عودة إيلي كوهين: ومَن قال إنه الجاسوس الأخطر؟
وكأن إسرائيل أعادت فتح ملف الجاسوس الأسطوري لتذكير العالم بمدى اختراقها، بل بمدى قدرتها على صناعة الرموز

بلال الخلف – العربي القديم
في عرض درامي أقرب إلى أفلام التجسس الهوليوودية، جرى عشية استعادة إسرائيل الذكرى (60) لإعدام كوهين في دمشق في مثل هذا الشهر من عام 1965، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي “استعادة” 2500 وثيقة تعود للجاسوس الشهير إيلي كوهين، وذلك ضمن ما قيل إنها عملية استخبارية سرية نفّذت داخل سوريا.
وبين موسيقى التشويق وتصفيق الضباط، بدا وكأن إسرائيل أعادت فتح ملف الجاسوس الأسطوري لتذكير العالم بمدى اختراقها، بل بمدى قدرتها على صناعة الرموز. وعلى الهامش، تسربت أنباء عن أن الحكومة السورية الحالية – التي جاءت بعد زوال نظام الأسد – هي من سلّمت الوثائق في إطار تفاهمات دولية، ربما لكبح جماح نتنياهو المتفلت، لا حبًا بإسرائيل ولا ندمًا على تاريخ كوهين… وإنما لمآرب أخرى!

لعبة سياسية؟ ربما.
مناورة لتفادي المزيد من التصعيد؟ أيضًا وارد. لكن أن تتحول قصة إيلي كوهين إلى محور الخطاب، فتلك مهزلة تستحق الضحك المر. فلا أحد يربح بالكامل، ولا أحد يخسر تمامًا. وهنا تبرز المفارقة المرّة: من الذي يستحق لقب “الجاسوس الأخطر”؟ هل هو إيلي كوهين، الذي عاش سنوات قليلة في دمشق، ونقل معلومات محدودة، ثم قبض عليه متلبسا في منزله في حي أبي رمانة، وهو يرسل رسائله عبر الجهاز اللاسلكي السري إلى إسرائيل ثم دُفِن سرًا بعد إعدامه ولم يعثر حتى على قبره أو رفاته؟ أم من عاش على كرسي الحكم عقودًا، يسلّم موقعًا تلو الآخر، ويطوي الجبهات، ويحرس حدود العدو بصمت وولاء؟ الذاكرة ليست قاسية. إنها فقط دقيقة. فكوهين، على كل ما قيل فيه وفي خدماته التي قدمها من أجل حرب حزيران 1967، لم يُهدِ الجولان لإسرائيل أو لم يبعها ويقبض ثمنها، ولم يُجَمِّد الجبهة الجنوبية أربعين عامًا، ولم يحوّل جيشًا إلى أجهزة أمن ضد الشعب. لم يحاصر الفلسطينيين في لبنان، ولم يقصف المخيمات، ولم يدعم انقلابًا على أي حرية. أما من فعل كل هذا، فقد مات وترك إرثًا من الخراب… بل وحتى قبره لم يسلم من العبث.
نعم، لا تزال قصة رفات حافظ الأسد غير محسومة. يُقال إنه فُقد بعد نبش قبره في القرداحة، ولا أحد يعلم أين ذهب الجثمان. اختفى. لا أثر، لا صورة، لا تأكيد. هل نُقل إلى تل أبيب كأثر من آثار “السلام الخفي”؟ أم إلى طهران بوصفه “وديعة الوفاء”؟ أم احتُجز في موسكو كتذكار من زمن العرابين؟ ربما الأمر لا يستحق الجهد لا أحد يعلم، وربما لا أحد يهتم، فالتاريخ نفسه لفظ الجثة قبل أن تُنقل. إسرائيل تفاخر اليوم بوثائق لا قيمة حقيقية لها، في وقت أصبح فيه الأرشيف نفسه لا يصمد أمام كوارث الحاضر. فإذا كانت الأوراق تساوي هذا الاحتفال، فكيف يُقاس إذًا أثر عقود من التحالف الصامت؟ من صفقات “اللا سلم واللا حرب”، من التنسيق غير المباشر، من الصمت المتواطئ؟ لسنا معنيين بتقديس كوهين ولا بلعنه. بل معنيون بأن لا يُنسى أن أخطر جواسيس هذا العصر لم يُعدم، ولم يُفضَح، ولم يُبكِ إسرائيل. بل مات محمولًا على الأكتاف، تُبكيه الجوقة، وتتباهى بتراثه الفضائيات. وثائق كوهين؟ أوراق… مجرد أوراق. لكن الأثر الحقيقي كُتب بالدم، بالحريق، بالهدم، والخوف. الجاسوس الحقيقي؟ هو من جعل الوطن سجنًا، والخيانة سياسة، والانتماء تهمة.