غزة في الوجدان السوري
بقلم: محمد منصور
للمدن أرواح وأقدار مكتوبة في سجلات التاريخ. وكلما نبضت روح المدينة بحب الحياة وإبداع معانيها في هذا الشرق الحزين، كلما كانت أقدارها عسيرة ومأساوية.
هكذا كان قدر دمشق أن تدفع ثمن أصالتها المتراكمة وفرادة إرثها، وهكذا كان قدر غزة أن تدفع ثمن موقعها الجغرافي كبوابة مصر إلى بلاد الشام، وبوابة بلاد الشام إلى الجزيرة العربية واليمن. ولم تكن أقدار الأدوار السياسية والوطنية بأخف وطأة على غزة من أقدار التاريخ والجغرافيا، فغدت زهرة الجنوب الفلسطيني منذ عقود، عنوانا لفلسطين، كل فلسطين المقاومة، حين لا تمل الكفاح ولا تتعب من الرفض ولا تتنصل من التمرد على الأسوار والقيود وزمن الذل حين يصبح سمة الرضا بالقهر والطغيان والاستيطان.
وإذا كان الشر الإيراني قد تسلل إلى قدر غزة السياسي المقاوم، وحاول أن يخالط طهرها بنجاسته، فعلينا ألا ننسى أنه في قلب هذا التغلغل الموبوء، لم يخطئ الغزيون البوصلة أبدا. ولا أنسى كسوري صدمه تعليق صور قاتل أبناء وطني المجرم قاسم سليماني في ميادين وساحات غزة من قبل سلطتي حماس والجهاد، كيف بادر شباب غزة إلى تمزيقها بعد أن شطبوا وصف “شهيد القدس” وعالجوا صورته باللون الأسود الذي يليق به، واضعين علامة “إكس” على اسمه بالكامل. لا أنسى أطفال الفقر والشرف في عزة كيف تحدثوا يوما عن اللاجئين السوريين أمام الكاميرات في استطلاع تلفزيوني، وكأنهم توارثوا الشهامة والنبل في جيناتهم، لا في سلوك آبائهم وسجل مدينتهم المجيد وحسب.
لغزة النبيلة الشامخة، غزة الأكثر حرية رغم حصارها، الأكثر غنى وثراء رغم فقرها، غزة الشريدة المدماة التي تشبهنا وتلهمنا، نقدم هذا العدد الخاص من مجلة (العربي القديم) تحية من كتاب وأدباء ومثقفين سوريين للمدينة التي تواجه حرب إبادة وحشية على مرأى ومسمع من العالم، فتمضي قوافل الشهداء على دروبها المدمرة يوميا، لتخط فوق كل هذا الدم والدمار ذاكرة للشرف الرفيع، الذي يرتقي بأرواح أبنائها إلى مراقي الخلود، ويهبط بالعالم المتفرج إلى مهاوي العار.
يكتب السوريون هنا، عن غزة الماضي والحاضر، عن غزة التاريخ والذاكرة، عن غزة المواقف والمبادئ والسياسات والتبدلات، ليصوغوا تحية مترعة بالإيمان للمدينة التي تذكّر السوريين بمأساتهم خلال سنوات ثورتهم الطويلة، فتغدو غزة قدوة وقرينا وملهما في صبر وثبات أهل الحق، وفي وحشية وشراسة الباطل حين يرمي بعرض الحائط كل قانون وكل عرف واعتبار إنساني.
ولا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر العميق للكتاب والأساتذة الذين أغنوا صفحات هذا العدد بمساهماتهم القيمة، فقرؤوا تاريخ غزة، وترجموا سجل عشائرها وأدوارها السياسية، وأغنوا المشهد الراهن بتأملاتهم وتحليلاتهم السياسية. فقد جسدت غزة على الدوام، تاريخا مفعما بالكبرياء للناس البسطاء، وذاكرة تستحق أن تستعاد في كل وقت، وحلما بالحرية والنهوض وحب الحياة يستحق أن يروى عنه الكثير للأجيال المقبلة.
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023