سير ذاتية ومذكرات

قصتي مع الجامعة: من الطالب إلى الأستاذ

أحمد برقاوي

انتسبت حباً بالفلسفة، إلى القسم طالباً عام 1969-1970، وكان اسم القسم: قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية. ولم أكن أعلم شيئاً عن أساتذة القسم، فثقافتي بأعلام الفلسفة العربية كانت ثمرة مجلة الفكر المعاصر المصرية: زكي نجيب محمود، فؤاد زكريا، حسن حنفي، عزمي إسلام، وآخرين.

الهيئة التعليمية

تكونت الهيئة التعليمية آنذاك من نوعين من الأساتذة:

 النوع الأول: الأســــاتذة الأعضاء في الهيئة التدريســـــية في القسم.

 النوع الثاني: محاضرون من خارج الجامعة.

أما أعضاء الهيئة التدريسية فهم أربعة فقط:

1-      عادل العوا رئيس القسم

2-      عبدالكريم اليافي

3-      بديع الكسم

4-      صفوح الأخرس

أما المحاضرون فهم:

1-      نايف بلوز، عُين بعد عدة سنوات

2-      طيب تيزيني، عين بعد عدة سنوات.

3-      أنطون مقدسي

4-      أديب اللجمي

5-      عبد الكريم زهور

6-      بشير زهدي

أما القائمون بالأعمال فهما:

1-      يوسف حبيب

2-      عبد الحميد حسن

وهما المعيدان اللذان ألغي إيفادهما لأسباب سياسية؛ حيث كان الأول بعثياً عفلقياً، والثاني ناصرياً.

وقد تم تعيين نايف بلوز، وطيب تيزيني في وقت لاحق، كما أشرنا، في الهيئة التدريسية.

هذا وقام أربعة من كلية التربية آنذاك بتدريسنا مقررات علم النفس وهم:

1-      فاخر عاقل

2-      نعيم الرفاعي (وهو غير نعيم الرفاعي الأستاذ في قسم اللغة العربية)

3-      فيصل صباغ

4-      فاطمة الجيوشي

ولم يكن أحد من الأساتذة آنذاك عضواً في حزب البعث، باستثناء طيب تيزيني الذي انتسب إلى الحزب؛ بدواعي التعيين في الجامعة.

وفي تقويمنا، نحن الطلاب المداومين، وعددنا قليل، على حضور المحاضرات آنذاك للأساتذة، فكنا نقدر معرفياً كلاً من: بديع الكسم، وعبد الكريم اليافي، ونايف بلوز، وأنطون مقدسي، وعبدالكريم زهور، وأساتذة علم النفس، فضلاً عن القائم بالأعمال عبد الحميد حسن. هذا وقد تحلقنا حول الدكتـــور نايف بلوز.

وفي عام 1974حصلت على منحة دراسية من المنح المقدمة لمنظمة التحرير الفلسطينية من الاتحاد السوفيتي؛ للحصول على الدكتوراه.

 وكان لمكانة أخي الأكبر في جيش التحرير الفلسطيني دور في الحصول على هذه المنحة، حيث كان لجيش التحرير عدد خاص من المنح.

وبعد سنوات ست عدت إلى دمشق في شهر آب / أغسطس  1980حاصلاً على درجة الدكتوراه في الفلسفة PH.D من جامعة سانت بطرسبورغ الروسية.

قصتي مع التعيين في الجامعة

وسرعان ما تقدمت للتعيين في جامعة دمشق – قسم الفلسفة، وكانت رحلتي في معركة التعيين شبيهة برحلة نايف بلوز، وطيب تيزيني، يضاف بأني لست حزبياً.

وبالرغم من حاجة القسم لي، جاء رفض تعييني دائماً؛ بسبب عدم الحاجة لاختصاص، مع الموافقة على الاستفادة من اختصاصي في التدريس؛ بوصفي محاضراً من خارج الكلية براتب قدره    1000 ليرة. وبقيت في هذه الحال، فكلما تقدمت بطلب جديد للتعيين، جاء الرفض من مجلس الكلية؛ بدواعي عدم الحاجة، مع أن مجلس قسم الفلسفة آنذاك كان يقر الحاجة، ويصدر قراراً بالموافقة، وذلك لمدة ثلاث سنوات.

كان رئيس القسم آنذاك هو عادل العوا، وكونه عضواً دائماً في مجلس الكلية كان يرفض الموافقة، ويعتبر موافقة القسم من معسكر اليسار آنذاك المتكون آنذاك من: صادق العظم، ونايف بلوز، وخضر زكريا، وطيب تيزيني، وغانم هنا، فيما كان التيار المناقض له يتكون من: عادل العوا، وبديع الكسم، وصفوح الأخرس بشكل أساسي.

أما غسان فينيانوس، فقد كان على صداقة مع صادق العظم، وأحمد درغام  كان عضواً في فرع الحزب لجامعة دمشق. وقد أعلمني لاحقاً الدكتور عدنان مسلم، الذي كان له شأن في الحزب، بأن العوا قال له: لا توافقوا على تعيينه، هذا شيوعي. وأنا لم أكن شيوعياً بل ماركسياً.

وفي عام 1983 وبعد أن أصبحت محاضراً مشهوراً لدى الطلاب، وافق مجلس الكلية على التعيين، وكذلك مجلس الجامعة، وتلقيت التهاني من الزملاء والأصدقاء.

لكن موافقة الوزير، وكان آنذاك الدكتور أسعد درقاوي تأخرت طويلاً.

وحين ذهبت لمراجعة السيدة سعاد في الوزارة، أجابتني بأن وزير التعليم العالي قد أحال كتاب الجامعة القاضي بالموافقة على التعيين إلى الحفظ، وأرجو ألّا تنقل هذا عن لساني.

أخذت موعداً لمقابلة الوزير أسعد درقاوي؛ لمعرفة ما الأمر، إذ لم يحصل أبداً أن أصدر مجلس الجامعة، وهو السلطة العليا في الجامعة، قراراً يُرفض من وزير التعليم العالي، والوزير أصلاً لا سلطة له على الجامعة.

دخلت أكظم غيظي، وسألت الوزير هناك عن قرار من مجلس الجامعة بتعييني، ولقد تأخرت طويلاً موافقتكم لإتمام إجراءات التعيين. فأجابني كاذباً، دون أن يرف له جفن: لم ترسل الجامعة أي قرار يفيد ذلك.

فأجبته: ولكن القرار عند السيدة سعاد. فطلب من سعاد، وسألها ممثلاً دور عدم العارف، ظناً منه بأن السيدة سعاد ستفهم مقصوده، لكن السيدة سعاد أجابته بكل صراحة: معالي الوزير الكتاب أحلته للحفظ. فوجئ الوزير بالجواب، وقال لي بلهجة غير ودية: نعم، إنه للحفظ، وحين سألته: لماذا للحفظ؟ لم يجب، وراح ينشغل بما أمامه من أوراق.

خرجت من عند الوزير، دون أن أصدق بأن هذا الأستاذ الذي درس سنوات عشراً في السوربون، وحصل على دكتوراه دولة برسالة عن الفيلسوف هنري برغسون، ويبدو كالحمل الوديع في قسم الفلسفة يتصرف تصرفاً كهذا.

مررت على السيد موفق جلمبو الذي نسيت مرتبته الوظيفية، وسألته عن السبب الذي يدعو الوزير لحفظ الكتاب؟ أجابني بلطف شديد: الوزير لا يريد تعيينك، وليس من صلاحياته رفض الموافقة على التعيين، أما حفظ الكتاب بتوقيعه فإنه يحرمك من القيام بإجراءات التعيين.

ضاقت بي السبل، ولا سيما، وإنه قد أصبحت رب أسرة، وفي البيت طفلتان، وأنا أسكن في المخيم، وأدفع مكافأة المحاضرات أجرة للبيت. ونكتفي براتب زوجتي نبيلة المدرسة في ثانوية مخيم اليرموك للبنات، وقدره آنذاك 700 ليرة.

صرفت النظر عن التعيين في الجامعة، وذهبنا أنا وأخي  لزيارة الأخ أبو مازن- محمود عباس، فوعدنا مشكوراً بتوفير عمل في الجزائر، أو في أحد مكاتب منظمة التحرير.

وفي هذه الأثناء خطر على بالي زيارة رئيس الجامعة، وكان آنذاك الدكتور زياد الشويكي؛ لأشكو له سلوك وزير التعليم العالي، وكان ذلك عام 1983.

دخلت مكتبه فاستقبلني بكل احترام، ووجه بشوش. شرحت له الوضع وسألته:

 دكتور، أنا الآن محاضر في الجامعة، وأدرس ثماني ساعات في الأسبوع، وهذا أكثر من أي أستاذ أصيل، ما الذي يحول دون تعييني؟

هو: دكتور أحمد، هل أوفدناك نحن للدراسة لتعود إلى الجامعة.

أنا: لا، طبعاً.

هو: إذاً أنت لا تملك حق التعيين، وقالها بلهجة شامية (ما إلك عنا ضربة لازمة).

أنا: جئت لأشكو إليك ليس إلا. شكراً لك دكتور وهممت بالخروج.

هو: اجلس دكتور، سأعينك في قسم الفلسفة، قدم لي طلب التعيين.

قدمت له طلب التعيين حسب الأصول، وجاءت موافقة المجالس كلها، لكني هذه المرة، أخذت قرار مجلس الجامعة باليد، والذهاب به إلى الوزير.

في ممر وزير التعليم العالي، التقيت بسائقه الفلسطيني الصفدي الذي يكن لي الحب والاحترام مع عصبية فلسطينية، وسألني عن حاجتي.

أنا: أريد توقيع قرار الجامعة من الوزير

هو: ناولني الكتاب وانتظرني.

أعطيته الكتاب، وبأقل من دقيقتين، خرج بالكتاب موقعاً من الوزير.

ثم بدأت إجراءات التعيين، وفي عام 1983 أصبحت مدرساً في قسم الفلسفة -عضواً في الهيئة التدريسية.

ذكريات مع أساتذتي / قول في أنطون مقدسي:

عرفته بداية محاضراً لمقرر الفلسفة اليونانية، في قسم الدراسات  الفلسفية والاجتماعية في سبعينات القرن الماضي، ثم عرفته إنساناً. لم ألتق في ما بعد بأي مشتغل بالفلسفة تجري فيه روح أفلاطون، وينتمي إلى أثينا ذلك الزمان كأنطون مقدسي. أجل، درسنا الفلسفة اليونانية، وعلمنا التفلسف، وحين سألناه: ما هو الكتاب المقرر يا أستاذ؟ أجاب: محاورات أفلاطون. أصابتنا الدهشة والتأفف، وسألناه: أي المحاورات؟ أجاب: الجمهورية، والثيئتتوس، والسفسطائي، والمأدبة، وسأشرحها لكم هي وأرسطو، المطلوب منكم أن تعرفوا أفلاطون وأرسطو.

 يغيب الأستاذ مع محاورات أفلاطون، وكأنه يتحدث وحده، ولا ينسى أن يقول محدثاً نفسه: كل الفلسفة بعد أفلاطون ليست، سوى شرح ما جاء به أفلاطون. لم يتأفف يوماً من أسئلتنا، نحن ثلة ممن تحلقوا حول نايف بلّوز.

لا أنسى ما حييت أغرب سؤال في امتحان الفلسفة اليونانية الذي وضعه أنطون مقدسي للإجابة عنه: (تحدث عن الفرق بين مُثل أفلاطون وأجناس أرسطو).

وتمضي السنون، ويقوم سعدالله ونوس بإجراء حوار مع الأستاذ في الكتاب الدوري (قضايا وشهادات) صيف 1990 وفيه يقول:

“أنا أعلم أن الصورة قاتمة ومحبطة، لكني ـ ما دامت لدي القدرة ـ سأظل أعمل وأبدي رأيي. تمر لحظات قصيرة أشعر فيها باليأس، لكني سرعان ما أنحيها قائلاً لنفسي: سأواصل المحاولة حتى مماتي”.

عاش بين جدران أربعة يفكر بحرية، وظلّ مشدوداً للمستقبل، يتأمل تجربة الماضي بجمالها وقبحها، بيقظتها وسباتها، بانتصارها وهزيمتها. يتجاوز وعيه بالعالم دائماً، لكنه ظلّ مشدوداً إلى الحداثة، والعقلانية والديموقراطية.

مثقف الممكن، لم يأسر نفسه في النزعة الأكاديمية الخادعة، ولم ينكص إلى ذاتية يائسة تنال من أحلام الناس، بل ظل مشروعاً يرسم الوجود الآتي.

أحب أفلاطون دون عبيد، ومال إلى ماركس دون ماركسية، واحتفظ بالمسيح وروح المسيحية، وظل عروبياً دون تعصب. أحب الأرسوزي ولم يكن أرسوزياً.

هاجسه الإنسان الحر في الشرق والغرب، فلم يتغرب ولم يتشرق.

في مكتبه الصغير في وزارة الثقافة كان يرسم مشروعاً للوعي عبر الترجمة، وتأتي كتب آلان تورين، والتوسير، وهنري لوفيفر، وشاتليه، ورأس مال ماركس. كأنما أراد تجاوز فقرنا الروحي بإثرائنا بالوعي الغربي بالعالم. لكن أنطون ناقد شرس لحداثة الغرب التي أفقرت الإنسان عبر الرأسمالية. أرادها حداثة دون اغتراب؛ لأنه مع الإنسان الذي حلم به ماركس والمسيح.

حسبك أن تستمع إليه حين قال: “لقد فجر الإنسان كل غرائزه: الآلة، المجتمع الاستهلاكي، الصور، السينما، التلفزيون.. كل هذا فجّر غرائز الإنسان جميعاً، فصار فقيراً. لم يعد لديه ذلك الفائض. وهنا نقطة ضعف الحداثة. الإنسان في حقيقته فائض عن ذاته، في هذه المجانية التي تطفر منه. الآن ضاعت المجانية، كل قيمة المسيحية أنها استغلت هذه المجانية الى أبعد حد، أو أرادت أن تهبها. فالفكرة المسيحية، وهي تختلف عن النظام الكنسي والتديّن، مبنية على أن كل ما في الدنيا مجاني، لا ثمن له؛ لأن الرب مجاني، كل ما في الطبيعة مجاني. الله يحب، يعني أنه يعطي كل شيء. هذه المجانية تلاشت واندثرت… ما من شيء مجاني في واقعنا الراهن. كلها أسعار وحسابات، حتى الكتابة صارت جزءاً من العملية التجارية الواسعة.. هنا مأزق الرأسمالية، ومكمن الفساد، هذا الوضع أفقر الإنسان”.

هو ماركس يتحدث بلسان المسيح، أو المسيح يتحدث بلسان ماركس. إنها طوباوية ولا شك، لكنها طوباوية التمرد، طوباوية أفضل من واقعية آسنة تدافع عن الواقع. كان ديالكتيكياً ولكن على الطريقة الأفلاطونية، معتقداً بأن أفلاطون هو أبو الديالكتيك في الأصل.

في بداية ربيع دمشق، وعلى إثر خطاب قسم الوريث كتب مقدسي رسالة شجاعة إليه، أدان فيها الواقع، ودافع عن الشعب، وطالبه فيها بالعمل من أجل نقل السوريين من حال الرعية إلى حال المواطنة.

في بداية ربيع دمشق اتصل بي رياض سيف، يدعوني فيها لإلقاء المحاضرة الثانية في منتداه، وحين سألته: من هو المحاضر الأول؟ أجاب: أنطون مقدسي. وهكذا كان. كانت محاضرته حول المجتمع المدني، وكانت محاضرتي بعنوان: الدولة والمجتمع، وقام رضوان زيادة بنشر جميع المحاضرات لاحقاً في كتاب.

عاد أنطون مقدسي في سنواته الأخيرة إلى إيمان لاهوتي بعيداً عن الفلسفة، بما كتبه عن دلالة، ما قيل بأنه انسكاب الزيت من أيقونة للعذراء.

أهم ما كان يميز مقدسي تقديره للاختلاف، وحبه للمحاورة، فهذه الروح الأفلاطونية رافقته حتى النهاية.

‏ قول في بديع الكسم:

ينتمي بديع الكسم إلى مفهوم الأستاذ، بكل ما ينطوي عليه هذا المفهوم من معنىً، فالأستاذ الكسم محيط بالفلسفة، بتاريخها، بمشكلاتها، قادر على إيصالها للآخر بلغة فلسفية راقية ومبدعة.

يحاول الأستاذ أن يشق طريقاً أخرى، طريقاً نحو التفلسف، لكن الكتابة عمل مسؤول يهرب منها الكسم، ويقترب منها، لكنه للهروب أقرب وهكذا كان.

لا أحد يعرف جواباً شافياً عن السؤال: لماذا كان الكسم مقلاً؟ إنه نفسه كان يجيب أجوبة مختلفة، فهل استبد به اليأس من فعل الكلام؟ هل كان يخشى الكتابة؟ هل جف نبعه بعد رسالته في الدكتوراه، وبضع مقالات؟ هل تخلى عن هاجسه الفلسفي؟ هل كانت لديه لحظات الإبداع نادرة؟ أم إنه رضي بدور الأستاذ الأكاديمي، وتخلى بالمرة عن القيام بدور المفكر؟ لا ندري.

وإذا قلنا: إن بديعاً مقلٌّ، فهو إذاً قد كتب وفي فترات متباعدة. رسالته هي الجهد الوحيد الذي كان الكسم يعود إليها دائماً وهي بشهادة العارفين نص جيد امتدحه المشرف وصدر بالفرنسية.

لكن للكسم مقالات كتبها في الخمسينيات، وحين عاد من مَهمة البحث العلمي عام 82 كتب مقالاً بعنوان «بين أحكام الوجود وأحكام القيم»، وفي عام 1993 ألقى محاضرة في مكتبة الأسد بعنوان «لغة الفلسفة» في هذه الكتابات المتأخرة لا نجد ما يشف عن ألق فلسفي.

والحق، أننا  لا نستطيع أن نلوم شخصاً؛ لأنه لم يكتب، أو لأنه لم يسرف في الكتابة، وإذا كان الإقلال من الكتابة لا ينم عن غياب أفكار مبدعة، فإن الإسراف فيها لا ينم بالضرورة عن إبداع.

الكتابة نداء داخلي يواجه بها المفكر، أو الفيلسوف العالم المعيش، ربما كان الأقرب إلى الصواب القول: إن حدوساً فلسفية مبعثرة قد نجدها لدى بديع الكسم، وما علينا إلا أن نعيد تأليفها وتطويرها.

وفي ظني أن المفهوم الرئيس الذي كان هاجساً أصيلاً، لدى بديع الكسم هو الإنسان بوصفه أنا مستقلاً.

في رسالته ومقالات أخرى نعثر عل جملة مفاهيم حاضرة دائماً لديه: الإنسان، الذات، الأنا، وجملة من الصفات الدالة على الإنسان الذات الأنا، كالحقيقة والحرية، والقناعة والإرادة، والوجدان والمسؤولية، والحرية والتمرد، والتضحية والقلق، والتجرد والنـزاهة.

لاشك أن هذه المفاهيم وردت في سياقات.

يكتب بديع الكسم في «البرهان والفلسفة» يقول: « إن الإنسان في جانب أصيل وعميق من جوانب كيانه الروحي، صبوة إلى الحقيقة، والحق أن ذاتاً دفينة في أعماق الإنسان تتصور المثل الأعلى في المعرفة، معرفة تحيط بكل ما هو موجود، بل إن الرؤية التي يتجلى فيها الموجود والمطلق، بكل ما تبعثه في النفس من غبطة وفرح، تظل قاصرة عن ملء فراغها، عاجزة عن تلبية حاجاتها إلى العيني المحسوس.

ها نحن أمام مفاهيم ثلاثة في نص قصير: الإنسان، الذات، النفس، وهي غير مترادفة بل متشابكة. فالإنسان مفهوم كلي يبدأ به الإنسان صبوة إلى الحقيقة، فالحقيقة هاجس إنساني. كأنما أراد الكسم أن يعرف الإنسان بأنه ذلك الكائن الباحث عن الحقيقة.

وفي كل إنسان ذات داخلية هي التي تعينه، الذات تحوله إلى معنىً مشخص، وبالتالي الذات تشخص الحقيقة، فيما النفس هي المنفعلة، هي التي تفرح وتحزن، وتتلذذ وتتجه إلى المحسوس. ينتقل بديع من الإنسان كائناً مجرداً إلى الإنسان المتعين حين يتحدث عن المفكر.

يكتب بديع عن المفكر قائلاً: « من هنا كان المفكر – في التعريف – سادناً للحقيقة، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، فالمفكر إذاً مسؤول، ولكن المسؤولية عبء لا يحمله إلا الأحرار. إنها تفترض الحرية وتزول بزوالها. الفكر إذاً حرية، والمفكر الحر هو وحده المفكر، وهنا لابد أن نسقط من عالم الفكر كل فكر زائف تخلى عن هويته، ذلك أن من باع حريته فقد إيمانه بالحقيقة، وكل من لا يصدر في أحكامه عن حرية داخلية، عن قناعة وجدانية لا يمكن أن يكون وفياً للحقيقة.

لنختلف مع الكسم في قوله: إن المفكر سادن للحقيقة، إذ من الأصوب القول: المفكر هو الساعي الدائم، ودون كلل أو ملل للوصول إلى الحقيقة. فليست الحقيقة كعبة  تحتاج إلى سدنة، وإلا صار السدنة طغاة، إذ لما كانت الحقيقة هي جهد الأنا الحر ومسؤولية هذا الأنا، وطريقه للوصول إليها، إذ لا انفصال بين الحقيقة والطريق إليها. فهي تجوال حر في العالم، ارتياد جسور للوجود كشف للزيف الذي ظن بعضهم أنه حقيقة. إنه وصول إلى الحقيقة ضد سدنتها، في المقابل فإن تأكيد الكسم الترابط الضروري بين المفكر والحرية هو انتصار للحقيقة  والحرية والأنا – المفكر، ينتصر الكسم للضمير الأخلاقي للوجدان السامي.

عبثاً يحاول من تخلى عن حريته أن يصل إلى الحقيقة؛ لأن الأنا الحر وحده الذي يجعل من حريته طريقاً للوصول إليها. الأنا الحر لم يكلفه أحد بمسؤولية البحث عن الحقيقة، الأنا الحر يستجيب لندائه الداخلي، وهو يحول هموم البشر إلى همومه ويتحمل مسؤولية الكشف لهم عن الحق.

الحرية هنا ليست شرطاً خارجياً، إنها وعي ذاتي بالحرية وإذا كان هناك من ينفي الحرية عن المفكر، أو يحاول أن يكبله بالأغلال، فإن المفكر عصي على الأسر. كأني به يستعيد كلمات بروميثيوس: «لخير لي ألف مرة أن أكون مكبلاً بصخرة من أن أكون خادماً لزيوس».

أجل الحرية ليست فكرة، إنها واقع متعين، إنها ظهور الأنا الدائم، وأي ظهور أرفع من ظهور الأنا الباحث عن الحقيقة.

لا يقتصر قول الكسم في الحرية على حرية المفكر، وإنما يدفع قدماً بفكرة الإنسان الحر. في مقال له بعنوان: «الإنسان حيوان ناطق» يكتب بديع الكسم قائلاً: «إن الإنسان هو ما ليس هو، فالإنسان يتجاوز ذاته باستمرار، فهو إذاً تعلق بالمستقبل ونفي للماضي. فالإنسان إذاً لا يرضى عن واقعه، فإنه يرفضه؛ ليتمرد بقول لا، فالإنسان إذاً يتعين دائماً. إنه متمرد، صانع، سياسي، فيلسوف، عالم، عابد، ثائر، عاشق، فنان، وجوده سابق على ماهيته، إنه يصنع ذاته على نحو مستمر.

لا شك أن الكسم يستعير الفكرة من سارتر، لكنّ للاستعارة هذه معنىً عميقاً. إنه وقد أخذ فكرة أسبقية الوجود على الماهية، بالمعنى السارتري ليدافع عنها، فإنه اتخذ موقفاً من الإنسان من الماضي من الحاضر من المستقبل، وفوق هذا وذاك من الحرية. إنه في هذه اللحظة من الوعي وجودي بامتياز.

فالأنا وقد وقفت موقفاً غير راضٍ عن العالم، فإنها تشفع هذا الموقف باللا، وما اللا إلا دلالة التمرد، بل الإنسان وجود متمرد، حتى ليمكن القول: إن كوجيتو جديد يعلنه الوجودي: «أنا أتمرد إذاً أنا موجود». إن التمرد هنا هو تعبير عن التجاوز الدائم للوجود، للحاضر، فالأنا الحر يعيش في المستقبل، لماذا؟ لأنه يعين ذاته باستمرار، لأنه ليس هوية ناجزة، ليس جوهراً ثابتاً، إنه يصنع ذاته باستمرار كما يقول الكسم.

ربما كان الكسم يختزن هذه اللا في صدره، ربما كان صمته ناتجاً من أنه لا يملك إلا اللا، لكنه لم يستطع أن يعين هذه اللا. حسبه أن يدعو إليها، وهو إذ اختار نماذج من تعيين الإنسان، من الإنسان الذي لا يكف عن التعين: التمرد، الصانع، السياسي، الفيلسوف، العالم، العابد، الثائر، العاشق، الفنان، فإنه أراد أن يقول  هو ذا الإنسان متمرد على العالم؛ لأن كل شخوصه التي ذكر هي شخوص متمردة.

إن دفاع الكسم عن التمرد أمر مفهوم، إذ لا انفصال بين التمرد والحرية، بل قل: الحر وحده قادر على التمرد. هل كان الكسم يحلم بمجتمع أحرار؟ أجل هو ذا أس فكر الكسم الذي ضمته صفحاته القليلة، وما أحوجنا إليه اليوم!

قول في نايف بلوز

كان ذلك في عام 1970، دخل إلى قاعة الدرس، في قسم الفلسفة رجل أشيب، يبدو في عمر الأربعين أو يزيد، ذو ملامح قاسية، جبهة عريضة، نصف صلعة، شارباه صغيران شبه معقوفين، وعرَّف بنفسه قائلاً: أنا نايف بلّوز، سأدرسكم مقرر المدخل إلى الفلسفة.

وراح الأستاذ يلقي علينا من القول، دون أن يكون أمامه أي نص ينظر إليه، كنّا أول عهدنا في تلقي العلوم الفلسفية، حيث يقوم عادل العوا مدرس الأخلاق بقراءة صفحات من كتاب ترجمه، وعبد الكريم اليافي يحكي لنا قصة علم الاجتماع، وصفوح الأخرس يتلعثم بعرض ما يحلو له من كلام، يبدو في علم الاجتماع أيضاً.

وتمضي الأيام، وندرك أننا أمام أستاذ متميز، ومختلف معرفة وسلوكاً، ونعرف بأنه مرفوض من التعيين في الجامعة، ولم يكن إلا محاضراً بعقد خارجي، وظل كذلك لمدة ثلاث سنوات أو أكثر بقليل.

 لم يحل مزاجه العصبي، دون أن نتحلق حوله، نحن مجموعة من الطلاب الأكثر انتماءً للفلسفة، وتقوم علاقة صداقة بين الأستاذ وبيننا.

وسنة وراء سنة يتحول نايف بلّوز إلى أب روحي، وفاعل في صناعة وعينا الفلسفي، ومواقفنا الأيديولوجية.

أجل أصبح نايف أبي الفكري والفلسفي، فضلاً عن أنه أصبح الصديق الحميم الذي جعل العلاقة، تتجاوز علاقة الأستاذ بالطالب.

لم يكن لنايف كتب حول المقررات التي درسنا إياها، بل كان يستند إلى ما يسمى آنذاك “بالأملية” المطبوعة على آلة النسخ، وعلى كتب مطبوعة في سوق الكتاب، ففي المدخل إلى الفلسفة كانت أمليته مرجعاً وحيداً، ومحاضراته كانت من الثراء، بحيث صار سؤال ما الفلسفة، وما هي مشكلاتها حاضراً في وعينا على امتداد السنوات الأربع.

و في علم الجمال، جاءت محاضراته تقديماً لكتاب جورج لوكاتش الذي ترجمه عن الألمانية: “دراسات في الواقعية” (عام1972)، وفي الفلسفة الحديثة قرر الرجل علينا كتاب يوسف كرم  “الفلسفة الحديثة”، ثم راح يملي علينا زاوية رؤيته الديالكتيكية في كل مسألة من مسائل الفلسفة التي يدرسنا إياها .

كان نايف أول أستاذ يدخل المنهج الديالكتيكي الماركسي إلى قسم الفلسفة، دون أية دوغمائية شيوعية، بل كان يسخر مما كان يسميها “النزعة التخطيطية” للمنهج الماركسي المتداول .

مع نايف، عرفنا فلسفة ديكارت، واسبينوزا، وكانط، وماركس، ومعه ومع لوكاتش عرفنا العلاقة بين الجمال الأدبي والواقع، بعيداً عن الواقعية المبتذلة الموروثة عن الستالينية .

وتمضي السنون، ويسافر الفتى أحمد برقاوي إلى الاتحاد السوفيتي، وتجري المراسلات حول ما أنا بصدد كتابته في الأطروحتين “الماجستير والدكتوراه”، ويكون نايف بمثابة المشرف الصديق إلى جانب المشرف السوفيتي.

وأعود زميلاً للأستاذ، وندرس معاً “مادتي مناهج البحث في العلوم الطبيعية، ومناهج البحث في العلوم الإنسانية” وهما المقرران اللذان حضر لهما نايف، وجمع كتابين ليسا بالمؤلفين.

كان نايف نهماً في القراءة، ومقلاً جداً بالكتابة، بل لم تكن الكتابة طقساً من بين طقوس حياته. في السبعينات، حين استعرت موجة التراثيين العرب، خاض معركة في المنهج في حوار غني مع حسين مروة وسواه، رافضاً رفضاً قاطعاً نظرية الانعكاس الماركسية، والترابط الميكانيكي بين الوعي والواقع، والفكر والطبقة، ونافياً أن تكون المادية والمثالية معياراً للحكم على هذه الفلسفة، أو تلك. لم يرَ نايف ابن رشد إلا من زاوية روح العقلانية والتنوير، الروح الضرورية للدخول إلى العصر.

سيكتب نايف بلّوز كتاباً جامعياً لمقرر علم الجمال: ”علم الجمال” (المطبعة التعاونية بدمشق1980)، وهو الكتاب الأول المكتوب بروح ديالكتيكية – ماركسية في العربية، إلى جانب كتب مترجمة، صحيح بأن الكتاب لم يضف جديداً إلى ما قدمه عالم الجمال السوفيتي المشهور موسي جاجان الذي ترجم كتابه الأشهر إلى لغات أجنبية عدة، لكنه وضع في أيدي الطلاب والقراء مرجعاً لا غنى عنه؛ للتزود بالمعرفة الفلسفية الجمالية.

وفي دراسة كتبها الدكتور بلوز حول الأمة وألقاها محاضرة، أشار للمرة الأولى إلى الفرق بين القوم والأمة، والترابط بين الدولة والأمة.

كان نايف أنموذجاً للأستاذ الموسوعي المعرفة، والمهموم بنقلها إلى طلابه بكل إخلاص مهني، ومحاوراً عميقاً مستخدماً مخزونه المعرفي بكل منهجية.

أما على المستوى السياسي، فلم يكن لديه أية أوهام حول طبيعة النظام الدكتاتورية، وحتمية وصوله إلى المأزق. وفي حواراتي الدائمة معه كان يؤكد على مسألة مهمة، ألا وهي ضرورة أن ينجز حافظ الأسد في حياته إعادة سوريا إلى وضعها الطبيعي، وقال لي مرة نقلاً عن السفير الأمريكي إدوارد جريجيان إن السفير قال لحافظ الأسد عند وداعه، بعد انتهاء مهمته في سوريا: “أنا ذاهب إلى بلادي، ولكن أحب أن أقول لكم بأن الحكم بهذه الطريقة لا يمكن أن يستمر، يجب العودة إلى الوضع الطبيعي”.

وكان هذا هو رأي الدكتور نايف، الرأي الذي نقله بطريقة ذكية إلى حافظ الأسد شخصياً في اللقاء الطويل الذي تم بينهما بناء عل طلب الأخير. ومازلت أتذكر قوله لي بعد اللقاء: “لا أمل يا أحمد في التغيير، لا تغيير في سياسته تجاه الداخل، ولا تجاه لبنان، ولا تجاه الفلسطينيين، حافظ الأسد  يكن الكره الشديد لأبي عمار.

كان نايف شخصاً واسع الرؤية، ذا صداقات مختلفة، مستقيماً، أخلاقياً، قليل المساومة، مدافعاً عما يؤمن به حد العدوانية أحياناً ، ورغم ما كان يبدو عليه من سلوك غضبي وعنيف، لكنه كان طيب القلب، لا يحمل حقداً على أحد، عنيداً وقد فشلت كل محاولاتي لإعادة علاقة الصداقة بينه وبين صادق العظم.

مرض نايف، وفقد جزءاً من ألمعيته وذاكرته؛ بفعل الجلطة الدماغية التي تعرض لها، وراح يحدثني عن ضرورة تعويض ما فاته من كتابة، وإنه سيعمل على ذلك، لكن الجسد خانه وهو يستجم في بحر اللاذقية، وقضى غرقاً؛ بسبب فقدانه الوعي داخل البحر، عن عمر 67 عاماً. كان آخر ما خطه نايف دراسة حول العلمانية، وكانت أفضل ما كُتب حولها آنذاك.

رحل نايف وترك خلفه صورة الأستاذ صاحب الهم الفلسفي والوطني.

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى