علم النفس والسلوك

من قفص الطاعة إلى أفق الضمير: امتحان الفضيلة بين الفرد والجماعة

لا فضيلة حقيقية دون امتحان، ولا امتحان بمعزل عن حرية الاختيار

براء الجمعة * – العربي القديم

في الليلة التي تتشاجر فيها المصابيح مع العتمة، يقف الإنسان أمام مفترق طريقين: أحدهما مُعبّد بالخطى المألوفة، محفوف بعيون القبيلة وأحكامها، والآخر وعر، مظلم، لا يضيئه إلا قنديل صغير يتأرجح في يده المرتجفة. في الطريق الأول، الفضيلة سهلة، ممهورة بختم الامتثال: يكفي أن يساير المرء قوانين الجماعة، أن يكرر ما قيل له، وأن يتجنب ما حُرّم عليه. أمّا في الطريق الثاني، فإن الفضيلة لا تُمنح، بل تُختبر. هنا فقط يواجه المرء السؤال العاري: هل اخترت أن تكون فاضلاً، أم جرفتني الجماعة إلى فضيلة بلا امتحان؟

هذه اللحظة ـ لحظة الانفصال عن يقين الجماعة ـ هي أخطر لحظة في سيرة الإنسان. إنها اللحظة التي تُعاد فيها كتابة معنى الأخلاق: من عادة موروثة إلى خيار شخصي، من قيد خارجي إلى ضمير داخلي، من تقليد القبيلة إلى حرية الفرد. ولعلّها اللحظة التي تكشف أن الفضيلة ليست في الانصياع، بل في الشجاعة: شجاعة أن تختار الخير بينما الشر متاح، وأن تلتزم بالعدل بينما الغواية تدعوك.

الفضيلة والامتحان: حين يلتقي الأخلاقي بالنفسي

لا فضيلة حقيقية دون امتحان، ولا امتحان بمعزل عن حرية الاختيار. هذه المعادلة البسيطة، التي قد تبدو بديهية، تهزّ أركان ما تربّت عليه المجتمعات، خصوصاً في السياق العربي. فغالباً ما يُختزل السلوك الأخلاقي في “المطابقة” مع النظام الاجتماعي: طاعة الأب، الامتثال للدين كما يشرحه الفقيه، احترام الدولة كما تريد السلطة. لكن علم النفس الاجتماعي يُشرِّح هذه الصورة: فقد أظهرت تجارب ستانلي ميلغرام حول الطاعة مثلاً، أن الإنسان قد يرتكب أقسى الأفعال فقط لأن سلطة خارجية أمرته بها. الطاعة هنا ليست فضيلة، بل إلغاء للذات. كذلك تجارب سولومون آش عن التوافق الاجتماعي كشفت أن الفرد قد ينكر ما يراه بعينيه لمجرد أن المجموعة قالت العكس.

بهذا المعنى، فإن “الفضيلة” حين تكون محض امتثال خارجي ليست إلا صورة زائفة: إنها فضيلة الجماعة لا فضيلة الفرد. فما أسهل أن يكون المرء “فاضلاً” حين تكون كل قوى السلطة مسلطة عليه لتضمن التزامه! لكن أين يُختبر جوهر الأخلاق؟ يُختبر في اللحظة التي تغيب فيها العيون الرقيبة، حين يتساوى الإغراء والتهديد، حين يكون الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات. لننظر مثلاً إلى الموظف الذي يلتزم بقوانين الشركة الصارمة، ولكنه لا يتردد في التلاعب بالقواعد حين لا يكون المدير موجودًا. هنا ينكشف أن فضيلته كانت طاعة للمدير، لا قناعة بالنزاهة.

من قيد خارجي إلى قناعة داخلية

علم النفس يميز بين الضبط الخارجي و”الضبط الداخلي“. الأول يعني أن الفرد يضبط سلوكه بدافع الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب، بينما الثاني يعني أن الفرد يستبطن المعايير ويجعلها جزءاً من ذاته. في السياق العربي، نرى كيف تُربى الأجيال على الضبط الخارجي: الطفل “مؤدب” لأنه يخاف من عصا الأب، أو لأن المعلمة تراقبه، أو لأن كلام الناس لا يرحم. لكن حين يبتعد عن عين الرقيب، ينكشف المخبوء: هل الفضيلة هنا قناعة أم مجرد تقية اجتماعية؟

ولعلّ هذه المفارقة هي التي تفسر ازدواجية السلوك في مجتمعاتنا: حيث يكثر التظاهر بالتقوى بينما تُرتكب الخطيئة في السر، وحيث تُرفع الشعارات عن النزاهة بينما يعمّ الفساد في الممارسة. الامتثال الاجتماعي يصنع واجهة، لكنه لا يُنتج ضميراً. الضمير لا يتشكل إلا عندما ينتقل المرء من الطاعة المفروضة إلى الاختيار الحر. إن هذه الممارسات لا تنتج أفراداً ناضجين أخلاقياً، بل تُبقي الإنسان في مرحلة “الطفل المطيع” الذي لا يمكنه أن يتخذ قرارًا مسؤولًا بمعزل عن الوصاية.

الفلسفة الأخلاقية: بين كانط والوجوديين

من هنا يمكن أن نستدعي الفلسفة. كانط يرى أن الفعل الأخلاقي لا يُعد فاضلاً إلا إذا صدر عن “واجب” داخلي، لا عن ميل أو خوف أو مصلحة. الفضيلة الكانطية هي أن تختار الخير لذاته، لأنك تحترم القانون الأخلاقي الذي يمليه عليك عقلك الحر. في المقابل، يذهب الوجوديون، من سارتر إلى كيركغارد، إلى أن الأخلاق لا تكون إلا في لحظة الاختيار الحر وسط القلق والاحتمال. أن تكون فاضلاً بينما الرذيلة ممكنة أمامك، هذا ما يمنح الفعل قيمته.

حين نقارن هذا بالفكر الاجتماعي العربي، نجد أننا غالباً ما نخلط بين “الطاعة” و”الأخلاق”. الطاعة مفيدة للجماعة، لكنها ليست دليلاً على الفضيلة. الفضيلة الحقيقية تُختبر في عزلة الضمير، في قدرة الإنسان على أن يقول “لا” للرذيلة حين لا أحد يراه، وعلى أن يقول “نعم” للخير من غير خوف ولا طمع.

المجتمعات العربية: سطوة السلطة على الأخلاق

في السياق العربي، يوجد سلطات متعددة: سلطة العائلة التي تُحدد “السمعة” و”الشرف”، سلطة القبيلة التي تُقرر المسموح والممنوع، سلطة الدين التي تُفسَّر على ألسنة رجال يتحكمون بالفتوى، وسلطة الدولة التي تحتكر الطاعة باسم القانون. أمام هذه الشبكة، يختنق الاختيار الحر. الأخلاق تتحول إلى قفص ذهبي: من يخرج عنه يُتهم بالانحراف، ومن يبقى فيه يُوصف بالفضيلة، حتى لو كان في داخله خراب.

من هنا نفهم لماذا يصعب على الفرد العربي أن يجرّب حرية الاختيار الأخلاقي: لأن الجماعة سبقت وخطّت له مساراً، وأقنعته أن الفضيلة لا تُنال إلا من خلالها. لكن ماذا لو سُلبت هذه الجماعة سلطتها فجأة؟ ماذا لو تُرك الإنسان وحده أمام إغراءات الرذيلة؟ عندها فقط يظهر إن كان فاضلاً حقاً أم مجرد تابع مخلص لقوانين غيره.

من الأخلاق المفروضة إلى أخلاق الضمير

في التحليل الأخير، الفرق بين “الأخلاق المفروضة” و”الأخلاق المختارة” هو الفرق بين العبودية والحرية. الأخلاق المفروضة تُبقي الإنسان طفلاً تحت وصاية الجماعة، أما الأخلاق المختارة فتمنحه النضج والاستقلال. هذا التحول هو ما يجعل الفضيلة أصيلة لا مُصطنعة.

إنها ليست دعوة إلى الفوضى أو إلى إنكار قيمة الجماعة، بل إلى إعادة الاعتبار للضمير الفردي. فالمجتمع لا يزدهر حين يُساق الناس بالعصا، بل حين يتشارك أفراده قناعة حرة بالعدل والخير. هنا يصبح الامتثال الاجتماعي نتيجة طبيعية لقناعات شخصية، لا قناعاً يخفي هشاشة الداخل. وربما يكون التقدم الحقيقي لأمتنا مستحيلاً ما لم يتحول الأفراد من طاعة عمياء للسلطة إلى الالتزام بقناعة الضمير الواعي.

من الصراع إلى الانسجام

لعلّ التحدي الأكبر ليس أن يختار الفرد فضيلته بمعزل عن الجماعة، ولا أن تفرض الجماعة وصايتها على الفرد، بل أن يُبنى جسرٌ بين الضمير الفردي والهوية الجماعية. فالمجتمع الذي يرفض حرية الفرد يزرع نفاقًا يتخفى تحت قناع الفضيلة، والفرد الذي يقطع كل صلة بجماعته يتحول إلى كيان معزول، عالق في فراغ أخلاقي لا سند له. إن الفضيلة لا تزدهر إلا حين يلتقي صوت الضمير الحر مع نبض الجماعة، لا في علاقة قسرية ولا في افتراق عدمي، بل في انسجام يُبقي الحرية حية، ويجعل الانتماء معنى لا عبئًا. تلك هي الضرورة الأخلاقية لمجتمعاتنا العربية التي طالما مالت إلى تغليب الجماعة على الفرد: أن تُفسح المجال لاختيار حر، وأن تتسع لضمير مختلف دون أن ترى فيه تهديدًا. فالامتحان الحقيقي ليس أن يظل الفرد في مواجهة أبدية مع الجماعة، بل أن نكتشف جميعًا كيف نصوغ أخلاقًا مشتركة تُصان فيها حرية الفرد دون أن ينهار نسيج الجماعة. وحينها فقط، تتحول الفضيلة من شعار اجتماعي إلى عهد إنساني: عهد يتقاطع فيه الفردي والجماعي، ليمنحا معًا للأخلاق جذورها الراسخة وأفقها الرحب.

____________________

 *مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

زر الذهاب إلى الأعلى