رحيل عبد الكريم رافق: ابن إدلب ومؤرخ دمشق العثمانية الذي نجا من أيديولوجيا البعث!
العربي القديم – محمد منصور
فقدت الحركة الثقافية والتأريخية السورية والعربية أمس الأول، واحداً من كبار مؤرخي سورية الذي كان له إسهامات تأسيسية مهمة في قراءة وتدوين تاريخ سورية المعاصر وخصوصاً في العهد العثماني. إنه ابن إدلب المؤرخ عبد الكريم رافق، الذي غيبه الموت في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد عمر مديد حافل بالبحث التاريخي والإنجاز العلمي، جاوز الأربع وتسعين عاماً، وأنهاه حادث سير أليم في الولايات المتحدة الأمريكية حيت يقيم.
ويحفظ عشاق دمشق اسم عبد الكريم رافق، بكثير من الشغف والامتنان، فكتاباته عن مدينتهم خلال العهد العثماني، أضاءت الكثير من الجوانب والمعلومات والزوايا المجهولة في تاريخ المدينة وعمرانها، وبعثت الكثير من المعالم التي زالت والتسميات التي تبدلت من النسيان والعدم، ولا أنسى البحث الذي نشره في ثمانينات القرن العشرين في مجلة (دراسات تاريخية)، وكنت في مرحلة الدراسة الثانوية عاشقا للتاريخ، شغوفاً بإرث مدينتي، عن حي الميدان، او (محلة باب مصلى) وكيف حلل البنية الاجتماعية والاقتصادية فيها في القرن التاسع عشر، وذكر اسماء العائلات والرتب الاجتماعية… فوضعني في قلب عالم كنت أتوق لمعرفة تفاصيله يحدوني فضول تتبع جمال الماضي وسحره، حين أرى قبح الحاضر الذي عاشته المدينة في ظل التخريب الهمجي عمرانياً واجتماعياً الذي مارسه نظام الأسد على المدينة, كما لا أنسى دور د. رافق في دراسة تاريخ محمل الحج الشامي، وتلك اللغة العلمية الرصينة التي واكبت رحلة الحج بمختلف جوابنها ومظاهرها التي كانت تشغل دمشق خلال قرون.
ابن الجامعة السورية البار
لأسرة أرثوذكسية متدينة تمتهن العلم، ولد عبد الكريم بن سمعان رافق في مدينة إدلب في الحادي والعشرين من أيار/مايو عام 1931 في أربعينيات القرن العشرين التحق بالمدرسة التابعة للكنيسة الأرثوذكسية في إدلب، وكانت من أفضل المدارس الثانوية في المدينة، ثم تابع تعليمه في الكلية الأمريكية بحلب بين عامي 1947 – 1951.
فور تخرجه تصادف افتتاح قسم التاريخ في كلية الآداب في الجامعة السورية، فالتحق به مسترشداً بهوايته وشغفه بالتاريخ… وسرعان ما غدا الطالب العاشق للتاريخ، معيداً وأستاذاً لامعاً في القسم نفسه خلال سنوات 1956 – 1958.
وبعد نحو ستة عقود من ذلك التاريخ… سيضع ابن الجامعة السورية، حين ستحتفل بعيد ميلادها المئوي، كتاباً عن بداياتها ونموها باعتبارها أول جامعة حكومية في الوطن العربي، سيغدو مرجعاً هاماً لا غنى عنه لكل من يريد أن يعرف تاريخ هذه الجامعة التي كانت رافعة نهوض في سوريا المتطلعة إلى غد أفضل.
من إدلب إلى لندن
في عهد الوحدة بين مصر وسورية اختار عبد الكريم رافق السفر لمتابعة دراسة الماجستير والدكتوراه، بعد أن حصل على بعثة للدراسة في “كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية” بجامعة ساوس في لندن… انتهت مع انتهاء عهد الوحدة ثم الانفصال ثم انقلاب حزب البعث عام 1963 الذي غير موازين الحياة الاجتماعية والسياسية والأكاديمية في سورية.
انصرف عبد الكريم رافق إلى دراسة المرحلة العثمانية، وكان محور رسالته الأكاديمية التي نال بها رسالة الدكتوراه بامتياز هو “ولاية دمشق 1723 – 1783″، التي أشرف عليها المؤرخ بيتر هولت، عضو الأكاديمية البريطانية، وقد اعتمد في مقاربته للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والعمراني لسورية خلال الحكم العثماني على سجلّات المحاكم الشرعية وغيرها… فكرست دراسته مجالا جديداً في استبناط وتحليل السجلات والمصادر المحلية في كتابة التاريخ.. لم يسبقه إليه سوى قلة قليلة من المؤرخين، تميز هو بينهم.
عام 1966 نشر عبد الكريم رافق رسالة الدكتوراه حول ولاية دمشق في القرن الثامن عشر، فيما جاء كتابه (العرب والعثمانيون) الذي صدر في طبعته الأولى عام 1974 وفي طبعته الثانية عام 1993 ليدشن تحولا جديدا في أبحاثه الأكاديمية وقد شكلت كتاباته في ذلك التاريخ إلى حد كبير رؤية مختلفة للرؤى الاستشراقية الغربية للتاريخ العربي، وخصوصا أنها اتسمت بموضوعية شديدة في تحليل التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية خلال الحُكم العثماني لبلاد الشام، بالاعتماد على سجلّات المحاكم الشرعية التي تغطّي سورية ولبنان والأردن وفلسطين.
وقد درس عبد الكريم رافق، أربعمائة سنة من الحكم العثماني وفق تطور العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، ملقيا الضوء على موقف العرب من حاكميهم… وكيف ازداد التباعد بين العرب والعثمانيين في القرن التاسع عشر بانتشار فكرة القومية بين الفريقين، وتعرض العالم العربي لتدخل القوى الأوربية… فكان منصفاً في رؤية المشكلة وتحليل أسبابها ونتائجها… بعيداً عن الغوغائية الشعاراتية التي طبعت الحديث عن المرحلة في أدبيات البعث ومناهج كتّابه.
أستاذ في الجامعات العربية والأمريكية
غدا عبد الكريم رافق أستاذاً في التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة دمشق منذ عام ١٩٧٤م حتى تقاعده العام 2000.. وكان عضوا في لجنة إعادة كتابة التاريخ، وكان عضو الإشراف في مجلة دراسات تاريخية الفصلية التي كانت تصدرها جامعة دمشق منذ عام 1980، وقد أغنى أعدادها بنفائس الدراسات والبحوث.
خلال مرحلة البعث ثم حكم الأسد، أصاب البحث التاريخي في سورية، لعنة الأيديولوجيا الشعاراتية البعثية، وقد جرى تشويه هذا التاريخ ومحاولة لي عنقه، ليناسب مقولات البعث وسياساته وانحرافاته الثأرية تحت راية القومية المريضة… لكن عبد الكريم رافق، كان واحدا من الاستثناءات القليلة التي نجت من هذا المرض رغم بقائه داخل المؤسسة الأكاديمية السورية… فقد اتسمت أبحاثه بلغتها الواضحة بعيداً عن الإنشاء الفائض، والدخول في متاهات الأدلجة، وباهتمامها بالمعلومات المستقاة من الوثائق، وبنزاهتها في قراءة معطيات المرحلة التاريخية وتحليها تبعاً لطبيعة العصر وقيم الزمن الذي سادت فيه، من دون إسقاط قيم عصرنا الراهن وشعاراته عليها.
ومنذ مطلع السبعينات تردد عبد الكريم رافق أستاذ محاضرا زائرا على الجامعة الأردنية والجامعية اللبنانية… وبين منتصف سبعينات وثمانينات القرن العشرين طاف د. رافق الذي كانت شهرته الأكاديمية قد انتشرت عربيا وعالمياً، طاف بين عدد من الجامعات الأمريكية أستاذ زائرا بين عامي 1977-1979 في جامعة بنسلفانيا، وبين عامي 1981-1983 في جامعة شيكاغو، وفي جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس 1984.
وقد حاز على درجة الأستاذية في ويليام وآني بيكرز في دراسات الشرق الأوسط العربية في قسم التاريخ في كلية ويليام وماري، ويليامزبرغ، فيرجينيا (الولايات المتحدة).منذ عام1990م.
برحيل عبد الكريم رافق، تفقد دمشق، كما التاريخ العثماني، واحدا من أساتذة الكتابة والبحث والتحليل الموضوعي النزيه، مثلما تفقد إدلب ومسيحيوها ابنا باراً، حمل في سيرته العلمية الكثير من النهوض والتسامي والألق المعرفي الأخاذ