عن طرابلس وأرواد وذكريات الطفولة
د. أحمد عسيلي – العربي القديم
في إحدى الليالي الهادئة التي كنا نعيشها في جزيرة أرواد، أواخر الثمانينات، (أو ربما منتصفها، فأنا فعلا لم أعد أذكر)، سمعنا صوت طرق عنيف على الباب، بطبيعة الحال لم أقم من فراشي لأعرف من الطارق، باعتباري كنت الطفل الأصغر الذي لا تلقى عليه أي مسؤولية، لكن فجأة سمعت صوت أناس وضجيج في صالون بيتنا، خرجت لأشاهد عدداً من الغرباء الذين لم يكن قد رأيتهم سابقاً، يتحدثون بكلمات غريبة، ولهجة تشبه لهجتنا، لكنها ليست هي، وحين سألت أمي، عم يحدث، أخبرتني أن خالي وعائلته، وبعض الجيران من مدينة طرابلس، قد أتوا لزيارتنا عدة أيام بسبب الحرب الأهلية هناك.
لم أكن قد سمعت سابقاً عن هذه الحرب، ولم أفهم الكلام أصلاً، فبالنسبة لي، حرب كانت تعني قتالاً، وأعداء ودماراً، هذا ما يقوله لي أخي، عندما يروي لي قصصاً، يقول إنها حدثت منذ زمن بعيد، لكن الأهل تعني المحبة، والزيارات، واللعب سوياً، فكيف يمكن أن تجتمع هاتان الكلمتان معاً؟
لا أذكر كم بقوا من أيام، ولا كيف رحلوا، لا أحمل من ذاكرتي عن هؤلاء الضيوف الطرابلسيين سوى أنها المرة الأولى التي أرى فيها خالي، وكنت أعلم سابقاً، أن لي خالاً في طرابلس. لم أكن حالة فريدة في أرواد، فالكثيرون لهم أقارب (هناك في طرابلس)، ولا أعلم ما السر، أننا لم نكن نزورهم، بل تتابعت الزيارات، لكن من طرف واحد (أو على الأقل هكذا أذكر).
باستثناء هذه الذكرى عن الحرب الأهلية، لطالما كانت طرابلس حاضرة وبقوة في المجتمع الأروادي، ففي جزيرتنا بعض الطرابلسيين الذين يسكنون معنا منذ فترات طويلة، وهناك الكثير من الأرواديين الذين يسكنون هناك، يذهبون ويعودون أحياناً في اليوم نفسه.
ورغم تشوش كلمة الحرب الأهلية، فقد كانت طرابلس مدينة الخبز، والشوكولا وفناجين القهوة وجهاز العروس، نعم هي كل ذلك، بل والأغرب لدي، كانت المدينة التي تشرب الشاي بدون شاي، بل فقط تغلي المياه وتضع فيها ظرفاً ما، يتحول لون الماء بعدها إلى الأحمر، وهو بطعم الشاي. كان لهذا الظرف اسم غريب، ليبتون، لم يكن متوفراً في سوريا ، فقد كان لدينا فقط الشاي الذي نشتريه من المؤسسة الاستهلاكية، ولم يكن هناك ليبتون في تلك المؤسسة، فالليبتون شيء يأتينا به أحد تجار التهريب من طرابلس.
كنت أرى على التلفزيونات اللبنانية دعايات له جداً مثيرة، عن أناس بمطاعم فاخرة، يلبسون ثياباً لا تشبهنا، ويضحكون بأسلوب غريب، وهم يشربون محلول الظرف هذا.
كان الكثير من أهالي أرواد رجالاً ونساء، يذهبون يومياً إلى طرابلس، ليشتروا شوكولا بطعم غريب اسمها الليون بار، كرانش، تويكس، وهذا الأخير كان فيه قطعتان من الشوكولا في كيس واحد، لذيذ جداً، لكنه غالٍ بشكل رهيب، فقد كان سعر الكرانش ٢٥ ليرة، في وقت كنا نشتري بسكوت غراوي أو راحة الحلقوم ب٣ لـ ٥ ليرات على الأكثر، أما النساء، فتبيع فناجين القهوة وجهاز العروس الذي اشترته من طرابلس، أو عن العريضة أو بعبد.
و بسبب هذه التصورات، كنت أتخيل هذه المدينة، وكأنها جنة للأطفال، فيها الكثير من الشوكولا، والألعاب. كنت أعتقد أن جميع مقاهيهم، كما كنت أراها في إعلانات التلفزيون عن شاي ليبتون، وليست كمقاهينا التي كانت فقط للرجال، الذين يشربون فيها الاراكيل، والدخان والشاي (الفلش)، أما هناك فالقهاوي للنساء أيضاً.
زرت طرابلس، أعتقد للمرة الأولى في حياتي أوائل التسعينات، حين انتهت الحرب، وبدأت الأمور تصبح مستقرة، طبعاً لم أكن مدركاً لكل هذا، وإنما أردد كلمات مثل “الأمور غير مستقرة”، و”الحرب الأهلية ما زالت مستمرة”، دون أي فهم لمعاني هذه الكلمات، كلمات اقولها، بفخر كمن يعرف بواطن الأمور التي لا يدركها الأطفال من سني، فأنا وحدي الكبير الذي يفهم في أمور الكبار.
زرت هذه المدينة أخيراً، بعد سنوات وسنوات من تشكيل صور لها في مخيلتي، كما نقلتها برامج التلفزيون، وكم كنت متحمساً لرؤية عوالمها وبشرها ومقاهيها
لا أذكر سبب الزيارة تحديداً، ربما مرض خالي ، أو خطوبة أو عرس أحد أبنائه، لا أذكر ، لكني ذهبت وكلي حماس لزيارة هذه المدينة اليوتوبيا بالنسبة لي كطفل. عبرنا الحدود بشكل عادي، لم يكن معي جواز سفر أصلاً، توقفت السيارة قليلاً مرتين، لم أستوعب لماذا، وحتى عندما سألت، قالوا لي إننا نعبر الحدود، لم أفهم ماذا تعني كلمة عبور الحدود، فنحن ذاهبون لزيارة العائلة في طرابلس، ماذا تعني الحدود هذه ؟
المهم وصلت طرابلس هذه، ففوجئت أنها مدينة تكاد تتطابق مع طرطوس تماماً، لا شيء مما تخيلته عنها، وخاصة أن خالي كان يسكن في منطقة المينا، الناس هم هم، القهاوي ليست كما كنت أراها في إعلانات ليبتون، بل هي مقاهٍ، مثل مقاهي أرواد تماماً، بل إن الرجال يعملون في المقاهي على رتق شباك البحر الممزقة، بحركات تتطابق مع حركات رجال أرواد، ويدخنون الأركيلة مثل رجال أرواد، لا فرق أبداً، النساء محجبات ويلبسون الأسود تماماً، مثل نساء أرواد، فأين النساء كما كنت أراهن في التلفزيون؟
لكن الصدمة الأكبر، كانت في حديث الكبار، يتحدثون عن الحكومة والرئيس بشكل عادي جداً، هذه الأحاديث كانت باعتقادي من المحرمات، لا يجوز لنا أبداً الحديث بها ، فكيف للناس هنا أن تسخر أحياناً من رئيس الجمهورية، هل ممكن الكلام عن الرئيس، دون أن يكون مسبوقاً بسيادة أو بالرفيق المناضل. كانت الشوارع ممتلئة بصور لعدد كبير من الرجال، بينما شوارعنا فيها صور حافظ الأسد فقط، لم أفهم الكثير مما كان يقال، لكن واضح أن هنا الناس تتحدث كثيراً في أمور محرمة، سوى ذلك لا شيء يختلف عن أرواد، حتى عادة شرب القهوة صباحاً هي نفسها، قراءة النسوة للطالع في فناجين القهوة تماماً، كما يحدث في أرواد، مناقيش الزعتر والجبنة، المحلات الصغيرة والمتواضعة، بل إن خالي كان لديه بقالية، تشبه تماماً بقالية خالي الآخر في أرواد، ربما فيها بعض المواد الأكثر تنوعاً، لكن حتى تلك المواد (المصنوعة برا)، كانت موجودة لدينا (تهريب)، كما كنت أسمع من الكبار، الخلاف الوحيد الذي كنت أندهش له (وما زلت)، هو سندويش الكنافة التي يقوم بتقديمها بعض المطاعم، لم أكن أفهم (ولا إلى الآن أصلاً)، كيف يمكن أن تتحول الكنافة إلى سندويش.
زرت شارع عزمي، هذا الشارع الذي كان تتحدث عنه النساء، وكأنه قطعة من الجنة، هو فعلاً شارع فخم، وفيه محلات كبيرة، بل إن بعض تلك المحلات كان مكوناً من عدة طوابق، (لم أكن أعرف وقتها كلمة مركز تجاري أو مول)، لكن الأناس هم هم.
زرت بعدها طرابلس كثيراً، أعرف الكثير من شوارعها وأحيائها، وتوجهات سكانها السياسية والحزبية. تعودت على صور رشيد كرامي والحريري، ومشايخ سلفية كثر، وجماعات مختلفة دينية ولا دينية. زرتها كثيراً عبر سنوات عمري، لكن لم أشعر يوماً بأي فرق بين أناسها وأناس أرواد، الاختلاف الوحيد هي جزئيات بسيطة في طبيعة الأحاديث، نتيجة اختلاف الأنظمة السياسية، لكن العقلية وطريقة التفكير والعيش، هي نفسها في أرواد وفي طرابلس. فعلاً تقسيم تلك البلاد كانت من أكثر أحداث التاريخ تفاهة وسخفاً، فأهالي طرابلس، (بل وكل لبنان)، هم نحن، ونحن امتداد طبيعي لهم. لا أحب أجواء سوا ربينا، وأحاديث الشعب الواحد المكررة، التي جعلنا نظام الأسد نكرهها، لكني أتحدث هنا عن تجربة عشتها، وأحاسيس مررت بها بكل براءة الأطفال، وما زلت أعيشها إلى الآن.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024