سير ذاتية ومذكرات

حماة التي في خاطري: وجوه مستبشرة لا تحمل عبء رغيف خبز ولا مأوى

مريم الإبراهيم- العربي القديم

لا تزال ذاكرتي تحتفظ بذلك اليوم بكل تفاصيله، وكأنه لوحة رسمت بريشة فنان ماهر، رائحة القهوة العربية المرة الأصيلة التي كان والدي يحضرها فوق جذوع الحطب المشتعلة، تملأ المكان بعبقها، وتنساب نسمات الصباح عبر النافذة، محملة بوجوه هادئة مستبشرة لا تحمل عبء رغيف خبز ولا مأوى، رغم كل الألم الذي كنت أعانيه بسبب ألم أسناني، كنت أتغلب عليه بطريقة أو بأخرى حتى لا أشعر والدي بالحزن علي.

كان يوماً أنساني ألمي

في صباح أحد أيام عام 2002، اصطحبني والدي إلى مدينة حماة، بغية العلاج عند طبيب الأسنان، حماة أم النواعير وسيدة الهواء العذب، مدينة أبي الفداء، كان يوماً أنساني ألمي وأنا أنظر لكل شيء حولي بشغف، من قريتي الحبيبة إلى حماة، كانت المسافة ساعة بالحافلة، وعلى الطريق الواصل بين الريف والمدينة، مررنا ببلدات رائعة وأثرية قلعة المضيق، السقيلبية، شيزر، ومحردة، وصولاً إلى حماة.

كانت الأجواء رائعة، أمسك والدي بيدي وأنزلني من الحافلة تابعنا المسير حتى دخلنا شارع الحاضر، حيث يتلاقى التاريخ والطبيعة، حماة ليست فقط مدينة، بل هي مملكة من الحب بأهلها الذين يعيشون فيها، أهل حماة المعروفون بكرمهم وضيافتهم، يحتفظون بروح المدينة العريقة.

هناك اتجهنا إلى طبيب الأسنان “محسن أيوب” صديق والدي القديم منذ أيام دراستهما سوياً، عندما درسا الإعدادية سوياً، استقبلنا بوجه بشوش وترحيب كبير، جلست على كرسي الأسنان وأنا خائفة جداً، قال له والدي: “مريم فنانة يا أبو فايز، بتحب الرسم، زبطلها سنانها” نظر الطبيب إلي نظرة إعجاب وقال: “فنانة؟ لا يا شيخنا، هيك لازم نشتغل بدقة، هدول الفنانين بيعلقوا كثير وما بيعجبهن العجب ” هنا، ابتسمت وأصبحت أكثر شجاعة، انعكس الخوف من إبرة البنج إلى صلابة أتت من عيون أبي المحب ولطافة الطبيب.

كان والدي يقف مقابل كرسي الطبيب، أنظر إلى عيونه التي لا تتحرك قيد شعرة، محدق بي كأنه يخاف على شيء ثمين أو قطعة منه يخشى عليها الألم، عندما كنت أرى ذلك في عيونه، أخفي ألمي خوفاً عليه أن يحزن قلبه علي لو لبضع ثوان، وما إن أنهى الطبيب معاينتي حتى شكره والدي كثيراً وخرجنا دون أن ندفع الكشفية، فقد رفض أبو فايز قبول المال مقابل معاينة ابنة أخيه على حد قوله.

سألني والدي بصوت خافت: “بابا، شو بتاكلي؟ ماجعتي؟” قلت له بصوت خجول: “لا يا أبي، ماني جوعانة” بالرغم من جوعي، همهم بقول نعم وهز رأسه،صحيح لا تستطيعين الطعام أنت، واصطحبني إلى مطعم فول وفلافل، تناول والدي فطوره وأحضر لي من خارج المطعم كأس سحلب، لأنني لا أستطيع أن أتناول الطعام، فقد نصحني الطبيب بعدم المضغ لمدة ثلاث ساعات.

غادرنا المطعم وأنا أمسك بيد والدي وأنظر إليه طوال الطريق، أرفع رأسي باتجاهه بين الحين والآخر أجده كبيراً جداً، كأنه الكون بأكمله، كنا كلما مررنا من مكان، وصفه لي والدي كأنه يحفر بذاكرتي كل شيء، يريد أن أتعلم كل شيء واعرف كل مكان باسمه ووصفه، إن أكثر إنسان في العالم اصطحبني معه وعلمني كان والدي، إلى الأحياء، وإلى القرى والمدن وإلى ذاتي.

 وكان يحدثني كأنني كبيرة، لست طفلة، ويحاورني بشغف واهتمام ويسمع كلامي، كان قلبه باتساع حماة وجمالها، ورحمته تشبه حضارتها وزهورها.

كان قلب والدي باتساع حماة وجمالها، ورحمته تشبه حضارتها وزهورها.

كان قلب والدي باتساع حماة وجمالها، ورحمته تشبه حضارتها وزهورها.

وصف حماة… وما حماة

تتوسط حماة كنجمة مضيئة في سماء الوطن، ليست حماة مجرد موقع جغرافي على الخريطة، بل هي قلب ينبض بالتاريخ، رمز للصبر والصمود والتحدي، تحمل في طياتها قصص أجيال ناضلت من أجل الكرامة والحرية.

تلك الجميلة، قلعة التاريخ وحصن الذكريات، تستقبلك بأذرع مفتوحة، تدعوك لتكتشف جمالها وسحرها، ولتعيش تجربة فريدة تترك أثراً لا ينسى في قلبك وروحك، وفي كل مرة كنت أزورها كان يخبرني والدي بنفس التفاصيل وبنفس الطريقة وبنفس الحب والرحمة، لا تسمح لي نفسي أن أقول له “أعرف، لقد قلت لي” على العكس تماماً، كنت أستمتع جداً بكلامه، وأشعر أنه شيء فريد وأول مرة أسمع به.

عبر العصور كانت حماة دائما حصنًا للذكريات وقلعةً للتاريخ في زواياها القديمة، تجد الحجارة تتحدث بلغة الزمن، وتبوح بأسرار لا يعرفها إلا من يستمع إلى همساتها الخفية شوارعها الضيقة تروي قصص الحب والحرب، الفرح والحزن، الانتصار والانكسار.

حلاوة الجبن حموية

في أسواق حماة القديمة، يمكن للمرء أن يشعر وكأنه يسافر عبر الزمن، هذه الأسواق التي تحتضن الحرف التقليدية، من النحاسيات إلى النسيج اليدوي، تعكس تراثاً غنياً وفناً عريقاً الباعة يعرضون بضائعهم بزهو، ويدعونك لتذوق الحلويات التقليدية… مما اشتهرت به مدينة حماة “حلاوة الجبن” التي ابتدعها أهل حماة فاشتهرت بها مدينتهم، لكن قام جيرانهم الحماصنة الذين تذوقوها وأحبوها بنسبها لهم بعد أن صارت لها محلات شهيرة في مدينتهم، وأصبحت مثيرة للجدل بين الحموية والحماصنة دائماً، وغالبا ما يعالج الحماصنة هذه المشكلة بالنكات التي تزيد الحلاوة حلاوة.

وبالنسبة للحموية غالبا ما ينتهي هذا السجال: لسنا عنصريين لكن “حلاوة الجبن حموية”

حلاوة الجبن: حموية أبا عن جد…

التاريخ الحضاري للمدينة

حماة لوحة فنية رسمتها يد الزمن، تتجلى في أسواقها القديمة، في نواعيرها التي تروي عطش الأراضي، وفي قلعتها التي تتربع على تلٍ مرتفع، حاملة بين جدرانها حكايات من العصور القديمة، هذه القلعة التي كانت تعرف في اللغات الشرقية بـ “حامات” تقف شامخة، حاملة بين جدرانها حكايات من العصور القديمة، حين كانت المدينة تسمى “ابيفانيا” نسبةً للإمبراطور أنطيوخس ابيفانيوس.

أطلقت التوراة اسم “حمث” على جميع البلاد الشامية نسبة إلى القسم الأكبر منها، وهو حماة وتوابعها، فقد امتدت من منطقة الحماد وتدمر شرقا حتى قلعة المضيق غربا، ومن حلب شمالا إلى دمشق جنوبا، وكانت تسمى حماة “أبيفانيا”. وقد تغلب الحثيون (الحميون) على الكثير من سكان سوريا الآراميين، وقويت شوكتهم ورسخت قدمهم في الأرض، وذلك قبل القرن 18 قبل الميلاد.

 في عام 64 قبل الميلاد اختلطت أصوات الطبيعة الهادئة على ضفاف نهر العاصي بضجيج الجنود الرومان، حيث دخلت حماة تحت الحكم الروماني، وأصبحت جزءًا من الإمبراطورية العظيمة، جلب الرومان معهم ليس فقط سلطتهم، بل أيضًا فنونهم وتقنياتهم، فأنشؤوا النواعير الساحرة التي لازالت تدور حتى اليوم، تروي حكايات العصور الغابرة، تلك النواعير التي تحولت إلى رمز خالد للمدينة، تضخ مياه العاصي في عروق حماة، مانحة إياها الحياة والاستمرارية.

وما بين تلك الأيام الغابرة، يمتد جذور سكان حماة إلى ذرية كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، تلك الفئة التي استقرت في وادي العاصي بعد الطوفان، وهي تعد من أكبر الفرق الكنعانية من حيث العدد والقوة، تجذرت تلك الأصول العريقة في تربتها، مضفية على حماة طابعا خاصا يعكس عمقها الحضاري والثقافي.

مجزرة حماة 1982

في العصور الراهنة كانت حماة دائماً في طليعة المدن السورية التي تطالب بالحرية والتغيير، بدأت أولى ثوراتها ضد حكم البعث في عام 1964، حين خرج الأهالي للاحتجاج على سياسات النظام، تلك المظاهرات كانت بمثابة الشرارة الأولى لنضال طويل ومستمر، ورغم القمع العنيف الذي واجهته المدينة، فإن أهلها لم يفقدوا الأمل.

عاد أهل حماة للانتفاض مجدداً بين أعوام 1979 و1982، بعد حملات النظام والاعتقالات التي طالت العديد من رجال وشباب حماة بتهمة الانتماء لـ “الإخوان المسلمين” آن ذاك حيث انطلقت الاحتجاجات مرة أخرى، ولكن هذه المرة بشكل أكثر تنظيماً وقوة، دخل الجيش السوري إلى المدينة في شتاء عام 1982 وارتكب مجزرة مروعة.

 رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ تباهى بأنه قتل 38,000 في حماة، استمرت الحملة 27 يوما، نفذتها عدة فرق وألوية من الجيش السوري، وعلى رأسها قوات سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، والوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر، بهدف القضاء على المعارضة في المدينة، أكدت اللجنة السورية لحقوق الإنسان إن عدد القتلى قد تراوح بين 30,000 و 40,000 غالبيتهم العظمى من المدنيين وقضى معظمهم رمياً بالرصاص بشكل جماعي ثم تم دفن الضحايا في مقابر جماعية.

ويحفظ أهل المدينة سجلاً من الاستفزازات وإهانة العقائد التي قيلت أو كتبت على جدران مدينتهم بعد المذبحة.

ويقول قائل من النصيرية:

آمنت بالبعث ربا لا شريك له

وبالعروبة إلهاً مالها من ثاني

هبوني عيداً يجعل العُرْبَ أمة واحدة

وسيروا بجثماني على دين برهامي

سلامٌ على كفر يوحد بيننا ……

وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم .

ويكتب آخر في أحداث حماة وكتبت على الجدران في حماة :

لا إله إلا الوطن

ولا رسول إلا البعث

 ويقول شاعرهم قديما للفاطميين الباطنيين النصيريين  للحاكم:

ما شئت لا ما شآءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

تلك الأيام السوداء تركت جرحاً عميقاً في وجدان المدينة، ولكنه لم يكسر روحها. جاء عام 2011 ليعيد إلى الأذهان صور النضال والشجاعة في ظل موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي، انطلقت الثورة السورية، وكانت حماة مرة أخرى في مقدمة المدن المنتفضة، خرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى ساحة الشهداء، مطالبين بالحرية والكرامة، كانت احتجاجات حماة هي الأكبر والأكثر تأثيراً، فقد أظهرت للعالم أن الشعب السوري لا يزال مصراً على تحقيق حقوقه، رغم القمع والبطش.

دمار حماة الكبير بعد مجزرة 1982

روعة النواعير

في كل صباح عندما تلامس أشعة الشمس النواعير، تعزف موسيقى العصور، مختلطةً بأصوات الأذان المنبعثة من مآذن المدينة العتيقة، وأصوات الباعة في أسواقها القديمة، يظل نهر العاصي يتدفق بهدوء، يرافق المدينة في رحلة الزمن، شاهداً على تبدل العصور وتوالي الأجيال.

سكان حماة يحملون في قلوبهم روح المدينة، فهي ليست مجرد مكان يعيشون فيه، بل هي جزء من هويتهم وكيانهم يروون لأبنائهم قصص الأجداد، ويزرعون فيهم حب الأرض والتاريخ، فمنذ أزل التاريخ، كانت حماة مكانًا يجتمع فيه الناس ليبنوا حياتهم ويشاركوا أحلامهم وآمالهم.

إنها أسطورة تحكيها النواعير، وذاكرة تنبض بالحياة في كل حجر وزاوية، تجسد في تاريخها الطويل وشعبها العريق معاني الصمود والمثابرة، متخذةً من وادي العاصي مسرحًا لأجمل فصول الحياة والتاريخ.

“لغة النواعير”

أمام هذا المشهد الطبيعي، يتوقف الزمن للحظات، ويغمرنا شعور بالسلام والسكينة، صوت النواعير وهي تدور، يمتزج بصوت النهر، ليخلق سيمفونية هادئة تبعث في النفس الطمأنينة، يبدو أن الطبيعة بأسرها تشارك في هذه المقطوعة الموسيقية، حيث تهمس الرياح بين الأشجار، وتترنم الطيور فوق الأغصان، وتنساب المياه برفق بين الصخور.

تتحدث النواعير بلغة خاصة، لغة لا تحتاج إلى كلمات، بل تفهم بالمشاعر والأحاسيس، تشعر وكأنك تسمع صوت الأجداد وهم يعملون بجد ويتحدون الصعاب.

أنها اللوحة الطبيعية البديعة، تمنحك فرصة للتأمل في جمال البساطة وعظمة الصبر، تشعر أن كل حركة للنواعير، وكل قطرة ماء تسقط من عجلاتها، هي جزء من حكاية أزلية.

النواعير تذكير جميل بأن القوة ليست دائماً في السرعة، بل في الاستمرارية والتماسك، تدور ببطء وثبات، وتستمر في عملها دون كلل أو ملل، لتكون مثالاً على أن الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل البسيطة، وفي القدرة على الاستمرار رغم كل التحديات.

شوق وانتماء

عندما نتحدث عن حماة، نتحدث عن مدينة تحمل في طياتها ذكرياتنا وأحلامنا، تلك المدينة التي سرقت من بين أيدينا عنوةً، ليبقى الشوق إليها يغمر قلوبنا ويمتد بعمق الزمن، حماة ليست مجرد مدينة، إنها مهد أصولنا وملاذ أحلامنا، وهي الأرض التي غرست فينا أولى بذور الحب والانتماء.

قبل ثلاثة عشر سنة، كنا نسير في شوارع حماة بكل حرية، نتنفس هواءها النقي ونستلذ بنسيمها العليل، كان لدينا في ريفها منازل تجمعنا، وأزقة تنادي بأسمائنا، وأراضً تشهد على ضحكاتنا، لكن النظام قلب حياتنا رأسًا على عقب، فأصبحنا بين ليلة وضحاها نازحين، غرباء عن أرضنا وهوائنا.

لم يكن الفراق سهلًا، ولا كانت الدموع تكفي لتخفيف الألم كنا نحمل حقائبنا محملين بالأمل، غير متوقعين ما ينتظرنا، ولكننا على يقين أن حماة ستبقى في قلوبنا، مهما طال الفراق ومهما انتقلنا من مكان لآخر، وحاولنا بناء حياة جديدة، الذكريات تلاحقنا كظلال لا يمكن الفرار منها.

حماة ستعود لنا

مرت السنوات، وعشر منها كأنها دهور، لكن الذاكرة لا تزال حية، تحتفظ بكل تفاصيل حماة وريفها، نسترجع في أحلامنا صور الأزقة الضيقة التي كنا نلعب فيها، رائحة الورود التي تعبق في الهواء، وصوت المياه المنحدرة في النواعير والعاصي، حماة كانت ولا تزال محفورة في قلوبنا، لا يمكن لشيء أن يمحوها من الذاكرة.

اليوم، ونحن نعيش بعيداً عنها، نشعر بمرارة الغربة وقسوة الفراق، لكن الأمل لا يزال ينبض في قلوبنا، نعلم أن الحق سينتصر في النهاية، وأننا سنعود إليها فاتحين، حاملين رايات الحرية والكرامة، نحن نؤمن بأن حماة ستعود لنا، وستحتضننا من جديد، مهما طال الزمن.

حماة في الذاكرة

بقيت حماة في ذاكرتي كمدينة ليست كباقي المدن، مدينة تتنفس الحب والرحمة، وكل زاوية فيها تحمل ذكرى عزيزة والدي الرجل الذي كان الكون بأكمله في عيوني، علمني حب الحياة، وحب كل ما حولي.

سنعود إلى حماة، لنزرع فيها بذور الحب من جديد، ونعيد بناء ما تهدم من ذكريات وأحلام، لنعيش فيها بسلام ونستعيد ما سرق منا، حماة ستظل في قلوبنا وعيوننا، وستبقى في الذاكرة شيء لا ينسى.

زر الذهاب إلى الأعلى