فواز حداد بوصفه شخصية هاربة من إحدى رواياته
تيسير خلف – العربي القديم
في مطلع العام 1996، وبعد أن انتهيت من قراءه رواية “موزاييك دمشق 39” لفواز حداد، التي أعارني إياها الصديق خليل صويلح في مقهى الروضة قبل يومين، هرعت إلى مكتبة نوبل لأسأل عن روايات هذا الكاتب الذي أدهشني منذ فصل روايته الأول.
قال صاحب المكتبة، وهو يتناول كتاباً من أحد الأدراج المخفية أمامه: له رواية أخرى وحيدة، وأعطانيها. قرأت: “تياترو 1949″، تأملتها، تبدو لي مثل “موزاييك”، لكن ثمة عشر سنوات بين القصتين.
قرأت الرواية الجديدة بنَفَس واحد، أمضيت ليلة كاملة، وأنا أقرأ مذهولاً، مستمتعاً بالعوالم الغرائيبية والواقعية في آن معاً، وكأنني أكتشف دمشق أخرى لا أعرفها، ولا أحد آخر يعرفها سوى الكاتب.
في ظهيرة اليوم التالي عدت إلى المكتبة، لأتأكد ما إذا كان للكاتب رواية ثالثة، فنفى صاحب المكتبة بشدة وقال: هما اثنتان فقط.
في مقهى الروضة الذي اعتدت في ذلك الزمن، أن أذهب إليه يومياً، وأجلس فيه طوال النهار، سألت ما تيسّر من الأصدقاء عن فواز حداد، فنفى جميع من سألتهم معرفته بشكل شخصي، رغم أن أصداء روايتيه، كانت تتردد في مقاهي ومنتديات دمشق. وحين كان يسألني أحدهم عن سبب إلحاحي بالسؤال، كنت أقول له: للمرة الأولى أقرأ رواية عن دمشق بطلها المكان.
كان الأمر بالنسبة لي نوعاً من الإجابة على تساؤل قديم مقلق، كنت أسمعه من الكاتب الراحل خيري الذهبي، رحمه الله، حول افتقاد دمشق لكاتب يكتب عن أمكنتها، كما فعل نجيب محفوظ في رواياته عن القاهرة.
كان خيري الذهبي يدرك هذه المعضلة، ولكنه لم يستطع أن يحققها، إذ كتب عن شخصيات وأحداث دمشقية، غير أنه لم يكتب عن المكان؛ ولذلك سعيت لألتقي بفواز حداد حتى أناقشه بروايتيه.
بعد أن فشلت في العثور على أحد يعرفه في مقهى الروضة، قلت لنفسي: أسأل أستاذي وصديقي حسين العودات، كونه ناشر الروايتين. فذهبت إلى مكتبه في ساحة عرنوس، وسألته قبل أن أسلم عليه: من فواز حداد هذا؟ أهو شخصية حقيقة، أم اسم مستعار؟ ضحك الأستاذ العودات، وكتب على ورقة صغيرة رقماً، وقال لي: كلمه على هذا الرقم.
دسست الرقم في جيبي، وفي المساء طلبته. رن الهاتف، ولم يجب أحد. في صبيحة اليوم التالي رن الهاتف أيضاً، ولم يجب أحد.. وهكذا طوال أيام. حتى ظننت أن الرقم غير حقيقي. وبعد أسبوع طلبت الرقم، وأنا غير واثق من أن أحداً سوف يرد، ولكنه، ولحسن حظي رد بصوت مرتجف.
قلت: أستاذ فواز؟ قال بلهجة دمشقية لا تخطئها الأذن: نعم “مين عم يحكي؟”. قلت: أعطاني رقمك الأستاذ حسين عودات.. أنت لا تعرفني، اسمي تيسير خلف، أريد أن أراك؛ لأنني قرأت روايتيك، ولدي ما أقوله له بشأنهما.
بعد تردد وصمت، قال: حسناً. فبادرت بدعوته إلى مطعم اللاتيرنا، قال بحسم: لا لا “بلاها اللاتيرنا”. قلت: الروضة؟ قال: “لا، ولا الروضة”. قلت له: اختر أنت إذن. قال: ما رأيك أن نلتقي في مكتبة الهلال في الحلبوني، ونرى بعدها.
في الموعد المحدد، وكان الوقت عصراً، والسماء تمطر وتتوقف، ثم تمطر وتتوقف، لم أجد أحداً. سألت ابن صاحب المكتبه: هل تعرف الأستاذ فواز حداد؟ قال: هو في الداخل. نظرت من الباب الذي يفضي إلى مستودع الكتب، فوجدت رجلاً يتصفح كتاباً قديماً، اقتربت منه، وقلت له: أنا تيسير، فبشَّ وصافحني بحرارة، وقال لنخرج إذن.
سألته إلى أين؟ قال: هنا مقهى جيد، وأشار إلى خارج محطة الحجاز في الطريق المؤدي إلى كراج البرامكة. لم أكن أدري أن ثمة مقهى في هذه الناحية من المحطة. ولجنا المكان فلم يكن أحد غيرنا.
جلسنا طويلاً، نتحدث في كل شيء يخص الروايتين، الأحداث، والتواريخ والشخصيات. كان يستمع أكثر مما يتكلم، لكنني لاحظت أنه كان قلق النظرات، كأنه يترقب شيئاً ما، وعينه لم تفارق باب المقهى الذي لم يكن أكثر من درفة بائسة مغلفة بمشمع شفاف. بعد أن انتهى الحديث بيننا، أو بالأحرى بعد أن قلت كل شيء في جعبتي، ودعته، وقد ترسخت لدي قناعة بأنه رجل متخفٍ، ومطلوب لأحد الأجهزة الأمنية، وبأنه غامر حين وافق على عقد موعد معي.
في اليوم التالي زرت الأستاذ حسين العودات، لأسأله سؤالاً واحداً: هل فواز حداد مطلوب للأجهزة الأمنية؟
ضحك وقال: فواز لا يحب الجلوس في الأماكن التي يرتادها المثقفون! ثم دار بيننا حوار عن فواز وروايتيه، وحال النشر، وتفكيره بإغلاق دار الأهالي، بسبب كساد صناعة الكتب.
بعد أن غادرت مكتب الأستاذ العودات، مضيت أسير نحو صالة الرواق، وأنا أفكر بفواز وروايتيه وشخصياته الغرائبية. وخطر لي ساعتها أن فواز نفسه يشبه شخصيات رواياته. أجل، كان شخصية هاربة من رواية لا أحد يستطيع أن يكتبها سوى فواز حداد.
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس عشر من (العربي القديم) الخاص بالروائي فواز حداد أيلول – سبتمبر 2024