بصمات | الناس في هذا العصر يتعفَّنون قبل أن يموتوا
د. علي حافظ
خلف جدران غرفتي تسير الحياة كما في سابق عهدها: يعيش الناس في حالة حميمية مع الثرثرة والأكل والشرب والتكاثر..، غير مهتمين بالأشياء الروحية الملحة والضرورية لعدم فقد إنسانيتهم…
لا أحد يفكر بمصير البشرية أبداً!
لا أحد يتأمل الكون ولو للحظة!!
لا أحد يقرأ كتاباً ويغوص في أعماق حبره الكريستالية حتى النهاية!
الجميع منشغلون بالتشيؤ والبحث الدؤوب عن إكسسوارات الحياة، بحيث لايصعَّبون الأمور ويضيَّقونها على أنفسهم – كما أفعل أنا!
أصبح بعضهم يتجنب الأحاديث الجادة، والآخرون يعدون الكلام الناقد والجريء تهجماً قاسياً وجارحاً لهم ولأقانيمهم، ومخالفاً لأفكارهم ومعتقداتهم الأصولية (سياسية كانت أم دينية)؛ لأنها تكشف أناهم المتضخمة، وانتهازيتهم المفرطة، وجشعهم اللامحدود، وعريهم الثقافي والاجتماعي…
تسيطر الأنا الأصولية وتهيمن علينا بشكل مطلق، منذ بداية وعينا وظهورنا على مسرح الحياة الواقعية، ما يجعل الهوة السحيقة تزداد بين الروح والجسد، بين الكلام والتطبيق، بين النظري والعملي…
لم نستطع حتى الآن أن نوحد مبدأ الثنائيات، الذي أوجده أفلاطون، في أبعاد ذاتنا الكلية.. فهذه الذات بحاجة إلى زلزال، كي يدمرها ويعيدها إلى نقطة بدايتها التكتونية الجنينية؛ ومن ثم يأتي زمن آخر وأناس آخرون.. نأمل أن يتمكنوا من إعادة تركيبها بشكل أفضل!
لكن مع ذلك، ما الفائدة من معادلة التركيب الجديد، إذا كانت الأرواح لا تموت – حسب الشاعرة الروسية أنَّا أخماتوفا – فهي سترجع وتلبس ثيابها القديمة من جديد؛ وتعود إلى الخراب والهاوية، كما كانت من قبل؟!
بدا لي، من خلال الواقع المحيط، أن تغيير الأمور نحو الأفضل مجرد مسألة عقيمة وعديمة الجدوى.. لقد اقتنعت، كهنري ميلر، بأن لا شيء سيتغير إلاَّ إذا تغيَّرت القلوب!..
لكن من يستطيع تغيير قلوب البشر؛ إذا كانت مصنوعة من الإسفنج؟!
نظيفة وجافة من الخارج، أما داخلها فرطب وعفن ومعتم، وكل التجاويف المؤدية إلى الروح مغلقة حتى إشعار آخر!
وهنا، لابد من سوق ما جاء في الفصل الخامس من مسرحية شكسبير “هاملت” للتأكيد على اهتراء المعنى والعيش على حافة الحياة. يسأل البطل حفّار القبور: كم يستغرق الجسد حتى يتعفّن بعد الدفن؟
فيجيب الأخير: الناس في هذا العصر يتعفَّنون قبل أن يموتوا!