الرأي العام

الحروب الكلامية بين السوريين، من ينهيها؟

تستمر هذه الحرب أياماً معدودة، ثم تأفل بنسيان الطرفين سبب الخصومة الأساسي

ممدوح نجم – العربي القديم

ليس من السهل رصد الحروب الكلامية التي تشتعل بين السوريين يومياً على منصات التواصل الاجتماعي، أقصد بالحروب الكلامية حالة الجدل الحاد، والمشادات اللفظية، والخطابات المتبادلة التي تتسم أحياناً بالتحريض، أو التخوين، أو حتى الكراهية، سواء عبر الفضاء العام أو في النقاشات السياسية والإعلامية.

هذه الظاهرة تعكس حالة الانقسام المجتمعي والسياسي والفكري التي تعيشها سوريا منذ سنوات، وتزداد حدتها وشراستها في الفترة الحالية.

لكن الأمر الملفت أن هذه الحروب التي قد تبدأ بمنشور على منصة فيسبوك أو مقطع فيديو على يوتيوب، تتطور إلى أخذ ورد واستحضار لأحداث ماضية ودحض لافتراءات أو تأكيد لمعلومة.

تستمر هذه الحرب أياماً معدودة، ثم تأفل بنسيان الطرفين سبب الخصومة الأساسي، ويترك جيش المتحاربين النزاع لينشغلوا بحرب أخرى أكثر حداثة وأهمية.

الفرق بين الخلاف والاختلاف

لعل من المهم هنا توضيح الفرق بين “الخلاف” و”الاختلاف” في اللغة، يفرق أهل اللغة بينهما:

 الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفاً والمقصود واحداً، وهو ما يستند إلى دليل، ولهذا نسمع دائماً العبارة المشهورة: “الاختلاف لا يفسد للود قضية”.

أما الخلاف فهو أن يكون كلاهما مختلفاً، وهو ما لا يستند إلى دليل. هذه الدقة اللغوية هي مفتاح لتمييز ما يستحق الجدل وما لا يستحقه.

أسباب الحروب الكلامية بين السوريين

لا يزال السوريون يعيشون حالة مأزومة من الفقد، وجراحهم مفتوحة، ورياح التغيير التي تهب من كل اتجاه جديدة وغير واضحة المعالم. عقود من ضعف الدولة، وسطوة الميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية، يحصد نتائجها السوريون يومياً على منصات التواصل الاجتماعي.

 هذه المنصات بدل أن تكون فضاءً للتحاور وتبادل الآراء البناءة، تحولت إلى ساحات قتال افتراضية، تزيد من عمق الشروخ بدلاً من ردمها.

يكمن جزء كبير من هذه الحروب الكلامية في تراكم الإحباط والألم من سنين الحرب الأربعة عشر عاما الطويلة، وتعاظم المعاناة الإنسانية سابقا في مخيمات النزوح والتشرد في بقاع الأرض الواسعة، تتجه الأنظار نحو الداخل، حيث يصبح الآخر السوري، أياً كان انتماؤه أو رأيه، خصماً محتملاً.  

كل الأمور السابقة تدفع الكثيرين إلى تفريغ شحنات الغضب في الفضاء الرقمي، وغالباً ما يكون ذلك بأسلوب حاد وغير بناء. ولا يمكن إغفال دور الأيادي الخفية التي تستثمر في هذا التشرذم، من خلال بث الشائعات والأكاذيب، وتغذية النعرات الطائفية والمناطقية، بهدف إضعاف النسيج المجتمعي السوري وتمزيقه أكثر.

فالحروب الكلامية بين السوريين، آثارها كثيرة، فهي انعكاس لأزمة عميقة في الهوية الوطنية، وتزيد بالضرورة من حالة الانقسام المجتمعي الحالية، وتعيق بناء الدولة السورية الجديدة.  والشحن الطائفي والمناطقي جراء هذه الحروب الكلامية ينتج عنه تكريس مفهوم الأقليات على حساب المواطنة، وإضعاف الرابطة الوطنية السورية الجامعة الموحدة لكل أبنائها.

أمثلة حية من ساحة الجدل

يُروى أن الإمام الشافعي قال: “ما ناظرتُ جاهلًا إلا غلبني، وما ناظرتُ عالمًا إلا غلبته.” وهذا يؤكد أن الحروب الكلامية أو الخصومة مع من لا يستحق ليست إلا إهداراً للوقت دون فائدة.

الاقتباس السابق يعكس فهماً عميقاً لمفهوم الخصومة، فليس كل خلاف يستحق العناء، ولا كل خصم يستحق الرد.

العداء مع من لا يليق بمقامك هو انتقاص منك قبل أن يكون ضرراً عليه. لهذا، كان العرب يختارون خصومهم بعناية، لأن الخصومة تضعك في ميزان واحد مع من تعاديه.

شهدنا مؤخراً على فيسبوك حروباً كلامية يدلل فيها المتخاصمون على كلامهم بالحجة والبرهان، وقد يستعملون تصاميم مصنوعة بألوان براقة ليثبتوا حججهم بالمنطق والعقل.

على سبيل المثال، ينشر الناشط السياسي أحمد الصالح دائما منشورات بشكل شبه يومي يدعو فيها لفك الأسر عن الشيخ عصام بويضاني المعتقل في دولة الإمارات العربية المتحدة. يدلل الصالح على أن الشيخ بويضاني صاحب فضل في توحيد صف السوريين منذ بداية الثورة إلى وقت حل الفصائل الثورية واندماجها في الجيش السوري الجديد، فلم يكن الشيخ بويضاني بحسب الصالح إلا سبب توافق بين عموم الشعب السوري.

ما أن انتهى الناشط أحمد الصالح من كلامه، حتى برز له الدكتور عبد السلام طالب ليكذب قوله ويفند مزاعمه.

 رد الدكتور طالب بمنشور طويل عنونه “الرد الشافي في من دافع عن البويضاني”، ليكمل حديثه بأدلة وبراهين كثيرة للنيل من الشيخ عصام بويضاني.

لست هنا في مقام التوضيح والرد على فحوى هذه الخصومة، فهدفنا هو تبيان أسباب هذه الحروب وسبل حلها بطرق عملية واضحة.

 الأدلة على الحروب الكلامية كثيرة لا تعد ولا تحصى، وأتوقع نهايتها قريباً عندما ينشغل الشعب السوري بالبناء وتطوير مؤسسات الدولة السورية الجديدة.

حلول لإنهاء الحروب الكلامية

هذه العوامل مجتمعة، تحول النقاشات البسيطة إلى معارك شرسة، تنتج عنها قطيعة وتجريح، وتزيد من غربة السوريين عن بعضهم البعض، وتعمق من إحساسهم بالعجز والضياع. فكيف يمكن الخروج من هذه الدائرة المفرغة، وهل من بصيص أمل في إنهاء هذه الحروب الكلامية التي لا تبقي ولا تذر؟

فنحن بحاجة لإنهاء الحروب الكلامية بين السوريين إلى أفق سياسي يحترم السيادة الوطنية، ويؤسس لسلام بين مكونات الشعب السوري قائم على العدالة الانتقالية.  ويقع على عاتق المؤثرين والناشطين والنخب الثقافية والإعلامية في الفترة الحالية، تبني خطاب وحدوي يركز على المشترك السوري بدلاً من الاختلافات، وبناء جسور الثقة بين السوريين أجمع. دون هذه الخطوات ستظل سوريا أسيرة دوامة  تستنزف طاقاتها وتبعدها عن أي أمل في التعافي.

فالحل إذن لكل يكمن في تعزيز ثقافة الحوار وتجريم خطاب الكراهية والطائفية، وبناء مؤسسات عدلية وإعلامية مستقلة قادرة على ضبط الخطاب العام.

زر الذهاب إلى الأعلى