الانتصار السوري العظيم وثوار الفيسبوك
أنت لم تحررهم أيها المثقف، ولا أنت أيها السياسي الحالم، أو الواهم أو المتسلق أو الوصولي، ولا أنت المنتمي للمنظمات، ولم تحررهم تنظيراتك عن الديكتاتورية وحقوق الإنسان والعلمانية وفصل الدين عن الدولة
أسامة المصري * – العربي القديم
رغم ما يحدث من تصريحات مرفوضة من رجال السلطة الجديدة في سوريا، وبعضها قد يكون مقصودا لجس النبض، وأخرى ربما تتأتى عن عقلية يعيش معها صاحبها في بيئته العسكرية والسياسية المغايرة تماما للإرث التاريخي الثقافي والديني السوري، لكنني في هذا المقال أردت أن أتحدث عن النخب الثقافية والسياسية وردة فعلها على سقوط نظام القتل والكبتاغون.
هل يعرف المثقفون والمعتقلون السياسيون السابقون لماذا كانت فرحة السوريين بلا حدود بعد سقوط الأسد ونظامه؟
هل يعرف المتفذلكون لماذا خرج الملايين من السوريين في حمص وحماة ودمشق واللاذقية وطرطوس احتفالا بالجمعة الأولى من النصر المؤزر على أقذر نظام عرفه التاريخ الإنساني؟
هل يصمت المتثاقفون ثوار الفيسبوك لأيام فقط ريثما يلتقط السوريون أنفاسهم التي انقطعت 54 عاما من حكم العائلة الوسخة؟ هل يستمع هؤلاء إلى أصوات السوريين المرحبين بمحريرهم؟
أنت لم تحررهم أيها المثقف، ولا أنت أيها السياسي الحالم، أو الواهم أو المتسلق أو الوصولي، ولا أنت المنتمي للمنظمات إن كانت مأجورة أو غير ذلك، ولم تحررهم تنظيراتك عن الديكتاتورية وحقوق الإنسان والعلمانية وفصل الدين عن الدولة، ولا أنتم أعضاء الائتلاف المهترئ، ولا منتمو الأحزاب القديمة والجديدة، حررهم أبناؤهم الذين خرجوا من بيوتهم أطفالا صغارا، وعاشوا في المخيمات، فمن كان عمره سبع سنوات عام 2011 عاد مقاتلا بطلا بعمر العشرين .
استغرب كيف لم يستوعب هؤلاء حجم التغيير الذي حصل، فهم امضوا عقودا بانتظار هذه اللحظة وعندما جاءت كانت ردود افعالهم غير مفهومة وغير مبررة بالنوايا الحسنة، فلم تمضِ ساعات قليلة على الفرحة الكبرى بسقوط المجرم وفراره يوم 8 كانون الأول حتى بدأ هؤلاء بترديد الشائعات وكل واحد منهم بدأ بطرح تصوراته وطلباته، وبعض منهم أوهامه التي ظن أنها ستتحقق إذا طرحها على مواقع التواصل الاجتماعي.
نحن السوريين الذين نعيش خارج سوريا، وخاصة من هم مثلي، أي الذين خرجوا مع بداية الثورة خوفا من الاعتقال والسجن لم نعش عذابات السوريين ولا قهرهم ولا مشاهدة أولادهم وأقربائهم يقتلون أو يعتقلون أو بيوتهم تهدم فوق رؤوسهم، ولم نختبأ من قصف الطيران ولا الصواريخ، هل رأيتم بابا عمرو وجورة الشياح والقرابيص في حمص؟
هل رأيتم حي التضامن ومخيم اليرموك وحرستا وداريا وسراقب وكفرنبل وعشرات البلدات التي تحولت بيوتها ليس إلى أنقاض بل إلى تراب؟ هل نستطيع تخيل كم من الصواريخ والقنابل والحقد الذي انهمر على هذه البيوت؟
تعرضنا للسجن لسنوات ليست قليلة لكن لم يحدث معنا كما حدث مع سجناء الإخوان في تدمر، ولا المعتقلين بعد الثورة وسجن صيدنايا، الذي نعرفه، بل تحول لأسوأ سجن في العالم، وتم تجويع وقتل وتصفية المعتقلين فيه حتى اليوم الأخير من سلطة الأسد. نعم تعرضنا للسجن ولسنوات طويلة، وكثيرون سجنوا قبلنا، فالمعتقلون الذين اعتقلوا باسم الإخوان المسلمين وبعث العراق سجنوا في تدمر وقُتل الآلاف منهم برصاص رفعت الأسد، وتحت سياط جلادي تدمر، وكان نصيبنا من مآسي السجناء لا يذكر بالمقارنة مع الآخرين حتى معتقلينا الذين سجنوا في تدمر.
لم أشعر يوما أنني كنت بطلا لأني كنت معتقلا أو معارضا لنظام حافظ الأسد، رغم اننا عندما خرجنا من السجن نظر إلينا بعض الناس كأبطال، لكننا لسنا كذلك. نحن عندما اخترنا العمل بالسياسة وتحدي النظام كنا نعرف أننا قد نُسجن يوما ما، وكان ذلك خيارا بالنسبة لأغلبنا، لكن من سجنهم المجرم الأسد الصغير كانوا أناسا عاديين، كانوا رجالا وأطفالا وشيوخا ونساء خرجوا في مظاهرات طالبوا بالحرية، ولم يتخيلوا أبدا أن مصيرهم سيكون السجن والموت تحت التعذيب الوحشي والتجويع والموت والإعدام بكل أشكاله، ولا يمكن المقارنة بين سجننا والسجون بعد الثورة، فالأطفال اقتلعت أظافرهم، والمعتقلون ماتوا من الجوع واقتلعت عيونهم وأعضاؤهم، والذين نجوا كانوا أبطالاً.
نحن تركنا بلدنا وبحثنا عن الأمان في المنافي، لكن السوريين في المخيمات، ومن بقي تحت سلطة الاحتلال الأسدي الإيرانية، ذاقوا عذابات لا يمكن تصورها، فمن رأي وعاش ليس كمن سمع فما حدث في سوريا طيلة أربعة عشر عاما لا يمكن الإحاطة به عبر نشرات أخبار، ولا بمشاهد من هنا وفيديو هناك، وحتى صور قيصر ليست سوى تفصيلا صغيرا وهامشيا من مأساة راح ضحيتها الآلاف بل عشرات الآلاف من السوريين في المعتقلات وفي المجازر والقصف العشوائي.
بعد قيصر اخترع النظام طرقا جديدة لإخفاء جرائمه، شاهدنا بعضا منها في سجن صيدنايا، ولكن لا نعرف ما حصل مثلا في سجون المخابرات الجوية، التي بزمننا كانت الأسوأ في سوريا.
شاهدنا صورا للمجازر التي ارتكبتها ميليشيات الأسد وإيران الطائفية، لكنا لم نكن من شهدائها، ولم نفقد أولادنا أو أحبائنا في هذه المجازر. هل كنتم أحد الذين قُتل طفله أمام عينيه بغارة طيران أو برميل متفجر، أو اعتقل ابنه وذهب ولم يعد حتى الان؟
هل تعرفون لماذا اعتقلت السيدة التي خرجت بعمر الـ 85 عاما فقط لأنها نصحت صديقتها بأن لا تزوج ابنتها بضابط؟
وهل عرفتم ما مصير أطفال وعائلة الدكتورة رانية العباسي، ومصير عبد العزيز الخير ورفاقه وزكي كورديللو وابنه، ومصير عشرات الآلاف المختفين؟
هل عرفتم عدد المقابر الجماعية، وكم تضم من ضحايا الأسد ومخابراته وميليشياته؟
نحن لم نعش القهر الذي عاشه السوريون تحت الاحتلال الأسدي الإيراني، وكيف تعاملت ميليشيات الأسد وإيران وحزب الشيطان مع أهالي المناطق التي استعادها النظام، لم نرَ كيف استبيحت المدن والبلدات والقرى، وكيف استملك المحتلون بيوت السوريين ونهبوا كل شيء.
عاد عبد الرزاق باريش قبل أيام إلى سراقب مثل بقية من عادوا، لم يجدوا سوى الأطلال، والبيوت التي لا زالت صامدة سرق منها كل شيء، سرقوا حتى أسلاك الكهرباء والأبواب والنوافذ واقتلعوا حتى البلاط.
لم نعش الإفقار والتجويع والذل المتعمد للسوريين طوال هذه السنوات، حتى بات حلم السوري بعض أرغفة الخبز لأبنائه، هذا دون أن ننسى الماء والكهرباء. الصديقة العزيزة سلوى زكزك كانت تسجل يوميا عذابات السوريين وأحلامهم، التي باتت عند بعضهم كسرة خبز في حاوية قمامة، مهما سمعنا وقرأنا لن نكون كمن عاش المأساة. نحن بعد مشاهدة نشرة الاخبار أو قراءة مشاهد سلوى نذهب إلى غرفة نومنا المدفأة، ونذهب إلى أعمالنا يوميا بشكل اعتيادي، فهل تصمتون قليلا احتراما لأرواح الشهداء والذين لم يدفنوا، بعد احترامنا لأمهات الضحايا من المعتقلين اللواتي لا زلن يبحثن بين الجثث عن فلذات أكبادهن أو بين الأوراق المتناثرة، على دليل يؤكد أن أبنائهم في عداد الشهداء؟
هل تصمتون لأيام ريثما ينهي السوريون احتفالاتهم بسقوط النظام؟
هل تصمتون قليلا أيها السادة، فنحن في حضرة الموت والنصر ومشاعر الحزن والفرح التي تجتاح ملايين السوريين.
_____________________________________________________________________
* صحافي سوري