أرشيف المجلة الشهرية

رياض الترك في فيلم (ابن العم) لعلي الأتاسي: أن نكون مسؤولين عن وجودنا!

بقلم: إيمان الجابر

(كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان عدا شيء واحد، وهذا الشيء الواحد هو آخر شيء من الحريات الإنسانية، وهو أن يختار المرء اتجاهه في ظروف معينة، أي أن يختار المرء طريقه). يقول (فيكتور فرانكل) الطبيب النفسي النمساوي، وأحد الناجين من المحرقة، صاحب الكتاب الشهير (الإنسان يبحث عن المعنى). خلال مشاهدة، فيلم (ابن العم) حضر هذا الكتاب إلى ذهني، وحضر معه شرحه المفصل عن معنى الوجود في الحياة، وبالنسبة لي أفهم أن الحرية هي جوهر هذا الوجود ومعناه، إذ لا معنىً يتحقق بدونها. تلك الحرية الداخلية التي تنبع من الضمير الحي، لتضيء لنا الطريق نحو الهدف والغاية من الوجود، وبالتالي لا نكون مجرد أرقام لزيادة تعداد السكان.

صراع بين رجلين

ما أردت أن أراه في هذا الفيلم لمخرجه (علي الأتاسي)، ربما لم يكن هو ما أراده منه، مدفوعة برغبة حقيقية؛ لمعرفة وفهم كيف استطاع (رياض الترك) إقناع نفسه بمتابعة الحياة في زنزانة منفردة، كيف حافظ على عقله، والسيطرة على عاطفته، وأحاسيسه بذاته كإنسان من لحم ودم، لم يستنجد بالصراخ والبكاء، والطرق على الباب طلباً للعفو من الديكتاتور، أو المطالبة بالنقل إلى مكان آخر أقل قسوة، (حتى الجنة بدون ناس تفقد معناها).

أن تدفن حياً في عزلتك القسرية، رافضاً موتك أمام نفسك، عليك أن تجعل المكان يتسع، والسقف يرتفع، وتجبر الهواء السيئ على الخروج من فتحة السقف، ليعود إليك هواء نظيفاً يليق بهذه الروح العظيمة.

“أصبحت أسيراً عند هذا النظام، خرجت من اللعبة السياسية، بين الحاكم والمعارض”، يتحدث ابن العم بندية، عن سجانه، إنه صراع بين رجلين، أحدهما من الآخر، أن يعيد صياغة نفسه؛ ليتلاءم مع مشروعه الديكتاتوري. إنه يمتلك القوة، (الجيش، المخابرات، الحزب الحاكم)، فأراد البلد كاملاً بأهله. (هذا العالم انتهى، وكأنك مت، أنت الآن في العالم السفلي، أهم خدمة تقدمها للعالم الخارجي، ألا تستسلم لهذه السلطة).

كيف أمكنه إغلاق أبواب الذاكرة على العالم الخارجي، بكل ما فيه من مباهج وآلام تشدنا إليه، وتجعلنا ننصاع، لنبقى فيه برفقة الأهل والأحبة، وتلك الأمكنة التي خلقنا فيها لنعيش فيها؟ (كي أمنع السجان من استغلال عواطفي، كان لابد من كبتها، غيري لم يقدر)، احتمال الألم النفسي والجسدي عند الناس متباين، نحن من لحم ودم، وعواطف وأعصاب.

ذات مرة دخل السجان إلى (الحمام)؛ لمنعك من قضاء حاجتك! قلت لي، إنك بكيت.

 “بكيت من غضبي، لم أسمح له بإذلالي، ضربته بكل ما طالته يداي، وكان موجوداً في المكان، فهرب، كان عليهم التعلم من الفلاحين كيف يحترمون حتى حيواناتهم عند قضاء الحاجة”، أجاب ابن العم موضحاً.

اليأس هو معاناة بلا معنى، طالما لم يستطع الفرد إيجاد معنى في يأسه، سيغرق فيه، وفي حالات معينة يصل إلى الانتحار، ولكن في اللحظة التي يرى فيها لمعاناته معنىً، يمكن له تحويلها إلى إنجاز على المستوى البشري، يمكن تحويلها إلى انتصار شخصي) يقول فرانكل في أحد لقاءاته.

إنهم يستمتعون بتعذيبك

في الأسر لم تعد لابن العم مهمة يقوم بها، ماعدا مهمة واحدة وحيدة، “ألا أساعد النظام على إعطائه أي شيء يمكنه الاستفادة منه، ضد حزبي، كمعلومات أو كموقف سياسي، خارج هذه النقطة، أنا صفر”، يوضح لنا ابن العم.

إذاً عليه أن يقبل جحيم هذا النظام، مقابل التمسك بموقفه، إذ لا مفر من التأقلم مع هذا الجحيم المفروض عليك كعقاب عبثي رهيب، لا يقدم للنظام إلا مزيداً من البشاعة، لتكريس صورته وجبروته وتأكيد قبضته الحديدية.

“كيف فعلته؟” يسأل صاحب الفيلم.

“فعلته.  ليس فخراً، ولا بطيخاً وجبساً، هذا ما قسمه الله لي، الحمدالله”.

هل كان التعذيب قاسياً في بداية الاعتقال؟

“كل تعذيب قاسٍ” يمتلكون الجسد، يرفعونه، يمددونه، يعلقونه، يضرب ويهان بكل الوسائل الممكنة، لا تملك حق الدفاع عنه، ثم يرمى في الزنزانة ليرتاح، ليستعد لحفلة تعذيب تالية، إنهم يستمتعون بذلك.

حتى حبات الزيوان صار لوجودها في صحون الشوربة معنى، ألم تنقذ إنساناً من جحيم وحدته القسرية في زنزانة مساحتها لا تتجاوز المترين طولاً، وعرضاً وارتفاعاً. 

حبات سوداء صغيرة، ذاب العدس وبقيت هي صلبة، عصية على المضغ، استوقفها بلسانه، أخرجها، غسلها ونشفها، وبدأ في تجميعها حتى استقرت على تلك القماشة البيضاء التي رسم عليها أحلامه، وكانت وسيلته لتحقيق المعنى من أجل البقاء حياً، “حبة إلى جانب حبة من حبوب الزيوان السوداء، أصبح لدي قلم، أكتب فيه وأرسم إلى ما لانهاية”، وتحسب أنك أصبحت رقماً بلا اسم، وفيك انطوى العالم الأكبر.

لا.. لا… لا…!

يأتي السؤال الذي، آلمني مجرد طرحه؟ في بداية الفيلم، فكان الجواب (لاء).

لا، كبيرة بحجم الثمن الذي دفع، يصل صداها لأبعد مكان في روح سامعها، (هذا حقي، رجع لي حقي في الحرية). عندما يمنحك سجانك العفو، فأنت مازلت سجيناً لديه، ولكن بطريقة أخرى، ما سُرق منك لا يعني عودته إليك، فلا تراها خطوة إيجابية لتكون ممنوناً لها، سنوات العمر، التي التهمتها جدران الزنزانة الضيقة، من يعيدها إليك؟

هل خرج السجن منك؟ “لا، مازال في داخلي، السجن رمز للعبودية، وهي مازالت قائمة في بلدي”، يؤكد ابن العم لسائله.

وعندما يُسأل إن كان يشعر أنه قصّر مع أولاده؛ بسبب السجن وغيابه الطويل؟

كان لابد من تكرار، لا لا لا، وكأن هذا السؤال قد طُرح كثيراً عليه، أو ربما هو من طرحه على نفسه، ولأنه شخصية منسجمة مع ذاتها، ولا تعيش تناقضات بين ما يؤمن به ويقوم بفعله، كان جوابه حاسماً: “لست أنا من سجن نفسه، لا أحمل أية مسؤولية إلا إذا أنت اعتبرت، أنه كان عليّ أن أوقع، وأفعل ما أراده النظام، ثم الذهاب إلى البيت، إذا كان هذا هو المطلوب مني، فسأعتبر نفسي مجرماً في حقهم”.

ولكن ليس هذا دوره، صادق مع ذاته، ما يؤمن فيه يقوم بفعله، كان مسؤولاً عن وجوده وبذلك تحقق المعنى منه.

من النادر أن تجد سياسياً، صادقاً، مؤمناً في حق الإنسان في الحياة بحرية وكرامة، قولاً وفعلاً: “أنا بدون السياسة أكون تعيساً”، لذلك أصبح ابن العم الذي أنجز هذا الفيلم عنه، وأنا بعد سنوات طويلة أكتب عنه.

 “لا أملك ثروة، لأورثها لبناتي، على الأقل، سأترك لهم اسم أب له سمعة طيبة”. لقد ترك لهم ولنا وللإنسانية، تلك التجربة التي يجب أن تُدرّس؛ لتعرفها الأجيال القادمة وتتعلم منها.  

ابن العم الذي يصف نفسه بالإنسان الجاف، الذي يخجل من تقبيل زوجته عندما يعود إلى البيت، هو نفسه قال عندما أسمع هذه الأغنية أذوب فيها (يا جبل البعيد خلفك حبايبنا)، وهو نفسه يجد من الاستحالة في بلد مثل سورية أن يحقق الجمع بين الأب والسياسي بشكل عادل ومتوازن، في ظل حكم البعث.

هو نفسه الذي ارتبك عند سؤاله، إن كان يرغب بحضور بناته لمحاضرته؟ هنا تجلت أزمة الجمع بين الأب والسياسي، من خلال عدة أجوبة، أولها “لا”، طبكرة بقروها”، تنحى السياسي ليحضر الأب للحظة ثم عاد، ابتسامة شاحبة تعلو وجهه، لها صوت ضحكة ساخرة مقموعة، تختزل كل المعنى المراد إيصاله، فبدا ابن العم نموذجاً ل(السهل الممتنع)، بقدر بساطته الظاهرة، يخفي شخصية شفافة، حساسة، خجولة من أية لحظة تناقض يعيشها، بين ما يؤمن به ويعيشه، لذلك كان لابد من جواب أخير يتعلق بحرية بناته في اتخاذ قرار الحضور من عدمه.                  

لقد أخذت حقي

سيعيش ابن العم عمراً أطول من عمر سجانه، سيأتي يوم ويخرج من سجنه حراً كريماً، سيعيش ويشهد ثورة شعبه ويشارك فيها، داعماً لها بوجوده المعنوي الأبوي، وفي تلك اللحظة سيقول: (لقد أخذت حقي)، وسيكون راضياً، إن سمحت له الحياة الكريمة معه، بأن تكون له مساحة صغيرة على رصيف ضيق، ليقف ويصفق لمن يهتفون للحرية، حينما انتصرت أول مرة، حين كسرها حاجز الخوف في مملكة الصمت، وحينما تنتصر بتحقيق هدفها “عشت زيادة، كان يجب أن أموت تحت التعذيب، منذ زمن طويل”، كل هذا الامتنان لهذه الحياة القاسية، الصعبة، وهذا الرضا الذي تتمتع فيه هذه النفس الفريدة  المتفردة، قد حققت كل المعنى من وجودها.

لقد حُرم ابن العم لمدة طويلة من فرصة مزاولة عمله محامياً، من الاستمتاع بحياته زوجاً، من القيام بواجبه أباً، ومن حياته الاجتماعية، تحقيق طموحه بوصفه سياسياً، فرضت عليه المعاناة الرهيبة في سجنه الانفرادي، قبل التحدي لمعاناته بشجاعة مذهلة، فكانت هذه الآلام هي ما منحت لوجوده   معنىً، حتى اللحظة الأخيرة، يا له من وجود فريد، حمل في طياته كل المعنى!

لابد من توضيح على الهامش:

لم يسعفني الحظ بمشاهدة فيلم (ابن العم) الذي أخرجه محمد علي الأتاسي، حين عرضه بأماكن محددة لم تكن متاحة لي، سنة ٢٠٠١ ولم تكن الآراء التي سمعتها عنه مشجعة، لمحاولة العثور عليه ورؤيته، ولكن كان لدي شعور خفي، مثل كل السوريين أن مساحة الحرية زادت، هكذا اعتقدنا، يمكننا اليوم صناعة أفلام حقيقية.

الرؤية الفنية للفيلم

لا يكفي أن تتوفر لديك شجاعة الأسبقية، لتقوم بمهمة، تحقيق فيلم وثائقي عن شخصية سورية معارضة لها أثر عميق في وجدان السوريين، كرياض الترك، ولا يكفي التبرير في بداية الفيلم، إنه تورط في صناعة هذا الفيلم؛ بسبب حبه وإيمانه بهذه الشخصية؛ فقد كان يستحق منه منحه وقتا لكتابة سيناريو جيد محكم، مترابط، ونحن لدينا شخصية درامية بامتياز. قد يفسر بعضهم، أن في هذه التجربة نوعاً من الانتهازية للتجريب وفيها أيضاً نوع من الحرق، وقد تفسر بأنها مبادرة شجاعة طموحة ابنة وقتها، أنت لا تعرف، متى يعاد اعتقال الرجل؟ وهل سيكون الظرف مناسباً مرة أخرى؟ إذاً لنسرع ونبدأ التصوير، ثم نفكر ماذا سنفعل في المونتاج؟ قد تبدو هذه الطريقة فيها نوع من الأنانية ليست لصالح الفيلم.. لكن ربما كانت الطريقة المتاحة في تلك الظروف الاستئثنائية التي عاش السوريون في ظلها لعقود.

 بما أن الناس مازال الخوف يعشش في دواخلها، من إقامة أي نوع من الاتصال مع ابن العم، يحسب للمخرج جرأة هذه الخطوة، إذاً لنقبل الفيلم ونحتويه، ليس من الضروري أن نتوقف كثيراً عند النواحي الفنية: (الميزانسينMise-en-scène ”) تكوين المشهد، رسم حركة الكاميرا، زوايا اللقطات، استخدام لقطات للمكان بطريقة أفضل، وإن بدت الإمكانيات الإنتاجية الفقيرة عائقاً أساسياً لتحقيق ذلك، مشاهد الحشو التي لم تقدم أية فائدة للفيلم، لم تقدم أية إضافة للشخصية الرئيسية)، وإنما أصابتها بالترهل (تلك المشاهد في المطار والذهاب إلى ملجأ الأيتام)، اللقاء في المطار بين الأب وبناته، بدا بارداً سطحياً لا مشاعر فيه، وكذلك حرق تجربة الميتم، من خلال الحديث عنها في سيارة تعبر شوارع حمص.

 ومع ذلك تبقى أهمية الفيلم في أنه كسر دائرة الصمت، حول شخصية ابن العم، ليظهر رياض الترك، والمؤلم أنه لم يتم إنجاز فيلم آخر بعد ذلك، ليليق بمستوى هذه الشخصية الفريدة في تاريخ الشعب السوري.

 حسبي أن أعدت مونتاج الفيلم في ذهني وترتيبه، كما أحببت أن يكون منطلقة من إحساسي كممثلة، وتجربتي الصحفية في هذا المجال، ومن حبي لابن العم.

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى