الرأي العام

مقامات أمريكية | كيف يختفي البصل؟

د. حسام عتال

“‏هذا الحقير ترامب وشرذمته، لقد أخافوا العمال المكسيكيين بخطابهم الكريه، فلم يحضروا اليوم للعمل.” هذا ما قاله لي جاري مزارع البصل هذا الصباح البارد ‏وهو يفرك يديه. كنت قد أوقفت سيارتي المتجهة نحو العمل عندما رأيته يلوّح بذراعيه عبر الحقل.

– ماذا أفعل الآن، هل يمكنك مساعدتي؟ سألني.

– كيف؟

– فقط قُدْ جرار الحاوية بمحاذاتي. أنا سأعمل على الحصادة بشكل مواز لك. حافظ على نفس سرعتي.

  • ‏لحظة دعني أخبر العمل. اتصلت بالمشفى:
  • ما كمية العمل اليوم؟

– متوسطة

  • سأتأخر قليلا إذاً وسأبقى لأنهي عملي بعد الدوام، أرجو أن تخبري زملائي.
  • أوكي.

‏ غيّرت حذائي ببسطار المشي ذو العنق الطويل الذي احتفظ به في صندوق السيارة. قُدت جرار الحاوية ببطء، بينما المزارع شغّل الحصادة التي تخرج البصل من الأرض وترميه عبر زراع طويل في الحاوية خلف الجرار.  خلال ساعتين كنا قد انتهينا من حصاد دونمين من الحقل وملأنا ٨٠ صندوقاً خشبي بكمية ٤٤ طن من البصل الطازج.

‏أشعلنا سيجارتين ونحن نشرب القهوة الساخنة ونحن ننظر للحقل المنبوش. سألته:

– أخبرني الآن، إذا كان يمكن حصاد ٢٢ طناً من البصل من كل دونم، كيف يمكن لأي بلد فيها أراض زراعية كافية أن تعاني من نقص في البصل؟

‏نفخ دخان سيكارته في الهواء على دفعات، فاختلطت رائحته برائحة البصل وطين الأرض الرطب، وقال:

– يمكن أن يحصل ذلك إن لم يكن هناك تخطيط جيد.

 – كيف ذلك؟

– زراعة البصل تتم خلال عامين. ‏في العام الأول تزرع البذرة و‏تصبح بصلة بحجم الليرة المعدنية (١.٥ سم) في نهاية فصل الصيف. يحب عندئذ إخراج هذه “الليرات” من الأرض، وغسلها، وحفظها في مكان جاف.  في بداية فصل الصيف القادم، تزرع البصلات الصغيرات مرة ثانية في الأرض، وتنمو لتصبح بصلاً ناضجاً بالحجم الذي تراه.

– هنا المشكلة إذاً.

– أي مشكلة؟

– مشكلة البصل.

– هل تمزح معي؟

 – لا، لا أمزح معك، لقد حصل فعلاً نقص في محاصيل البصل في سوريا السنة الماضية، وصار سلعة نادرة ومرتفعة السعر.

–  هذا غريب.

– لا غريب سوى الشيطان.

 – ماذا تقول؟ لا أفهمك اليوم.

– أوووه انسَ الموضوع، إنه مثل سوري قديم.

 – ماذا تقصد بالشيطان.

– أقصد القائمين على امور البلد في سوريا، يفشلون حتى بتدبير سنتين متتابعتين من العمل.

– هذا ليس شيطانياً، الشيطان أذكى من ذلك.

– معك حق، لا اعرف وصفاً افضل – غباء – فساد – عدم كفاءة – قصور عقلي…

– كفاك، كفاك، أرى أنك قد بدأت بالغضب، اذهب إلى عملك الآن وشكراً لمساعدتك. أخبرني متى احتجت مساعدة مني.

– احتاج لبعض التصليحات في السور، سأتصل معك عندما أبدأ بها.

  • اتفقنا.

 اتجهت إلى سيارتي، في الجو لسعة البرد الخريفية قد خفت قليلاً واصبحت لذيذة، القمر بدرٌ وقد ارتفع فوق الشجيرات في الأفق، لونه عسلي يسمونه قمر الحصاد harvest moon، عبق رائحة البصل الحلوة لا زالت تملأ الجو.

‏وصلت مكتبي وبدأت العمل فوراً. كمية العمل أكثر من المتوسط.  ما قصة هذه السكرتيرة، يبدو أن عدم الكفاءة ليس حكراً على مسؤولي سوريا كما يبدو. سأمضي نصف الليلة هنا وسأتعشى سندويشاً بارداً، دون طعم خاص، من كافتيريا المشفى.

دخلَتْ زميلة لي المكتب تريد نقاش حالة مستعصية. وقفت في منتصف الغرفة، استنشقت الهواء مرتين، حكّت رأسها:

– ما هذه الرائحة الغريبة؟ سألتني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى