أرشيف المجلة الشهرية

حماس من المقاومة إلى الدويلة

بقلم: غسان المفلح
غزة كانت حتى اللحظة عنواناً، عنواناً دائماً، مذ تقطّعت فلسطين إلى ثلاثة مربعات عسكرية وأمنية، تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، بحماية ودعم، وغطاء للقتل والتنكيل، والاقتلاع من قبل أمريكا، وأوروبا الغربية، وتواطؤ بقية دول العالم: المربع الأول هو إسرائيل، والثاني هو الضفة الغربية، والثالث هو غزة التي تعدّ المنطقة الأكثر كثافة سكانية.

منذ ذلك الوقت 1967 على إثر ما سمّي نكسة حزيران، منذ ذلك التاريخ بقيت غزة مشكلة للسلطة المصرية من جهة، ومشكلة لإسرائيل وجيشها، قبل أن ينسحب منها، قبل ثمانية عشر عاماً، عندما أخلى الجيش الإسرائيلي مستوطناته المنتشرة فيها، وانسحب منها عام 2005، بعد 38 عاماً من احتلالها. كانت إسرائيل تنسحب من أول منطقة تحتلها من فلسطين. لم يسبق لإسرائيل أن انسحبت من منطقة ما من فلسطين. عرض ضمّ غزة لمصر السادات، من قبل إسرائيل وأمريكا، وتم رفض الاقتراح، من قبل السادات على إثر اتفاقيات كامب ديفيد 1978، بين مصر السادات، وإسرائيل، حيث انسحبت إسرائيل بعدها من كامل الأراضي المصرية التي كانت قد احتلتها عام 1967. صحيح أن الجيش الإسرائيلي انسحب من غزة، لكنه أبقى على إمدادات الحياة، من كهرباء، وماء وغاز، وطرق، ومعابر إلى غزة تحت سيطرته. يقطعها ويتحكم بها لحظة يشاء، كان آخر المطاف تحويل غزة إلى سجن عسكري حقيقي، بعد بناء ما سمّي بالجدار العازل.

خلال 18 عاماً كان الجيش الإسرائيلي يعتدي على أهل غزة، كلما قامت إحدى الفصائل الفلسطينية بعملية ما. يدفع الأهالي ثمناً من جنون القصف الحربي الإسرائيلي، دون مراعاة لأبسط قواعد الحروب في تحييد المدنيين، حيث شنّت إسرائيل ثلاث حروب تدميرية على غزة، قبل هذه الحرب الدائرة الآن. في كل حرب يُقتل ويُجرح فيها مدنيون بالآلاف، وتُدمر بيوت يلجأ أصحابها للمخيمات المنتشرة في غزة.

حضور إيران في غزة

 للأمم المتحدة ومؤسساتها تاريخ في غزة، بعد انسحاب إسرائيل، هذا على إثر اتفاقيات أوسلو طبعاً، جرت معارك طاحنة عام 2007 بين حركتي فتح التي تمثل السلطة الفلسطينية، وبين حركة حماس، للسيطرة على غزة، ومنذ ذلك الوقت خرجت السلطة الفلسطينية، وبقيت السيطرة الكاملة، داخل غزة لحركة حماس، ومعها منظمة الجهاد الإسلامي، رغم صغرها التي تأسست وعملت كحزب الله، تحت راية ولاية الفقيه الإيراني. حركة حماس منذ تلك السيطرة الكاملة لها على غزة بدأت بالاتجاه نحو إيران، لتكون الداعم الأول لها من جهة، بالتوافق مع الدعم القطري المستمر، حتى اللحظة. منذ أن استتبّ الأمر لإيران كطرف يحكم غزة، وفقاً لنسبة قوته فيها، حتى وصلنا إلى لحظة فارقة هي أن إيران باتت الطرف الأكثر حضوراً في غزة، خاصة بعد تصنيف منظمة حماس كمنظمة إرهابية. هذا التصنيف الذي تم أمريكياً عام 1997، حتى قبل أن تنسحب إسرائيل من غزة بثماني سنوات.

 منذ عام 2007، وحماس تحاول إرساء معالم دولة مؤقتة، أو دائمة، حيث لا تواصل مع السلطة الفلسطينية في رام الله، ولا محاولات جادة من أجل وحدة المنطقتين في دولة، وهذا ما تريده إسرائيل بالضبط. بات لدينا ثلاث مناطق تحيط بإسرائيل تتبع منهج اللاحرب، واللاسلم الذي طبقه الأسد، منذ اتفاقيات الفصل عام 1974 إثر حرب تشرين. الأسدية في سورية، وحزب الله في لبنان بعد عام 2006، وحركة حماس منذ عام 2009، حيث كانت هنالك حرب طاحنة، قامت إسرائيل بشن هذه الحرب، وقتلت مَن قتلت من سكان غزة، ودمرت ما دمرته. لكن يبقى الوضع في غزة مختلفاً عن الوضع في لبنان حزب الله، وعن الوضع مع سورية الأسد. هذه العمليات التي تقوم بها حماس، وبعض فصائل المقاومة انطلاقاً من غزة، الغاية منها تحريك هذا الوضع الحصاري المستمر إلى حيث لا أفق. سورية ولبنان غير محاصرتين، من قبل إسرائيل بعكس غزة. غزة حولتها إسرائيل إلى سجن يشبه السجون النازية، وربما إلى أكبر سجن بالتاريخ البشري، حيث تسجن إسرائيل فيها أكثر من مليوني مواطن، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار سوء العلاقة بين حماس، والسلطة المصرية وتقلباتها.

مشاريع تقوية المقاومة

التصنيف الأمريكي أولاً والأوروبي ثانياً لحماس، بوصفها منظمة إرهابية، جعل حماس ترتهن أكثر، ومعها بقية الفصائل لإيران، إيران التي تمول بعض المشاريع هناك، مشاريع ما يسمّى تقوية المقاومة!! ضمن هذا الفضاء أتت عملية حماس الأخيرة 7 تشرين الأول 2023. هذه العملية التي أدت إلى هذه الحرب القائمة الآن، والتي حصدت من سكان القطاع، وهذا ما قامت به إسرائيل،  بقصف مشفى المعمداني، وذهب ضحية هذا القصف 500 مدني، إضافة إلى الجرحى، وتدمير المشفى. “إجمالي ضحايا العدوان الإسرائيلي، منذ بدء العدوان على غزة يرتفع إلى أكثر من 8000 منهم 3300 طفل، و2000 امرأة تقريباً، إضافة لإصابة أكثر من 30000” معظمهم من المدنيين، ولايزال العدوان مستمراً، إضافة إلى تدمير هائل في البنى التحتية الضعيفة أصلاً، وتشريد أكثر من مليون نازح إلى جنوب القطاع.

هل العملية الضخمة التي قامت بها حماس، وأدت إلى مقتل أكثر من ألف إسرائيلي، واحتجاز 222 رهينة من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين هي التي أدت إلى هذه الحرب المجرمة؟ أم إن الاستيطان الإسرائيلي بوصفه استعماراً خاصاً بُني على سياسة اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، ومنعهم من إقامة أي كيان سياسي خاص بهم؟ الحكومة الإسرائيلية، ومعها أمريكا تحاول جعل قضية احتجاز الرهائن عنواناً رئيسياً، دون المرور على أن هنالك سجناً كبيراً تعيش فيه غزة منذ 15 عاماً تقريباً.

بداية أزعم أن الغاية الآن ليس تحرير الرهائن، بل الغاية هي تقسيم غزة إلى شمال تريده إسرائيل منطقة أمنية، لا أحد يعرف عمقها داخل القطاع، ومن جهة أخرى هذه المنطقة الأمنية ستكون على حساب أهل غزة، لأنها منطقة زراعية خصبة تعتمد عليها غزة. هذا التقسيم الأمني لغزة يجعل القطاع مخيماً وسجناً، لكن بمساحة أصغر، لأن هذه المنطقة يراد تهجير سكانها لجنوب قطاع غزة، أو إلى سيناء.

ولا أعرف في الحقيقة إن كان من اقتلعته الهمجية الإسرائيلية من بيته في غزة سيعود إليه، خاصة من دُمرت منازلهم بقصف الإبادة. إنهم بحدود المليون نازح داخل غزة، ويجري التعتيم على القضية، لحساب قضية الرهائن عند أمريكا وإسرائيل، ولحساب قضية الأقصى عند حماس وربعها، إنها قضية فلسطين وشعبها، بصفتها الرمزية الوحيدة التي يجب أن يُهتف لأجلها، وليست قضية الأقصى!!! والأقصى كأي أثر حضاري في فلسطين، وما أكثرها من آثار، رغم رمزية الأقصى بالنسبة للمسلمين، لكن القصة قصة شعب فلسطين!


الموقف من حماس

 حماس، منذ تحولت إلى دويلة صغيرة تعتمد على دعم إيراني وقطري، وهي لم تعد مقاومة، بل فصيل أمر واقع عسكري، حصل على هذه الدويلة بفعل القوة، ضد حركة فتح، بوصفها تمثل السلطة التي أنتجها اتفاق أوسلو المخيب لآمال الفلسطينيين الذين يحلمون بدولة كبقية شعوب الأرض. هذا الفصيل له حسابات الدويلة، وحسابات داعميه بالدرجة الأولى، وتأتي لاحقاً قضية الشعب الفلسطيني. حتى مجرّد اسم العملية طوفان الأقصى، هو اسم لا يرمز لفلسطين، بل يرمز إلى بُعد ديني إسلامي، يغيب فيه حضور الشعب الفلسطيني. إدانة حماس لا يتمّ بناء على العملية العسكرية التفاوضية التي تمّت، وسمّيت طوفان الأقصى، بل تُدان حماس، منذ تأسيس دويلتها على الشاكلة الإيرانية. هذه الإدانة، أو عدمها لا علاقة لها، بما قامت به إسرائيل سابقاً، وتقوم به حالياً من جريمة.

العدوان الإسرائيلي الذي يتم الآن على غزة يدخل أيضاً في قنوات التفاوض الإقليمية والدولية. أمريكا، إيران، إسرائيل، إيران، مصر أيضاً، باعتبارها خياراً مطروحاً، لاستقبال نازحي غزة، وهذا ما رفضته مصر. إيران استطاعت أن تكون لاعباً فاعلاً في غزة، على غرار لبنان. لم تدخل إيران منطقة، إلا وكان مصيرها الخراب والفشل والقتل.

 هذا الاشتباك التفاوضي يترافق مع حملة غربية متكاذبة، لدعم إسرائيل في عدوانها. وسيدفع أهل غزة المزيد من الدمار والتشريد، والمزيد من إدارة حماس السيئة لقطاع غزة. لا شيء في الأفق غير ذلك للأسف.


_________________________________________

من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى