الرأي العام

مقامات أمريكية | فن المسبات والشتائم

د. حسام عتال

ربيت في بيت خال من الشتائم ومن الألفاظ النابية وبعيد عن فاحش الكلام. “يحرق حريشك” أو “يخرب ذوقك” كانت أسوأ لغة يمكن أن تصدر من أي من أفراد البيت، وإن تمادى أحدنا فيصيح “يالطيف شو غليظ” أو “ثقيل الدم”.

 أما مسبّات الأولاد في الحارة أثناء لعبة القدم أو الدحل أو خلال الشجار مع الآخرين، فهي ألفاظ نابية ” كلام شوارع ” ولامكان لها داخل البيوت. دام ذلك حتى انتقلنا إلى بيت جديد في حي التجارة بدمشق حيث كان جيراننا في الطابق السفلي، وهم مهجّرون من أرض احتلت في نكسة ١٩٦٧، يسبون بعضهم البعض بحرية تامة وبأصوات عالية تصل بيتنا، كباراً منهم وصغاراً، رجالاً كانوا أم إناثاً. لاحظت والدتي استغرابي عند سماعهم فقالت لي: لاتلومهم، لقد مروا بظروف صعبة جداً، وهذه طريقتهم في التعامل مع هموم حياتهم. ابنهم الصغير حسن كان يكبرني بعام، يميل للبدانة، شديد البياض، يتوسط وجهه عينان صغيرتان لماعتان يمتد من جانبيهما غمازتان فكأنه أراد أن يضحك لكنه توقف لسبب مجهول. كان لديه براعة في السبِّ لم أعرف لها مثيلاً بعده. كان يصُّفُ المسبات عاقداً كلاً منها بالأخرى في جُملٍ تكاد لاتنتهي، ومزيناً إياها بإتقان وكأنه دستويفيسكي صغير لكنه مختص بالمفردات البذيئة بدلاً عن فلسفة الحياة.

لم أفهم تفسير والدتي لحال تلك العائلة، ولكن لابد أنه قد أقنعني حينها لثقتي المطلقة بها كما يثق كل طفل بوالدته، ولكن ممالاشك فيه أن سماع المسبّات المتكرر أثار لدي فضولاً مبكراً بكل مايتعلق بتلك اللغة الغريبة التي بدت لي عامة وشائعة من جهة، ومنبوذة من جهة أخرى.

بعد هجرتي إلى الولايات المتحدة فوجئت بشيوع المسبات بين الناس الذين يرمونها بعفوية وأريحية. سواء كنت أقلّب الهمبرغر في مطعم وينديز، حيث كنت أعمل خلال النهار لتحصيل قوت يومي، أو عندما كنت أسجل أعراض الفئران الذين حقنتهم بالدواء التجريبي الاسبوع السابق في المخبر الذي كنت أتدرب فيه ليلاً، في محاولة للحصول على تزكية تتيح لي متابعة دراستي، كان الناس المحيطين بي يلفظون المسبّات بحرية وتلقائية. وحتى عندما سجلّت في إحدى دورات تعليم اللغة القصصية الأدبية في الجامعة الأهلية في المدينة، أعطتنا الأستاذة أول وظيفة طالبةً منا أن نكتب قصة من ٥٠٠ كلمة تحوي المفردات التالية: family, lottery, Jesus, dinner, fuck, hell، death .  لم أكن حينها قد أدركت أن عناصر القصة الأساس عابرة للثقافات وتتمثل في: العائلة، المال، الدين، والجنس، وأن الكلام البذئ أيضاً عابر للقارات. مع تطور قراءتي للقصص والروايات باللغة الانكليزية (الآن إقرؤوها بلغتها الأصلية بدلاً عن ترجماتها العربية التي كانت تحذف الكلام النابي منها) اتضح لي مدى استخدام الألفاظ النابية في الأدب الغربي الحديث، ليس فقط في كل عمل، بل أحياناً في كل مقطع من كل عمل.

لإشباع فضولي لجأت عندها لدراسات أعمق عن اللغة النابية، مفرداتها، مصطلحاتها، استخداماتها المختلفة، ودورها العام في “ثقافة” المجتمع.

من أشهر الكتاب في هذا الشأن هو ستيڤن پنكر، المختص اللغوي والباحث الاجتماعي من جامعة هارڤارد. صنف پنكر نابي الكلمات مبدئياً إلى خمس أنواع: وصفية، اصطلاحية، مسيئة/جارحة، توكيدية/جازمة، وملينة/مسهلة. هذا منطقي، لكن المثير أنه وجد خلال بحثه أن استخدام الألفاظ النابية تدل على الذكاء والفطنة عند مستخدميها، وعلى صفة الصدق والإخلاص في التعبير أيضاً. وعلاوة على ذلك استنتاجه أن الناس عندما تسبّ عادة تلجأ لاستخدام ماهو غالٍ وقيّم في نظرها وعُرفها الخاص، كموضوع للتجريح والإهانة.

بعد ذلك الإدراك وجدت نفسي، خلال زياراتي للبلاد المختلفة، أسعى لمعرفة ماهية اللغة المستخدمة في مسبات عند الشعب الذي يقطن المكان. وقبل أن يسرح خيالكم بعيداً أحب التوكيد أني لأبدأ بالسؤال عن هذا الأمر بلا مقدمة، ودون التمهيد له بالشكل الملائم.

تبقى الكلمات المتعلقة بالجنس هي الأكثر إستخداماً للشتم حول العالم. ولكن ذلك ليس مطلقاً. فإذا سببت شخصاً من فلندا ذاكراً شيئاً عن أمه (والذي نعرفه جميعاً) سيجاوب بقوله “وماذا عنها؟”. فذكرشأن المرأة لدى الفلندي المنتمي لمجتمع متحرر جنسياً لايعني له الكثير ولا يزعجه. ولأن العائلة الفنلندية نووية (مقابل العائلة الممتدة) يصبح دورالأم، خاصة عند البالغين، أقل أهمية في العائلة، فالفنلندي ليس متعلقاً بأمه بشكل عاطفي حميم بالعموم. وإن ضاعفت مسبتك لأم ذلك الفلندي، فسيظن وقتها أن لديك مشكلة مع أمه وليس معه شخصياً.

بالمقابل، في البلاد المعتمدة على العائلات الممتدة تأخذ المسبات منحاً عاطفياً عميقاً بدرجة عمق العلاقات بين أفرادها. فإن أردت الإساءة العظمى في المشرق العربي فعليك بالوالدين، وفي تركيا يجب عليك إضافة العائلة والنسب والحسب، أما في كوريا واليابان، حيث الأجداد مقدسون، يجب سب “عائلتك حتى الجد الثامن عشر”. لاأدري لم يتوقفون عند الجد الثامن عشر، ولكن الأمر كذلك هناك. 

ما يتلو ذكر الجنس وشتم العائلة والنسب كمادة للتجريح، هو التعريض بالمعتقدات والدين، ولكن مع بعض التنوع. ففي الدول الاسكندنافية، حيث عزز المبشرون المسيحيون خرافات الأساطير القديمة بافكار الجنة والنار، تطغى مسبات الجحيم والشياطين والهول. بالمقابل تركز الشعوب الكاثوليكية كما في إيطاليا وإسبانيا على تلويث وتدنيس طقوس العبادة نفسها بسبب دورها الأساسي في الكنيسة. فهم يسبون ليس فقط القربان، ولكن حامله وأوعيته وخزينته.

لكني لم أجد عند أي من الشعوب المختلفة من يسبّ الدين نفسه أو الإله مباشرة وشخصياً سوى في بلاد الشام.  فمسبات “ربك وإلهك ودينك” تبدو لسبب ما محصورة في هذه البقعة من الأرض. فلو أننا عدنا لتفسير ستيڤن پنكر السابق يمكن لنا التوقع أن سبب ذلك هو قوة الإيمان، أو على الأقل عمق تأثيره ليس فقط في المجتمع، بل عند الشخص الذي يسبّه بالذات. فكما يقول پنكر “يجب أن تصيب المسبة ماهو غال وثمين ومحبوب لدى من استخدمها لكي يعتقد أن لها فعالية الجرح والإهانة المقصود”. لذلك راقب جيداً وانتبه لما تسبّ فإن ما تسبّه هو ربما ما هو الشي ذاته الذي تقدره وتحترمه أكثر من غيره.

زر الذهاب إلى الأعلى