حين رفعت السويداء صور رياض الترك وداست صورة سجانه
حافظ قرقوط
السويداء خارج مملكة الصمت، مدينةٌ سوريةٌ صغيرةٌ تبوح بأحلام وطنٍ كبيرٍ بصوتٍ واضحٍ لا رجفة فيه، هناك حيث ترتفع سواعد أبناء البازلت؛ لترفع عالياً صور مناضلين كرماء، فيما الأقدام تدوس صور الطغاة؛ لتكون أنصع حقيقة، لمسار نضال سخيٍّ في سبيل الانعتاق من العسف.
ولأن للمناضلين في سوريا سيرة ممهورة بالإباء والصبر، والتحدي الطويل، كان لابد للسوريين من أن يحفظوا تلك السيرة كزوّادة غنية لأجيال قادمة، فهي قناديل أنارت الدرب في حلكة ليل الاستبداد الطويل.
“ابن العم” رياض الترك، من سويداء سوريا، وعنب كرومها، ورائحة تفاحها، بل من ساحات الكرامة التي هتفت منها حناجر أبنائها للحرية، كنتَ هناك كسيرة سورية تأبى الانكسار. إنها حقيقة بعناوينها الكبيرة، حيث اعتقد الطغاة أنهم اتقنوا صناعة السجون والموت، فإذ بالسوريين يتقنون صناعة الحياة.
رحل رياض الترك، لكن سوريا التي أرادها باقية، والسوريون ماؤها وهواؤها وحنجرتها. بلا تخطيط ولا استئذان اعتبر أبناء السويداء أنهم أهل الفقيد، أحفاد الفقيد، شوارعهم كشوارع حمص، تعرف جيداً من هو “ابن العم”، كما شوارع سوريا حين تكنس غبار السنين، وتقف ترتدي ثوب الكبرياء عزيزة أنيقة، تتباهى بصور وعبارات أولئك الأباة حاملي راية الحرية.
نعم، بعد رحيل رياض الترك تكاتف أبناء ساحة الكرامة، مع رفاق دربه كأصحاب قضية واحدة، لم تفرقهم أيديولوجيا أو انتماء، إنما وحدتهم سوريّتهم، ونبل الحالة لرجل عاش نبيلاً حراً حتى في سجنه، بل في أشد اللحظات رقابة وحرجاً، حين أعلنها مدوّية على الإعلام “مات الديكتاتور” بموت حافظ الأسد. فلم تقتصر الحالة بالسويداء، على أنهم حملوا أقواله وصوره بوقفتهم تلك، إنما أقاموا له محفل وداع، وتقبّلوا به التعازي بأناقة السوريين؛ لكي تصل رسالة من نوع آخر: إن هذا الرجل الذي لم يبخل بشيء؛ لأجل سوريا يجب أن تُقام له مراسم عزاء حقيقية، على تلك الأرض التي كان وفياً لها حتى آخر نفَس في حياته.
“الاستبداد إلى زوال، قصر الزمن أم طال”، كلمات بسيطة أطلقها رياض الترك، قبل اندلاع ثورة السوريين، اختصرت قصة وطن وقع بالسجن لأكثر من نصف قرن، فالأوطان تُسجَن قبل أن يُسجَن أبناؤها، وسوريا التي دخلت السجن تألمت، كما آلام من دخل إلى سجونها من أبنائها؛ لأجل حريتها في حقبة الأسد السوداء، هي سوريا التي خرجت من دائرة الصمت؛ لتحيك تاريخها الجديد بمهارة ما عُرف عن أبنائها. هكذا أرادت السويداء لرسالتها بأن تعبر الحدود والأماكن؛ ليعرف العالم أجمع أن تلك الساحات التي اعتقد الأسد أنه طوّبها باسمه كمزرعة، لفظته كأي وباء، وأعادت الأماكن لأبنائها بتحدٍّ واضح لعيون المخابرات التي تنظر بحقد وضيق، فقد وقف “ابن العم” هناك بين الجموع، لا كذكرى لمناضل راحل، وإنما كسوري عاش في سبيل حرية تلك البلاد، حرية السوريين، يهتف معهم من خلال صوره “يسقط الاستبداد”، “يسقط الديكتاتور”؛ كي لا تبقى سوريا مملكة الصمت.ِ
________________________
من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024