفير النُّقَّاد أو اتِّهامهم في دينهم؛ لأنَّ الاتِّهام دليل على ضعف حجَّة المتَّهِم، ومعظم من يخوض مثل هذه المعارك الفكريَّة وصل إلى مرحلة من مراحل عدم المبالاة بهذه الاتِّهامات، والحقُّ نحن-بوصفنا قرَّاء-نميل إلى مَن يواجه الحجَّة بالحجَّة، وننفر ممَّن ينقل المسألة إلى حيِّز التَّجريح والاتِّهام.
تحدَّث العامريُّ عن نشاط حركة التَّشكيك بالوجود التَّاريخيِّ للأنبياء في ستِّينات القرن العشرين بعدما انتهت مدرسة عالم الآثار (الأركيولوجيِّ) الأمريكيِّ وليام فوكسويل أولبرايت من إثبات الوجود التَّاريخيِّ لإبراهيم عليه السَّلام، وعندما توفِّي فوكسويل ومعظم تلاميذه وأعلام مدرسته نقضَ أفكارَه كلٌّ من توماس تومسون في كتابه: (تاريخيَّة روايات الآباء: البحث عن إبراهيم التَّاريخيِّ)، وجون فان سيترز في كتابه: (إبراهيم في التَّاريخ والتُّراث)، وأقام الباحثان قرائن على أثر بيئة القرنين السَّابع والسَّادس من الألفيَّة الأولى قبل الميلاد ودورها في صناعة النَّصِّ التَّوراتيِّ، وتحدَّث فيما بعد ستيفن م. ميلر وروبرت ف. هوبر في كتابهما: (تاريخ الكتاب المقدَّس منذ عهد التَّكوين وحتَّى اليوم) عن اشتراك مجموعة كبيرة من المؤلِّفين على تحرير الكتاب المقدَّس خلال ألف سنة تقريبًا. وجاء حديث ميلر وهوبر تتويجًا لصعود الفكر الشُّكوكيِّ الَّذي تحدَّث عنه العامريُّ مع تزايد القراءات المادِّيَّة ما بعد الحداثيَّة للظَّاهرة الدِّينيَّة، وقد خلصت مدرسة الحدِّ الأدنى في الدِّراسات الأركيولوجيَّة إلى أنَّ قصص الأسفار التَّوراتيَّة مجرَّد عمل دعائيٍّ يهوديٍّ لا قيمة تاريخيَّة له، وهو ما يحاول العامريُّ مع مدرسة الحدِّ الأقصى أو الحدِّ الأعلى المتقهقرة بموت أعلامها نفيه دائمًا لتأكيد صحَّة التَّوراة وصدق الخبر التَّوراتيِّ في العهد القديم.
لماذا يعتقد العامريُّ أنَّ دراسة القرآن الكريم دراسة نقديَّة تستفزُّ مشاعر المسلمين؟
قال سامي العامريُّ: إنَّ العرب الَّذين يطعنون بقصص الأنبياء ليسوا من الأكاديميِّين المختصِّين في الأركيولوجيا (علم الآثار) مع أنَّ كُتب خزعل الماجديِّ وفراس السَّوَّاح من أكثر الكُتب الَّتي تدرس الظَّاهرة الدِّينيَّة بالاعتماد على الكشوف الأركيولوجيَّة أو الأثريَّة، وبرى العامريُّ أنَّ السَّوَّاح والماجديِّ وغيرهما كانوا مجرَّد نَقَلَة عن كُتب المستشرقين وغُلاة الأركيولوجيِّين، ويأتي في مقدَّمتهم طه حسين، الَّذي طرح قضيَّة الانتحال في الشِّعر العربيِّ الجاهليِّ، وشكَّك في نسبة كثير منه، وقال في كتابه: (في الشِّعر الجاهليِّ): (للتَّوراة أن تُحدِّثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يُحدِّثنا عنهما أيضًا. لكنَّ ورود هذين الاسمين في التَّوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التَّاريخيِّ).
وتابع اللَّادينيُّون والملاحدة العرب -بحسب العامريُّ- تشكيكهم بوجود الأنبياء من خلال محاضراتهم في الدَّوائر العلمانيَّة أو (العالمانيَّة) كما يحلو للعامريِّ أن يسمِّها، ووجد العامريُّ أنَّ النُّقَّاد الغربيُّين يُسقطون تاريخيَّة الأنبياء نتيجة خطأ في التَّوراة، لكنَّ ملاحدة العرب ولادينيِّيهم يتستَّرون بإدانة التَّوراة للانطلاق من إدانتها إلى إدانة القرآن الكريم ذاته وإنكار ربَّانيَّته، ويبدو أنَّ غيرة العامريِّ على الدِّين أو الأيديولوجيا الدِّينيَّة جعلته يدافع عن الخبر التَّوراتيِّ والشِّعر الجاهليِّ كيلا يُستفزَّ المسلمون حين ينتقل التَّشكيك والنَّقد إلى القرآن الكريم ذاته، ولا يجوز دراسة القرآن بهذه الطِّريقة النَّقديَّة عند العامريِّ، فهل كان العامريُّ محقًّا حين استفزَّته مثل هذه الفكرة؟ وهل يجوز دراسة القرآن الكريم دراسة نقديَّة على نحو دراسة التَّوراة والإنجيل؟ هل يوجد طريقة أخرى للرَّدِّ على أصحاب هذه الدِّراسات بالحجج العقليَّة والبراهين المنطقيَّة بعيدًا عن دراسة القرآن الكريم دراسة نقديَّة وبعيدًا عن الحديث عن كفر الرَّاغبين بمثل هذه الدَّراسات وإلحادهم؟
دراسة القرآن الكريم دراسة نقديَّة تشكل استفزازاً صريحاً للمسلمين
وجد العامريُّ أنَّ مثل هذه الدِّراسات تشكِّل استفزازًا صريحًا للمسلمين؛ لأنَّها تطعن بالخبر القرآنيِّ، ويتَّضح تمامًا أنَّ العامريَّ لا يتقبَّل فكرة أيِّ دراسة نقديَّة أو فيلولوجيَّة حول القرآن الكريم؛ لأنَّها -من وجهة نظره- تشكِّل إدانة وطعنًا في القرآن الكريم وأخبار الأنباء الواردة فيه. وقد كشف الدُّكتور سليمان الذِّيب عن أسباب إهمال المجتمعات العربيَّة الإسلاميَّة لعلم الرِّياضيَّات وعلم اللَّاهوت ودراساته النَّقديَّة وتطبيقها على الكتب المقدَّسة، ورأى أنَّ الإهمال لا يرجع إلى مشكلة أو نقص في هذين العلمين، “بل بسبب ضعف من يتناول موضوعاتهما، فإنَّ الله-سبحانه وتعالى-لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم، فالأمر بين يدي المختصِّين في علوم القرآن والمؤرِّخين الَّذين عليهم واجب إعادة الرُّوح إلى المجتمع بنشر ثقافة مفهومها أنَّ الحرِّيَّة والاختلاف يجب أن يكونا لخدمة المجتمع الإنسانيِّ”. ويكشف رأي الدُّكتور سليمان الذِّيب بطريقة أو بأخرى عن أسباب حدَّة العامريِّ في ردوده على خزعل الماجديِّ وفراس السَّوَّاح؛ لأنَّه يركِّز حديثه عنهما بوصفها رأسين للملاحدة واللَّادينيِّين العرب؛ أي يتحدَّث عن نقد شخصيهما ومعتقديهما بدل أن يناقش أفكارهما، وحين يطرح أفكارهما للنِّقاش يقول: إنَّهما يكرِّران آراء ملاحدة الغربيِّين وغُلاة مستشرقيهم، والحقُّ يدعو إلى الرَّدِّ على الفكرة بالفكرة إن كانت لملاحدة العرب أو غُلاة المستشرقين الغربيِّين، ويبدو أنَّ مجرَّد فكرة إخضاع النُّصوص القرآنيَّة للدِّراسة (الفيلولوجيَّة) ومقارنة أخبارها بأخبار النُّصوص (الأركيولوجيَّة) فكرة لا تخلو من الغلوِّ بالنِّسبة للدُّكتور العامريِّ.
تحدَّث العامريُّ عن خطأ تسمية معترضي الطَّوائف المسيحيَّة باسم البراهمة، ونقل عن ابن حزم تلخيصه أبرز اعتراضات هذه الطَّائفة وتشكيكها بالنُّبوَّة لأنَّ إرسال الله الأنبياء إلى مَن لا يصدِّقونهم برغم معرفته بعدم تصديق النَّاس ما هو إلَّا نوع من العبث، الَّذي ينفي حكمة الله أو ينفي إبطال إرسال الرُّسل، والأفضل من هذا-بحسب رأي المعترضين أو المشكِّكين-أن يزوِّد الله البشر بقلوب وعقول مؤمنة بوجود الله دون الحاجة للرُّسل. ويخلص العامريُّ بعد عرضِه احتجاجات (البراهمة) وغيرهم إلى أنَّ إثبات وجود الأنبياء التَّاريخيِّ يختلف عن إثبات (معقوليَّة النُّبوَّة)، الَّتي أحالنا إليها حين ناقشها، وأثبتها في كتابه: (براهين النُّبوَّة)، الَّذي رجعنا إليه، وسنناقش أدلَّة العامريِّ وبراهينه في مقال الأسبوع القادم، ونحن نرى تلازمًا كبيرًا بين إثبات (معقوليَّة النُّبوَّة) و(إثبات الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء)، ولو لخَّص الدُّكتور العامريُّ (دلائل معقوليَّة النُّبوَّة) من كتابه (براهين النُّبوَّة)، وذكرها في كتابه الجديد قبل الشُّروع في (إثبات الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء) لكانت الفائدة أكبر من الإحالة في هوامش الصَّفحة إلى كتابه القديم حول براهين النُّبوَّة، لا سيَّما أنَّ كتابه: (الوجود التَّاريخيِّ لأنبياء) يقع في (555) صفحة، ولن يتأثَّر بعرض موجز لأبرز براهين النُّبوَّة؛ ولهذا كلِّه رجعنا إلى كتابه: (براهين النُّبوَّة)، ولخَّصنا ما أورده من اعتراضات المعترضين على النُّبوَّة، وردوده عليهم لإثبات معقوليَّة النُّبوَّة، وسوف نناقش براهين العامريِّ على معقوليَّة النُّبوَّة وبراهين وجودها ووجود الأنبياء برغم انتقاله-في معظم الأحيان-من البرهنة على وجود الأنبياء ومعجزاتهم إلى البرهنة على وجود الخالق، وبرغم الفرق الكبير بين البرهنة على وجود الخالق والبرهنة على وجود الرَّسول وصِدْق معجزاته لن نجد بدًّا في مقال الأسبوع القادم من متابعة حديثنا عن آراء العامريِّ حول الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء من خلال من مناقشته في براهين النُّبوَّة، الَّتي ذكرها في الكتاب، وأحال إليها في كتاب آخر.