دلالات وقضايا | اللَّهمَّ إنِّي صائم!
مهنا بلال الرشيد
تختلف دلالة الصِّيام بين بيئة دينيَّة وأخرى، حيث يصوم المسيحيُّون خمسين يومًا لا يتناولون فيها أطعمة محدَّدة، ويصوم بعض الهندوس عن تناول اللُّحوم في يوم السَّبت، في حين يمتنع المسلمون عن تناول الطّعام والشَّراب منذ الفجر حتَّى المغرب طيلة أيَّام شهر رمضان؛ لذلك يشعر المسلم خلال صوم يومه الطَّويل (بالرَّمَض)؛ والأصل في الرَّمض بحسب معاجم اللُّغة: هو شدَّة الحرِّ، ويدلُّ الرَّمض عند الخليل بن أحمد الفراهيديِّ على حرِّ الحجارة من شدَّة حرِّ الشَّمس. وحين فرض اللَّه-سبحانه وتعالى-على المسلمين صيام رمضان دلَّ صوم رمضان على اشتداد الجوع والعطش على الصَّائمين. قال الله تعالى: (شهرُ رمضان الَّذي أُنزل فيه القرآن هُدًى للنَّاس وبيِّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشَّهر فليصمه) [سورة البقرة: 185].
ذكر الطَّبريُّ أنَّ كلمة (شهر) أصلُها الشُّهرة، وجاءت الكلمتان: (شَهْر وشُهرة)، ومن هذا الجذر اللُّغويِّ؛ قالوا: شَهَرَ فُلانٌ سيفَه: إذا أخرجه من غمده فاعترض له من أراد ضربَه، وشَهَر الشَّهرُ: إذا أشهر علينا هلاله أو أطلَّ علينا بهلاله، وأشهرنا نحن: إذا دخلنا في الشَّهر، وأرمَضنا: إذا دخلنا في رمضان.
أمَّا عن نزول القرآن في شهر رمضان فقد ذكر الطَّبريُّ حديثًا عن الرَّسول محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، قال فيه: (نزلت صُحف إبراهيم أوَّل ليلة من شهر رمضان، وأُنزلت التَّوراة لِسِتٍّ مَضَيْنَ من رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان). وأشهر الأقوال عند المسلمين أنَّ القرآن الكريم نزل من اللَّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك إلى السَّماء الدُّنيا، ثمَّ صارت آيات القرآن الكريم تنزل على الرّسول الأمين متفرِّقة بحسب المناسبات خلال ثلاث وعشرين سنة من بعثة النَّبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهل هناك معانٍ وأنواع ودلالات أخرى للصَّوم غير الرَّمض ومكابدة الجوع والعطَش؟
صَومُ الحمام
واحد من أجمل أنواع الصَّوم وأنقاها؛ ذاك الَّذي يصومه أطفال المسلمين رغبة منهم بالتَّعبُّد والطَّاعة والتَّقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى من خلال مشاركة أهليهم فريضة الصَّوم وطقوس رمضان الجميلة، وإن لم يبلغوا سنَّ التَّكليف. حيث يأسرُهم استيقاظ العائلة للسُّحور وبركاته؛ فيؤكِّد الأطفال على أهليهم ضرورة إيقاظهم من النَّوم للمشاركة في سحور أوَّل يوم سيصومونه من شهر رمضان المبارك، وإن لم توقظ العائلة طفلَها أو صائمها الجديد فإنَّها ستعاني من حَنِقه عليها طيلة اليوم الأوَّل من أيَّام الصَّوم، وسوف يصومه الطِّفل رغمًا عنهم، وإن لم يتسحَّر؛ ليُجبر أهليه على إيقاظه على مائدة سحور اليوم الثَّاني، وليُشاركهم فرحة إعداد موائد رمضان وتناول أطعمتها ومشروباتها من الكعك الطَّريِّ المعروك بالسَّمن والتَّمر المهروس إلى شُرْب الماء البارد والعرقسوس والتَّمر الهنديِّ بعد لحظات من دقائق اللَّهفة والانتظار الجميل قبيل أذان المغرب، إن لم يُفسد هذه اللَّحظات الرُّوحانيَّ الجميلة طفل يُجرِّب صوته بإطلاق تكبيرات الأذان قبل موعده بدقيقة أو دقيقتين بسبب انقطاع الكهرباء عن أبواق الأذان في قُرى سوريا ومُدنها.
وقد تحتال بعض الأمَّهات على عِناد طِفلها الصَّغير الرَّاغب بالصَّوم مع أنَّه لا يقوى عليه بسبب الجوع والعطش؛ فتخبره قصَّة (صَوم الحمام) أو صوم فراخ طيور الحمام، الَّتي تصوم حتَّى الظَّهيرة، وتتكفَّل أُمَّهاتها بتجميع أنصاف أيّام الصٍّيام، فتحوك لها من النِّصفين يومًا كاملًا، ثمَّ ما يلبث هذا الطِّفل أن يتمرَّد على أمِّه؛ ليصوم يومه كاملًا، ويجلس على مائدة الإفطار، ويعيش المعاني الحقيقيَّة لقول الرَّسول الكريم: (للصَّائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فَرِح، وإذا لَقي ربَّه فرح بصومه).
صوم الكلاب
ولكن هل تصوم الكلاب؟ لا شكَّ أنَّه عنوان مجازيٌّ قاسٍ قياسًا على عبارة صوم الحمام وعلى نقيض معناها ودِلالتها، وإن صام بعض الأطفال الأبرياء الأنقياء صوم الحمام فإنَّ بعض المجرمين لا يصومون لا عن الطَّعام أو الشَّراب ولا عن الكذب والرِّياء؛ لأنَّ رمضان عندهم موسم للدراما وشهر لاستعراض مواهبهم التَّمثيليَّة. وكذلك لا يصوم بعض المجرمين عن قتل الأطفال الأبرياء؛ كما فعل ويفعل جنود المجرمين (نتنياهو وبشَّار الأسد) مع أطفال سوريا وغزَّة، وكم تحوَّلت موائد الطَّعام إلى مجازر دامية بفعل طائرات هؤلاء المجرمين الخارجين عن كلِّ معتقد أو ملَّة أو دين! لأنَّ صلاة المجرمين صلاة تمثيل كاذبة، وصومهم صوم كِلاب، ونحن-بفعل المجاز والتَّطوُّر الدَّلاليِّ-ننسبُ كلَّ فعل غير جائز أو غير مقبول إلى الكلاب اللَّاهثة دائًمًا؛ فنقول: سِباق كِلاب، ومعركة كلاب، والكلاب لا نعرف جوعها من شبعها، ولا نعرف ارتوائها من عطشها؛ لأنَّها تلهث دائمًا لُهاث المجرمين على المناصب وسُلطة الكراسي، حتَّى وإن اضطرَّ أحد أولئك المجرمين إلى قتل الأطفال الأبرياء من أجل الحفاظ المؤقَّت على سلطته الزَّائلة ناسيًا أو متناسيًا تلك الحكمة الَّتي تقول: (لو دامت لغيرك لما آلت إليك)، ومع هؤلاء تذكَّرتُ قوله سبحانه وتعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثَلُه مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مَثَلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآياتنا فاقصص القَصص لعلَّهم يتفكَّرون). [الأعراف: 176].
اللَّهمَّ إنِّي صائم!
شهد معنى هذه العبارة: (اللَّهمَّ إنِّي صائم) تطوُّرًا دلاليًّا كبيرًا؛ وانفرد سياقها الَّذي ترد فيه بقدرته على تحديد معناها؛ لأنَّ معناها يختلف بين موقف وآخر، فحين تقولها قبل الانطلاق باكرًا إلى عملك تحت حرِّ الشَّمس في يوم عمل طويل يختلف عن معناها حين تحاول ضبطَ نفسك بعد ثورة من ثورات الغضب في موقف لك مع من لا يفهمك أو لا تفهمه؛ أمَّا معانيها المختلفة تمامًا فَلَكَ-عزيزي القارئ-أن تُقدِّره حين تسمع خطابًا لنتنياهو يتحدَّث فيه عن جرائم أطفال غزَّة تجاه جنوده المجرمين أو المستضعفين حسب قوله؛ فتقول: (اللَّهمَّ إنِّي صائم)، ثمَّ تسمع خطابًا آخر لحسن نصر الله يقول فيه: (يمرُّ طريق القدس من حمص والقصير والزَّبداني وحلب)؛ فتقول: اللَّهمَّ إنِّي صائم؛ ثمَّ تشاهد لقاء لبشَّار الأسد مع النِّمس أو باسم ياخور وممثِّلي دراما رمضان السُّوريَّة؛ ليناقش شؤون الأمَّة، أو تسمعه وهو يتحدَّث مع صحفيٍّ روسيٍّ عن ذكائه وبطولة بوتين وقوَّة اللَّيرة السُّوريَّة مقابل غباء الغرب المضحك وانهيار الدُّولار الأمريكيِّ؛ فتقول: (اللَّهمَّ إنِّي صائم)!
وكلَّما شاهدتُ متاجرًا بالدِّين ومُرائيًا بورعه وصومه وصلاته وتديُّنه أمام النَّاس وكاميرات التَّصوير، ولاهثًا كالِبًا ومتكالبًا على لَعاعة الدُّنيا مع جماعة أديولوجيَّته المقيتة، من أدعياء الورع والتَّديُّن الَّذين لا يعرفون شيئًا عن حقيقة الدِّين، تذكّرتُ معهم قول الرّسول الكريم: (رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلَّا الجوع والعطش)، وحين رأيتُ مواعظ بعض منافيخ الفيسبوك والسُّوشال ميديا وبعض تهريجات جواكر المضحكين، وبعض عَبَرات أدعياء الدِّين من المتكالبين مع جماعتهم على لعاعة الدُّنيا قلت: (اللَّهمَّ إنِّي صائم)؛ وضحكت في سرِّي وقلت: لا تشتمهم؛ فهم لا يستحقُّون حسناتك -إن كانت موجودة- فأنت صائم!
فهل صارت هذه العبارة تدلُّ على شتيمة منمَّقة في بعض المواقف؟ لستُ أدري! لكنَّني قرأتُ منشورًا لصديق من أصدقائي في صفحة الفيسبوك، يقول فيه: (عزيزي المؤمن! جملة: اللَّهمَّ إنِّي صائم… تُستعمل بدل المسبَّة مو بعد المسبَّة)!