أرشيف المجلة الشهرية

حيونة الإنسان "الكتاب الذي لا يمل السوريون من قراءته في ظل حكم الأسد! "

“إن الذي حَوَّلَ الوحوش الضارية إلى مخلوقات مُسَلِّيَةٍ في السيرك، وجعل الفيلة تقف على رؤوسها، والأسود تقفز كالبهلوانات، قد اكتشف أنه يستطيع أن يجري التحويل نفسه على الإنسان، فحوله إلى مخلوق مسلوب الإرادة”..

رغم صدوره في العام 2003 للكاتب والشاعر الكبير ممدوح عدوان رحمه الله، إلا أن القدر والصدفة شاءتا بألا تقع عيني على ذلك الكتاب إلا مؤخراً، وقد شدني عنوان الكتاب المذهل كإشارة لتعبير دقيق يناسب ويوّصف سمة وحالة، أصبحت تعصف بإنسان هذا العصر الذي نعيشه أكثر من أي عصر أخر وربما قد تكرر ذلك لقرون دون إدراك منا وذلك ما عبرت عنه كلمة الطبعة العاشرة لهذا الكتاب الذي عنوانه (حيونة الإنسان).

طقوس الدولة القمعية

رغم انشغالي الشديد بإتمام روايتي الجديدة التي ترتبط بشكل أو بأخر بقضية ذلك الإنسان مع تنفيذي لبعض القرارات الجديدة المصيرية كمواطن وإنسان من وطن يدعى سورية، وطن يعيش أسوء مراحل تعثره على كل الأصعدة، وخاصة إنسانية المواطن السوري، ويتأثر بذلك من يحمل تلك الهوية إن كان بداخل ذلك الوطن أو خارجه.

إن تلك الحالة التي يعيشها الإنسان السوري تحت سلطة تتحكم بمصيره وإنسانيته، تمثل نموذج مكرراً وفريداً لذلك الإنسان القابع تحت حكم مستبد ديكتاتوري فاحش الإجرام.

وكان عنوان ذلك الكتاب هو أعمق وصف لسبب ذلك وهو (حيونة الإنسان)، وحيونة من يعمل على تحوين الإنسان..

يحاول هذا الكتاب الإجابة عن سبب الوحشية والعنف اللذين يمارسهما الإنسان وكيفية نشوئهما، مما بدوره، يحوله إلى «حيوان» ويفقد بذلك كل إنسانيته ويصبح مجرد من المشاعر. ويشير الكتاب أيضاً إلى أن العيش في بيئة محاطة بالقمع والاستبداد غير مناسبة لعيش الإنسان ولنمو إنسانيته. كما أنه يتحدث عن الدولة القمعية التي تقمع الشعب بحجة القانون وتحاول السيطرة عليه بكل الوسائل.

أسلوب الباحث وعقلية الأديب

ما يميز الكتاب أيضاً هو تناول الكاتب لموضوعه بأسلوب يشبه أسلوب الباحث، إنما بعقلية الأديب ومزاجه وأسلوبه، وليس بعقلية الباحث ومنهجيته، فالكاتب لم يكن بصدد طرح نظرية أو تأييد أخرى، كما أنه ليس بصدد نقض نظرية أو تفنيدها، لهذا على القارئ أن يسوغ له عدم إيراده الدقيق لمرجعيات الاستشهادات التي أوردها في نصه هذا. وعلى كل حال، وبالعودة إلى الموضوع المطروح، فإن تصورنا للإنسان الذي يجب أن تكونه أمر ليس مستحيل التحقيق، حتى وهو صادر عن تصور أدبي أو فني، ولكن هذا التصور يجعلنا، حين نرى واقعنا الذي نعيشه، نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية، وهي خسائر متراكمة ومستمرة طالما أن عالم القمع والإذلال قائم ومستمر.

وستنتهي بنا إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه “الإنسان”، أو كان يطمح إلى أن يكون إنساناً، ومن دون أن يعني هذا بالضرورة، تغيراً في شكله. إن التغير الأكثر خطورة هو الذي يجرى في بنيته الداخلية العقلية والنفسية.
 ويقول الكاتب بأنه إذا كان الفلاسفة والمتصوفون والفنانون والمصلحون يسعون، كلٌّ على طريقته، إلى السمو بالإنسان نحو الكمال الذي خسره، أو اليوتوبيا (أو المدينة الفاضلة) التي يرسمونها، أو يتخيلونها له، فالكاتب هنا يحاول في كتابه هذا عرض عملية انحطاط وتقزيم وتشويه تعرض لها هذا الإنسان على مدى أكثر من خمسين عاماً رغم أن الكتاب صدر قبل المأساة السورية الأخيرة منذ العام 2011 ولتاريخه.

لكن قد تكون تلك الصرخة المدوية من ذلك الإنسان السوري الحر الذي صرخ في وجه جلاده بقوله:

(أنا إنسان… مالي حيوان)، إسقاط وتعبير قوي النفاذ إلى ضمائر البشرية وإلى العقلية الوحشية لذلك الجلاد. صرخ بها ذلك المواطن البسيط الحر عالياً ليحافظ على ما بقي من إنسانيته رافضا أن يتحول إلى حيوان دون حقوق أو رأي أو حرية.

فعالم القمع المنظم، منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالمٌ لا يصلح للإنسان ولا لنموّ إنسانيته، بل هو عالم يعمل على “حيونة” الإنسان (أي تحويله إلى حيوان).

فقدان الكرامة والتضامن الإنساني

إذا ما لاحظنا ما يحدث من حولنا، سنشاهد ونعي كم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا بتلك الإنسانية حتى أصبح التعود على مظاهر الإذلال المحيط بنا ولغيرنا شيئاً عادياً، وحتى أننا قد أصبحنا نتقبل ذلك العنف والتعامل غير الإنساني الذي نعامل نحن به أو يعامل به غيرنا على مرأى منا في الحياة أو حين نقرأ عنه أونراه على شاشات التلفزيون. حتى تتطور تلك الحالة تصاعدياً لنرى أننا بتنا نتجاهل، بأننا أصبحنا نحن أيضا نعامل غيرنا، من أطفالنا أو مرؤوسينا أو الذين يقعون تحت أيدينا من خصوم وأعداء، بذات الطريقة المرفوضة.

إن كل ذلك يقودنا وخاصة بعد تعودنا على رؤية مظاهر التعذيب الممارسة على المعتقل أو من بحكمه أن ذلك أمر مفروغ منه واعتيادي ليجعلنا ذلك لا نسأل بعدها السؤال الأهم ألا وهو:

هل سيستطيع ذلك الإنسان بعد الخروج من سجنه وحفلات الإذلال والتعذيب أن يعود بسهولة إلى حياته الطبيعية وأن يستأنف حياته بشكل طبيعي؟؟!

وفي عودة للواقع السوري، ذلك المثال الأقوى حالياً لعمليات تحوين الإنسان فما رأيناه خلال الإثنا عشر الماضية خاصة، والتي رأينا فيها كل صنوف التعذيب وعمليات الإذلال الممنهجة على ذلك الإنسان السوري، الذي ربما لو أن الكاتب مازال حياً، ورأى صمود ذلك الإنسان لأضاف فصولاً جديدة ونظريات عدة.

وإن كنا كذلك قد طرحنا سورية كمثال على تلك الممارسات السافرة التي تعمل على تحوين الإنسان… فقد يكون هناك سورية كثيرة هنا وهناك من حولنا ليجعلنا ذلك في حالة هلع من أن تصاب أمة كبيرة بداء حيونة الإنسان… أو تحوين

لكن لكل وجه نقيضه فربما في حالة مثل حالة الإنسان السوري حالياً وصموده سيبقى صدى صوت ذلك الثائر الذي صرخ: (أنا إنسان… مالي حيوان)

يحرك فينا الأمل بقوة معنى كلمة إنسان والتي تتفاعل مع صرخة حرة من الحية فينا دوماً الثائرة مي سكاف بكلماتها الأخيرة:

 (اعملوا شيئاً … اعملوا شيئاً… فهذه سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد)

* فادي أوطه باشي: كاتب روائي دمشقي، ومحاضر في التنمية المجتمعية

زر الذهاب إلى الأعلى